الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جار القردة

عذري مازغ

2018 / 7 / 6
الادب والفن


عندما عملت بوابا بجامعة خاصة بالرباط أغلب طلابها طبعا ينالون الوظائف الحكومية في المغرب، في يوم صحو من رمضان انزويت في بعض الأقسام الخلفية للتدخين، كانت أقسام تستغل عندما يكون عدد الطلاب في الجامعة بعدد المقاعد، اما في الحالات العادية جدا فرواد هذه الجامعات يقل أو يخضع لتوزيع المجال الجغرافي للجامعة بحيث تبقى بعض الأقسام فارغة تماما طوال السنة ، وكانت هذه الاقسام الفارغة تماما نصيبي في تدخين ما شئت كلما ملكتني الرغبة، فأنا بواب واملك جميع المفاتيح بما فيها مفاتيح الإدارة نفسها والمكتبة وما إلى ذلك ، كنت ادخن بطمأنينة فائقة فالمديرة تعرف تماما اني لا أصوم وبعض الأساتذة أيضا يعرفون ذلك ، بدا تفتحي مع هذه النخبة ذات يوم عندما كنت في قاعة النيت أتصفح بعض المواقع، دخل علي الأستاذ بويسليخن، (أستاذ الإقتصاد) وهو من مدينة فاس وسألني عما إذا كنت أعرف كيف ابحر في النيت فلمحت إليه بالإيجاب غير أني اخبرته أيضا باني لست متمكنا جيدا، هناك امور لا يمكنني البث فيها إضافة إلى بطئي في الترقين ، نصحني أن أستغل الفرصة ما دمت أعمل معهم كما نصحني بالقراءة ثم أخبرني بأنه برغم ان ثقافته فرنسية إلا أنه يحب قراءة الروايات العربية، ولمح إلى ما إذا كنت ارغب في استغلال فراغ الوقت في قراءة الروايات أيضا، اجبته إيجابا فوعدني بان يأتيني برواية في الغد هي لكاتب فاسي اعتقد أنه عبد الكريم غلاب ، في الصباح مدني بالرواية على أن اردها له عند انتهائي منها، وفي اليوم التالي سلمته إياها وهو لم يصدق أني قراتها، كان يلح علي أن آخذ وقتي في قراءتها وأنا كنت اطمئنه بأني قرأتها كاملة .. بدا أنه لم يصدقني لأنه أصلا لا يعرف عني شيئا غير أني وافذ من منطقة مجاورة للقرود بالاطلس المتوسط ، كان ذلك ذات مرةة حين سالني من أي جهة انا، ومع اني ذكرته بالإقليم إلا أني أخذته بالتحديد من خلال الأماكن المشهورة بمنطقتي ولما كان يعرفها أو زارها وسحرته قلت له بأني من قومها وهي منطقة اكلمام أزكزة وعيون مربيع ومن ثمة دأب يسألني كل يوم عن سحرها وجمالها ويخبرني عندما يقرأ شيئا في الصحافة عنها. بدات علاقتني جيدة بسبب الرواية ثم تطورت إلى كثير من الإحترام المتبادل ولكي يعبر لي عن تقارب أكثر من خلال الافصاح عن كنيته، قال بأنه اسم امازيغي لكن عائلته كلها تتكلم العربية ويجهل ماذا يعني اسمه العائلي بالأمازيغية، قلت له :
ــ بوجلود، ملمحا إلى معنى اسمه بالأمازيغية ، لكنه لم يفهم فرد علي
ــ لا، أنا لا أقطن ببوجلود ، أقطن بفاس الجديدة
ــ نعم، أريد القول بأن بويسليخن هي بوجلود بالعربية المغربية (صاحب الجلود، ج، جلد)
ــ يا إلهي شكرا لك، لقد شرحت لي ماذا يعني اسمي العائلي، لم أكن أعرفه، هذا رائع، هذا يعني أن انتمائي لفاس هو انتماء أصيل وربما يعني ايضا أني امازيغي (يقصد شهرة فاس في الصناعات الجلدية).
أما بخصوص شكه في قراءة الرواية فكان يسألني عن امور في الرواية ليرى ما إذا مررت بها ام لا ، لكن فاجأته عندما اخبرتها بالوقائع الجمالية والمواقف الرائعة في الرواية، فلم يعد بعدها يشك في أمر قراءتي للروايات التي كان يمدني بها .
كانت من الأمور المليحة في علاقتنا أني دائما كنت حين اخبره عن منطقتنا وقومنا كنت أردد بشكل ساخر دائما باننا جيران "القرود" بشكل أثارت حائرته بشكل كان يحاول أن يخفف عني بالقول بأنه يعشق البادية أو أنه يتمنى العيش فيها وان البدو هم اناس رائعون، لكن، في الحقيقة، كانت بالنسبة لي ، برغم انها بالفعل تحمل هذا الأمر كما لو كانت احتقارا مني للذات، كانت بالنسبة لي تحمل نوعا من تأكيد الذات، ان بالفعل هذا الذي يجاور هذه الكائنات المرحة، فأنا بالفعل كنت متأثرا جدا بتلك القردة الرائعة منذ طفولتي ومتأثر بمجالها الغابوي وبثقافتها المرحة، كانت مسالمة، دعوبة وفوق كل ذلك محتاطة لا تثق في خبثنا وكان لها كل الحق في ذلك بحيث كان، في مراة عديدة، نصادف أن إحدى السيارات قد دحست إحداها في الطريق الذي بنته فرنسا لاستغلال خشب الغابات ، ولكي أطمئن صديقي استاذ الإقتصاد أخبرته بالحكاية:
كان لجارنا "علا" (وأعتقد انه اختزال لاسم عبد الله بالأمازيغية) ابنا غادر منطقتنا مبكرا ولم يزرها إلا عندما أصبح متقاعدا من الجيش، وكان يقطن بمدينة الرباط ، وحصل ان زار منطقتنا ذات يوم بشكل كان كل الجيران يستضيفونه بالتنواب ، وحصل ان كل ما يعرفه عن قومه من جيران القرود هو ما كان دأب عليه قبل ان ينخرط في الجيش، كنا عند ذلك الزمن البدوي الجامد الذي لا حركة فيه، كان لا زال يعتقد أن أبناء المنطقة في عزلة المئة سنة لغابرييل، لم يخرجو قط إلى المدنية، وابناؤهم لم يدرسوا قط، وكانت العادة عندنا حين نلج إلى القرية أن نخلع عنا لباس التمدن ونكتفي بلباس العمل في الحقول، أن نساعد اباءنا في إنتاج حياتنا الكريمة، وكان أن اوحى ذلك، بالنسبة لإدريس العسكري الذي تحول إلى مدني رائع ويقطن بعاصمة الدولة، كأن الزمن لم يتحرك قط عندنا، مازلنا جيران قردة ، وكان حين استضفناه كما باقي الجيران، أن ترك لنا عنوانه بالرباط ورقم هاتفه مصرا على أن نزوره إذا صادف أن زرنا الرباط، كان إدرس الرائع هذا هو من احيى في دواخلي هذا الارتباط الوجودي بالقردة وكان الامر بالنسبة لي، حتى في صياغات ساخرة لا يبعدني عن هذه الحقيقة بقراءات متعددة، فبالفعل لم نظلم هذه القردة في بيئتها ، وبالفعل أيضا لم نبلغ المستوى البرجوازي لتملك وسائل النقل والدحس لهذه المخلوقات الرائعة إذا نظرنا إلى الأمر من زاويته البيئية، وإذا كان للأمر زاوية تخلف بدوي، فنحن ذلك التخلف الرائع أيضا الذي لا يضر بجيراننا المرحين، بل إن وسائل الدحس والداحسون لهذه المخلوقات الرائعة، هم الزائرون للسياحة في منطقتنا ، كانت "المدنية" هي القاتلة لهذه الكائنات ولم نكن نحن سائقي البغال الجبلية.
كانت كل هذه النمطية في دواخلي هي الحافز أن نسمي أنفسنا بجيران "القرود"، وكان الامر مثير بالفعل لصديقي الحساس جدا والرائع في نفس الوقت أستاذ الاقتصاد بجامعة بورجوازية كنت بوابا وعساسا بها .
ذات يوم ، عند إقبال الأستاذ "بويسليخن" اخبرته بأني احب ان يسمع عني نكتة "جيران القردة"، أخبرته بانها نكتة حقيقية بشكل كان متحمسا جدا لسماعها:
كنت في زيارة إلى الرباط ليتوسط لي احد الأغنياء من عائلتي وهو ايضا موظف دولة في عمل وظيفي بإحدى مؤسسات الدولة العمومية، وكان ان تذكرت زيارة جارنا القديم إدريس المتقاعد من الجيش، عند نزولي بمحطة الرباط كلمت اخي الذي يعمل بالرباط هاتفيا أخبره بوصولي، وكان ان حثني على البقاء في أحد المقاهي حتى ينتهي من عمله ليستقبلني ، وبما انه كان لي وقت شاسع للانتظار، خطرت لي فكرة ان اهاتف صديق العائلة إدريس، وبالفعل استقبلني في الهاتف وهو يردد : هل كل شيء بخير؟، كان يرددها بشكل مكرر في ما ان أؤكد له بأن الامر سليم مائة في المائة، ثم يعيد علي السؤوال:
ــ هل احد مريض ونازل في مستشفى "السويسي"
ــ لا عزيزي، حفظك الله، الكل على ما يرام
ــ صارحني لا تكذب علي!....
تأكدت ان جارنا إدريس تكرست لديه قناعة تامة هي : لا نزور الرباط إلا لإجراء عملية جراحية معقدة أو لمرض خطير والحال أنه لا يعرف تماما أنه لنا نحن ايضا اقارب بالرباط، وهو عمليا لا يعرف أن لي اخ يعمل بالرباط لأن اخي هذا ولد حين كان إدريس يشتغل بالجيش بالصحراء.
امرني إدريس أن لا أتململ من مكاني وأن آخذ بن بمقهى المحطة إلى أن يقبل علي، وانا بدوري التزمت بنصيحته
عندما أقبل علي بدأ يعيد تساؤلاته حول "اسبيطار" السويسي، طمانته بما يجب وأخبرته بأني هنا في بحث عن شغل ولم يترك لي حتى فرصة شرح الأمر ، كان يعتقد بأني لم ازر مدينة كبيرة في حياتي وأن لا تصور لدي حول المحيط ولا حتى حول الرباط، سألني من أين دخلت قافلتي واخبرته بانه عن طريق قنطرة أبي رقراق (بورقراق) وسألني عما إذا شاهدت البحر ولما أجبته بنعم أخبرني بأنه ليس كما اعتقد
ــ إنه كبير جدا ولا حد له، إنه يحيط بالأرض، حتى الرباط لن تشبع من رؤية كبرها من نافذة حافلة نقل ، إنها اكبر مما تتصور، كان إدريس ينقل إلى دهشته الاولى حول المحيط وحول مدينة كبيرة كالرباط وكان يقاطعني بشكل استسلمت لخرافاته الجميلة والمضحكة، لقد اجبرني أن أقر بأني لا أعرف شيئا إلا عن القردة في الاطلس المتوسط وكان ان ادهشني حين عرفني بابنته، سألها هل هي تعرفني فأجابته بالنفي ومن ثمة عمد ان يذكرها برمز: ــ هل تتذكرين عندما زرنا جدك بأغبال
ــ آه صحيح! أتذكر
ــ إنهم جيران جدك في القبلة!
ـــ آه ! نعم ، جيران " القرود" وتقصد انه كان لدينا قرد مستأنس بنا يعيش في غابة خاضعة لملكيتنا الخاصة كنا نبادله الإستئناس بنا لدرجة كانت كل قبيلته تزورنا حين يحصل الجفاف
حين انهيت قصتي ل"بويسليخن" أخبرني بأننا رائعون وتمنى ان يزورنا، ومن ثمة بدات حكاية التفتح، وحين اخبرته بأني لا أصوم وان رمضان مشكل حقيقي لي، كان قد اشار علي بالأقسام الفارغة.
في تلك الجامعة، في رمضان بالتحديد ، لم يكن احد من الطلبة يصوم، ربما القليل منهم، وربما الكثير من اساتذة المعهد لا يصومون ايضا إلا صديقي الأستاذ "بويسليخن" الفاسي، لكن لم يكن شخصا متزمتا، كان مثل الكولونيل الذي قدمني بوابا وعساسا بتلك الجامعة، وكانت مديرة الجامعة مسخا إنسانيا آخر، فهي سويسرية الولادة ، سويسرية التكوين ومتزوجة بناعس لدرجة كانت توميء إلي بالجنس في كثير من الاحيان باعتباري فاحل أكثر بشكل يذكرني أيضا بالقردة ، ولكن مع ذلك كانت تفرض على عمال المطعم الجامعي وخادمي الجامعة من السائقين وعمال النظافة ان ينادونها بلاللا (الأميرة) برغم ثقافتها السويسرية وعلمها الاكاديمي في مادة "الميتودولوجيا".
بعد مرور أيام من رمضان ، اكتشف بعض الطلاب والطالبات اني أدخن بالأقسام الخلفية الفارغة، وذات يوم اقتحمت الباب شرذمة منهم يقصدون التدخين، فوجئت في البداية بالفزع إلا انهم كانوا يضحكون، سالوني لماذا لا أصوم فأخبرتهم بخرافة مجاور القردة بشكلها البدوي القح من تحقير الذات، تجاذبوا بعض الحديث في ما بينهم وامضوا إلى موضوعاتهم الطبقية:
ــ ليتني لم أولد في المغرب، قالتها فتاة سمراء
ـــ صحيح! نحن نتحاور هنا كنساء الحمام
ــ تمنيت لو ولدت في باريس
ــ أو لندن !
أصبت بنوع من الهيستيريا، كنت اضحك بدون سبب، او بسبب لا يهم، سالتني إحداهن: مالذي يضحكك؟
ــ لا يربطكن بالمغرب إلا ثقافة النهب ! نهب أسركم لثروات المغرب . أجبتها
كان ذلك اول حوار يفتح شهية الفضول عند هؤلاء الطلبة او الطالبات بشكل خلق الكثير من المودة بيننا أخيرا لأتعرف على بعض أسرهم (ن)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو