الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إقطاعية مصر

أحمد بدوي

2018 / 6 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


يعد النموذج المصري واحدا من أبشع نماذج الاستغلال الرأسمالي في ظل الغياب التام لدور الدولة الخدمي والأساسي في معظم المجالات. فيعتمد المصريون في حياتهم اليومية غالبا على الخدمات الخاصة لتعويض هذا الدور الغائب للدولة، وهو أيضا ما يترتب عليه معاناة المصريين الكبيرة والتشوه الاجتماعي الكبير الحادث.

لو نظرنا مثلا لمجال الصحة، فإن معظم المصريين يعتمدون على العيادات أو المستشفيات الخاصة كبديل عن ذلك الخواء القاتل المسمي مستشفيات حكومية. يجدر هنا الإشارة أن خريجي الكليات الطبية هم الوحيدون من بين بقية الكليات المدنية (غير الأمنية- شرطة وكليات عسكرية) الذين تتكفل الدولة بتوظيفهم المهني، وهذا يفسر أيضا صراع معظم فئات الطبقة الوسطى والفقيرة للالتحاق بها - إلى جانب الكليات الأمنية - رغبة في تأمين مستقبلهم العملي والمادي. يعمل هؤلاء الأطباء بعد التخرج في مستشفيات حكومية بيروقراطية وغالبا غير مجهزة بالحد الأدنى، وفي الوقت نفسه فإنهم يفتتحون عياداتهم الخاصة التي يهرول إليها المواطنون مجبرين. يفسر هذا تفوق وبروز معظم الأطباء ماديا على معظم فئات الشعب العاملة نتيجة المكاسب التي يحقوقونها من بيع الخدمة الطبية للجمهور خارج إطار الدولة. يسوقنا هذا بالضرورة إلى فوضى العيادات الخاصة واختلاف الخبرة والكفاءة العلمية والعملية النسبي حتى أن البعض يلجأ أحياناً إلى أكثر من عيادة خاصة في المرة الواحدة أملا في التشخيص السليم والعلاج الأفضل ودرءا للخطورة والعقبات الصحية. بزنس الصحة!

في مجال التعليم، تضطر معظم فئات الطبقة الوسطى والفقيرة إلى إلحاق أطفالهم بالمدارس الحكومية المكتظة جدا بالطلاب والتي تفتقد إلى أبسط الإمكانيات الفنية ويغيب فيها تماما الاهتمام بالمهارات والأنشطة الطلابية. يعتقد معظم هؤلاء أن العملية التعليمية بهذه المدارس الحكومية غير كافية وكفيلة بتحصيل أبنائهم بالحد الأدنى للمناهج الدراسية الأساسية، والنتيجة أنهم يتكفلون بتوفير دروس خصوصية خارج المدارس الحكومية لأبنائهم. يبيع هنا المدرس خدمة التعليم الخاص التي يضطر المواطنون إليها خارج إطار الدولة، وبالمثل تتفاوت كفاءة وخبرة المدرسين وما يعنيه ذلك من تفاوت حظوظهم من الربح والتفوق المادي واستغلال المجتمع. أما بالنسبة للقادرين ماديا والطبقة الغنية، فيلجأون إلى المدارس والجامعات الخاصة. المحصلة النهائية هي مجتمع مشوه غير متجانس وهجين وطبقي. بزنس التعليم!

في مجال النقل والمواصلات، يدرك المصريون جيدا مهلكة الاعتماد على وسائل النقل العامة من أتوبيسات وقطارات متهالكة وغير منضبطة وغير متوفرة بما يضمن راحتهم وأمنهم. فيلجأ الكثيرون إلى البديل الخاص، وهو إما سيارت خاصة يملكونها أو البدائل الأخرى المتفاوتة والفوضوية جدا إلى حد كبير، وهي بدائل لا ترفع المعاناة غالبا ولكنها تمثل حالة الاضطرار والاستسلام الأخير. بزنس النقل والمواصلات!

في مجال العمران السكني والإسكان، يلجأ معظم المصريين إلى الحلول الخاصة أو الرأسمالية وبعيدا عن الدولة التي لا تتحمل مسؤوليتها بالشكل اللائق. ينتج عن ذلك تشوها عمرانيا وجماليا كبيرين جدا بسبب اختلاف القدرة المادية بين المواطنين الفاعلين وحالة اضطرارهم خاصة في المناطق الفقيرة. لو نظرنا مثلا إلى الأرياف المصرية، ثمة مشكلة متزايدة وهي امتداد البنيان العمراني على حساب الرقعة الزراعية حيث يقوم الأهالي فيما بينهم ببيع وشراء الأراضي الخاصة، وبالضرورة فإن سعر مساحات الأراضي المرخص فيها بالبناء يزيد كثيرا عن سعر مساحات الأراضي الزراعية. يقوم الأهالي بأنفسهم بعد ذلك بتخطيطات الإنشاء والبناء اعتمادا على أصحاب مشروعات مقاولات خاصة، وهم غالبا مجموعة من العمال الذين لا يملكون أي دخل ثابت ويعيشون فقط من حاصل بيع مجهودهم العضلي تحت إشراف أحد المهندسين الذي يلجأ إليه صاحب الأرض ويعمل هذا المهندس ذلك العمل الحر إلى جانب عمله الحكومي أو الخاص في معظم الأحيان. ومن الملاحظ غياب دور الدولة تماما في مثل هذه العمليات الإنشائية الحرة والعشوائية باستثناء استخراج بعض التصاريح أو دفع بعض الرسوم. المحصلة النهائية هي كارثة وفوضى عمرانية وجمالية واجتماعية. أما الإيجار السكني فحدث ولا حرج، فعلى سبيل المثال يجب ألا تصيبك الصدمة إذا فوجئت بأحد الملاك القاهريين الذي يشترط تأجير بيته فقط لغير المصريين خاصة في الأحياء القاهرية الراقية. بزنس العمران السكني والإسكان!

في مجال الرعاية والخدمات الاجتماعية، يكفي أن تجلس قليلا من الوقت لمشاهدة الإعلانات المصرية لعشرات المنظمات والجمعيات الخيرية الخاصة تطالبك بالتبرع للفقراء والمرضى وبعض الأحيان خدمات البنية التحتية الأساسية في صعيد وقرى مصر الفقيرة. ولست بحاجة للتذكير بأن هذه الرعاية الاجتماعية أو حتى الخدمية هي دور أصيل للدولة وحق أساسي للمواطنين. هذا التمادي في العمل الخيري وتغطية دور الدولة يشوبه أحيانا بعض الاستغلال السياسي أو حتى الفساد، ومن أمثلة ذلك ما تم نشره مؤخرا عن مستشفى سرطان الأطفال 57357 القائمة على التبرعات والتي أسماها الكاتب المصري وحيد حامد في مقالة حديثة منشورة له بجريدة المصري اليوم ناقدة وكاشفة لشبهات فساد– "مستشفى آل أبوالنجا" نسبة لمديرها العام. بزنس الرعاية والخدمات الاجتماعية!

أن الحديث عن الدولة المصرية يثير كثيرا من السخرية والاشمئزاز لأنها لا تعني شيئا للمواطنين غير سلطة جباية واستبداد وفساد مقابل انعدام دورها الخدمي والتنظيمي والاجتماعي بالإضافة إلى عدم عدالتها في توزيع الموارد والثروات أو حتى تطبيق القانون، وما يترتب على ذلك كله من مشاكل اجتماعية واقتصادية مركبة وخطيرة. هذه الحالة المصرية البائسة تكشف لنا عن عمق الأزمة المصرية والمعاناة التي يعيشها المصريون في حياتهم اليومية حيث يبذلون التضحيات ويتحملون الصعاب الشديدة في سبيل الحد الأدنى للحياة، وما يفرضه ذلك عليهم أحيانا من تبعات خطيرة. هي إذن إقطاعية وليست دولة مصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رؤية ركاش الأحادية
ركاش يناه ( 2018 / 6 / 23 - 20:29 )

رؤية ركاش الأحادية
_____

مصر عزبة يديرها خولى فظ و قاس ... يعلم تماما ان ثروته الحرام تتناسب فقط مع قساوته و ظلمه

حاولت ان اقرأ مقالتك و فى مخيلتى مصر و تعدادها فقط 15 مليون ... و بعد ان تكون مرت بنهضة لمدة قرن ( بعد ثورة 1919 ) ... و اهلها كلهم متعلمين ، اصحاء ، منتجين ، مسالمين ، اقوياء ، اغنياء ... فقلت فى نفسى يستحيل كتابة المقال فى تلك الحالة ، فالتعليم و الصحة و سوق العمل و مراعاة المريض و المعوق ، و حياة الرفاهية كلها تمام التمام ولا سويسرا او الدنمارك!

لكن ماحدث فى القرن الفائت هو ان حثالة البشر حكمونا و اذلونا و افقرونا و دمرونا و تركونا نتكاثر كالحشرات

فلزم ان تكتب مقالك كما هو اعلاه استاذنا

...

اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا