الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتباهي

جوزفين كوركيس البوتاني

2018 / 6 / 20
الادب والفن


فرش كل كنوزه الغالية عليه امام زائريه الغرباء الغير آبهين بها وبه. صفف أسلحته القديمة والجديدة بجانب بعضها، ثم جاء بمشجب حديدي صغير صدأ ودائري الشكل. كانت أحد قوائمه مكسورة، فسنده وعلق عليه كل نياشينه وأوسمته التي حاز عليها من قادته في الجيش، وذلك لشهامته وشجاعته. لقد لقب حينذاك ب "البطل الصنديد". سألهم أكثر من مرة عن معنى كلمة "صنديد"، وكلٌ فسرها له بطريقة مختلفة، غير إنهم في النهاية اتفقوا على إنه بطل. وبعد سنين طويلة وبعد خوض معارك كثيرة، تأكد له بأن قادة كل الحروب فاسدين. تذكر بإستمرار كيف كانوا يسطلون رؤوس الجنود بالشعارات يوهمونهم بأنهم يقاتلون من أجل الحق. وأما هو، كباقي أقرانه، كل ظنه كان بأنه يقاتل من أجل الحق الذي سمع عنه ولم يراه قط.

وكان هو بدوره يسطل رأس زوجته الكتومة الصبورة بشعاراته الذكورية مثل: "أطمئني! تحملي يا امرأة! سنربح المعركة هذه المرة والحق حبيب الله!" و"نحن أصحاب الحق! أصحاب القضية والقضايا لا تحل إلا برأس حربة." كانت تصغ متعجبة من أين له كل هذه الكلمات وهو الذي بالكاد يقرأ ويكتب ولا يفهم سوى بحراثة ارضه وإدارة بيته. كانت تصلي بصوت مكتوم بأن يصون الله زوجها وأبناءها الثلاثة وجارها الذي فقد مؤخراً. وبأن يعّم السلام في وطنها ويعود كل غائب إلى أهله.

واليوم، وبعد كل هذه الهزائم وهذه المهازل، هاهي تصلي بوجع. تصلي بحرقة من أجل أبناءها الفارين من أتون هذه الحروب وعواقبها التي هدت وهدمت وشردت الملايين. فروا بعد أن طفح الكيل. هربوا من البيت الذي لم يعد آمناً. هربوا من حضنها الذي لم يعد دافئاً. هربوا من الوطن الذي عجز عن أحتواءهم. هربوا من هذه المعارك التي تحولت بمرور الوقت إلى مطاحن أهلية. ركبوا البحر مع عوائلهم وهربوا بأحفادها الثلاثة - أصغرهم تسعة أشهر وأكبرهم سبع سنوات وستة أشهر. ركبوا عوامات قديمة مثقوبة متحدين البحر والقدر والمهربين المخضرمين الذين يتعمدون بنقل المهاجرين بمراكب متهالكة مثقوبة، وذلك بغية إغراقهم وسرقة أموالهم. قلة من يحالفهم الحظ ويصلون إلى بر الأمان، وبعد أن يكون المهرب قد أخذ منهم كل شيء. أحياناً البحر يرحم، فتراه يمنح فرصة عابرة لا تعوض، بعد أن يكون قد أنهكهم وأتلف كل أوراقهم الشخصية. لذا تراها طيلة الوقت تفكر بأبنائها. تتابع الأخبار عن أخبار الغرقى بأستمرار وبهلع - تدقق باحثة في الوجوه لعلها تجد احداً يشبه أحد أبناءها الذين إنقطعت أخبارهم منذ رحيلهم. فهي لم تعد تصدق كلمة واحدة مما يقوله زوجها. لم تعد تؤمن بأن الوطن نعمة وأن ما تمر به غمة وستزول كما كانت تعتقد. الوحشة ستقضي عليها وعلى زوجها الذي يتستر بقصصه المضحكة ليداري بها خيبته وخوفه الذي يلازمه منذ أختفاء أبناءه. لقد أفرغوا البيت الذي كان يعج بأصوات أحفاده وامتلئ القلب بالغم عندما قرروا الذهاب بعيداً. لقد أنهكهم الأنتظارولكم تؤلمه سماع كلمة "مفقودين".

كما أنه لم يعد يؤمن بأن التغيير قادم والأوضاع ستتغير نحو الأفضل رويداً رويداً، وبأن الأمان سيعم كما كان في السابق. لقد أنهكته الوعود الكاذبة. وفقدانه لأبناءه الثلاثة وعوائلهم لطمه على خده الأيمن وها هو يلطمه على خده الأيسر. لم يعد لهم سوى أمل ضئيل ووقت ضيق بالكاد يكفي لضم ابناءهم، هذا طبعاً إذا عادوا أو سمعوا خبراً يثلج القلب عنهم. هو يستمد كل قوته من عناده وزوجته مكسورة بأنتظارالقادم الأجمل، ولكن عبثاً.

**
بدأ يشرح لضيوفه الغير مرحب بهم ويقص عليهم قصص بطولاته، وهم صامتون يهزون رؤوسهم بإستخفاف وكأنهم يهزؤن به او كأنهم يقولون له "كل هذه الإنتصارات لم تمنعنا من الدخول الى بيتكم المحصن كما تراءى لكم!" هو يمتدح نفسه وهم يغالون بأعجاب مفتعل. يعيد ما يقوله أكثر من مرة بأن سلاحه كان يصوبه نحو العدو دائماً. عدو لا يعرفه. عدو لم يره ولا يعرف إن كان حقاً عدواً. وبعد قتال دام سنين طويلة وبعد نكبات كثيرة وخيبات لا تحصى، إكتشف انه عدو نفسه بالدرجة الأولى، وهذا الأكتشاف المتأخر لم ينفعه بشيء. صدر زوجته الطيبة لايزال مزرّقاً من شدة ما كانت تلطم عليه وهو يقاتل في مكان ما. كانت تخاف من أن يتيتم أبنائها مبكراً.

كانت تقول لأبناءها: "عليكم ان تتباهوا بأبيكم!" إلى ان اكتشفت بأن الحرب بدعة ولا تسرق سوى أبناء الفقراء. حينها تراجعت عن رأيها وأخذت تردد عليهم:
"عليكم أن تخجلوا من أبيكم المدعو "البطل ومنقذ الوطن" الذي سطل رؤوسنا بقصصه الكاذبة! وبعد خيبات كثيرة، أعترف بأنه كان على خطأ وتحول كل همه أن يبعدكم عن البلاد كي لا تطالكم يد القادة الذين يرسلون أبناء الوطن إلى حتفهم وبمحض إرادتهم بأسم الوطن. لذا عندما أدركت هناك رعب قادم من بعيد قررنا أرسالكم إلى البلاد البعيدة وبأية طريقة. وأفضل أن تموتوا غرقى على أن تموتوا مغفلين أو تمضوا باقي العمر معوقين. آه يا فلذات كبدي أين أنتم الآن؟"

وأنحدرت دمعة محبوسة. دمعة الخوف من القادم. دمعة أم تعيش على أمل وعلى صبر أيوب. أخسرتها النكبات التي لا تعد ولا تحصى. وهاهي توزع الشاي المهيل على ضيوف لا تعرفهم. وكم تمنت لو تصرخ في وجوههم الحالكة وتقول لهم: "أنتم يا من تشربون الشاي في بيتي! يا أيها القادمون من بعيد! دعوني أخبركم بأني حزينة وخجلة من نفسي، لأننا بعثرنا أبنائنا ورحبنا بكم. لا أعرف إن كان طيش وطن أم طيش زوار لطفاء يصغون لأكاذيب زوجي المكسور بفضول، كمن يصغي إلى مجنون يجيد الغناء. وتتظاهرون بأنكم صدقتموه والغريب لا أنتم تسألون عن أبنائي ولا أنا أحدثكم عن هروبهم. يقطع زوجها ثرثرتها المكتومة بصراخه على الضيوف الكرام قائلا:

"أحد منكم لم يسألني سؤال وجيه أو عن عدد مشاركاتي في الحروب، وغيرها من الأسئلة. وكأنكم تتعاملون مع مخبول لا أكثر. لملم أشياءه الصدئة كما يلم الطفل المشاكس ألعابه فجأة بعد أن رفض أبن جاره أن يشاركه اللعب . لملم كنوزه وأعادها إلى صندوقه الخشبي متجاهلاً ضيوفه الذين لم يعيروه أي أهتمام. كانوا منشغلين بمتابعة الأخبار وشرب شاي المهيل بوجوه مبتسمة شاكرين الزوجة الصالحة على شايها اللذيذ. صرخ في وجه زوجته كأنه يؤكد للضيوف بأنه سيد المنزل، رغم تجاهلهم له ولحرمة بيته. "تعالي وساعديني في حمل الصندوق لنعيده إلى مكانه، وبعد أن يكملوا شايهم، قوديهم إلى الباب وأغلقي الباب خلفهم. هل سمعت أم أكرر؟ ولا تنسي إغلاق الباب بالمزلاج وبإحكام. وأغلقي جميع النوافذ عدا نافذة المطبخ - دعيها مفتوحة. من خلالها سنراقب العالم الخارجي والمارة، وإياك أن تفتحي الباب بعد الآن لأيٍ كان، بإستثاء الأبناء، إن عادوا سالمين أو ملفوفين ببقايا خرق. وأتركي ضوءاً امام عتبة البيت لكي يطمئنوا بأننا بخير والبيت لا زال بيتنا."

ورحل الضيوف السيئين وأمل عودة الأبناء في صدره يلازمه، وإن كان الأمل بحجم حبة السمسم. وأُغلقَ الباب وأُغلِقَت كل النوافذ وأُسدِلَت الستائر. ومن يومها وهم يحتسون الشاي عند النافذة منتظرين خبراً من أبناءهم، ولكن عبثاً تمضي الأعوام وتمضي المواسم والوحشة تصبح الضيف الذي لا يغادرهم. ويخيم الحزن على المكان وهم بإنتظار أي علامة تثلج صدورهم أو أي عابر يمر وإن مر عن طريق خطأ ولكن دون جدوى. لم يمر سوى أسراب وأسراب من الطيور المهاجرة، وأصوات أقدام المهربين وهم يقودون الفارين من أتون الحروب ومن حكام فاسدين إلى حتفهم إلى العالم المجهول. ورائحة الهال ظلت تزكم أنوفهم من بعيد، ولكن دون أن يجرؤ أحد من طرق الباب المغلق. وأما الأبناء فانقطعت أخبارهم كما انقطعوا والديهم عن العالم مكتفين بشرب الشاي ومتابعة الأخبار المخيفة المبكية عسى ولعل أن يجدوا خيطاً او أسم أحد من الأبناء يردده المذيع البشوش ولكن عبثاً ... عبثاً ...









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع