الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين فراقين.. صديقى الذى لم يَعُد

سليم صفي الدين

2018 / 7 / 21
حقوق الانسان


دخلت ميدان التحرير محمولا على الأكتاف، أهتف بكل ما فِىّ من قوة: "يسقط يسقط حسنى مبارك"، وعندما وصلت لقلب الميدان جلست عند مكتب شركة سفير للسياحة أستريح وأستعد لصلاة العصر. كانت لحيتى طويلة وبنطالى قصيرا، جاء وقت الصلاة، فوقفت أمام مكتب الشركة أرفع نداء الحق (الله أكبر...)، وقتها جاء شاب ثلاثينى وتقدم للإمامة، لحيته خفيفة للغاية، يرتدى زى الأزهر، تبدو عليه السماحة. ما إن انتهى حتى تحدثت معه، فتعارفنا ونشأت بيننا صداقة فى الميدان، كان ثوريا جدا، لا يقبل بالحلول المؤقتة، ولا يعرف للسياسة طريقا؛ الرحيل هو الحل، وما نفعله هنا جهاد فى سبيل الله ضد الظلم والطغيان والفساد. لا أنسى هذه الكلمات أبدا.

جَنّ الليل، وكانت ليلة الأربعاء الأسود "موقعة الجمل" شديدة البرودة، نزل صديقى وأنا إلى جراچ التحرير، أخذنا النوم بفعل البرودة والإجهاد على سلالم الجراچ، استيقظنا على الفجر مرة لنصلى، وخلدنا للنوم بعدها، واستيقظنا مرة ثانية فى تمام الثامنة، توضأنا وصلينا الضحى، وجلسنا نقرأ القرآن ونتدبر. لكلام صديقى مفعول السحر، فهو ليس تقليديا فى تدينه، بل هو مُجدِّد بمعنى الكلمة، يفكر مرة واثنتين ليأتى بأطروحات جديدة ومفاهيم متطورة، وأسئلة مناسبة تبحث عن إجابات، كنت أنا وقتما عرفته سلفيا أقرب إلى الجهادية، وكان هو قرآنيا أقرب إلى التصوف، حدثنى كثيرا عن الحب، ولغة القرآن، وسماحة الإسلام، وكيف أنه دين لا يرفض أى دين آخر، وإنما كل الأديان جزء منه، فهو مكمِّل وليس هادما، وكنت أنا على النقيض، أرى المسيحيين كفرة، واليهود ملعونين فى الأرض، ولا سبيل للصلاح غير أن يغزو الإسلام العالم. ظل يحاول معى عبر جلسات حوار موسعة ودائمة بفعل الصداقة الحميمة التى جمعت بين نقيضين بسبب الثورة، حتى غيّر وجهتى تماما.

بينما نتحدث فى قلب الميدان فى اليوم التالى لخطاب مبارك الاستعطافى، وكان الميدان خاليا ليس ككل يوم (فلا أحد ينكر مفعول السحر لهذا الخطاب العاطفى الذى تم أداؤه بحنكة متناهية) وجدنا أعلام مصر ترفرف بكثرة وتأتى علينا من ميدان عبد المنعم رياض، قمت أنا وهو مسرعين لنستقبل الثوار الذين جاؤوا لينضموا إلينا فى مسعانا نحو التغيير، وكانت الصدمة، ما إن اقتربنا منهم حتى وجدنا صور مبارك، وهتافات تنادى بالبقاء والاستقرار.

استطاعوا الدخول لقلب الميدان بسرعة خيالية، وهدموا الكثير من الخيام التى نعتصم داخلها، لكن سرعان ما توحدنا وبدأنا فى طردهم خارج الميدان، لتدخل علينا أحصنة وجمال وبلطجية؛ وبدأت الحرب، اشتباكات دامية بكل أنواع الأسلحة البيضاء، مع طلقات نارية غير معلومة المصدر، ارتطم برأسى حجر كبير فشَجّه وفقدت الوعى جزئيا. كان صديقى بجوارى يهتف باسمى صارخا ويرج جسدى بيديه، كان مرعوبا أن أموت، حملنى على ظهره، ورغم زيه الأزهرى كان سريعا للغاية، ووصل بى للمستشفى الميدانى، أخذت حينها 10 غرز فى رأسى، وعندما فتحت عينى كان هو أول من رأيت. انتفض من الفرحة: "إنتَ كويس؟"، أجبت: "أيوه ماتقلقش، يا ريتها كانت الشهادة"، رد سريعا: "بعد الشر عنك!"، فقلت: "وهى الشهادة شر؟"، أجاب: "مانحرمش منك يا أخى، اسكت بقى".


جاء لى بطعام وشراب، أكلت وشربت، وعندما استعدت قوتى قمنا لندعم الثوار الذين يشتبكون مع أنصار مبارك! مصريون يقتل بعضهم بعضا بسبب التصنيف، لا أنسى هذه الأيام المرة، انقضى اليوم، وأصيب صديقى بتشنجات عضلية وشُجَّ رأسه مثلى تقريبا. وجاء اليوم الموعود، رحل مبارك أخيرا.. نظفنا الميدان ورحلنا فى اليوم التالى.

شاركنا معا فى كل أحداث الثورة، وكنا على درجة عالية من التفاهم، حتى كادت صداقتنا تنتهى فى مايو/أيار 2012 عندما أخبرت صديقى أننى سأذهب إلى سوريا، من أجل القتال مع المجاهدين ضد بشار الأسد! وقع الصدمة لم يكن سهلا، وصديقى المهذب فقد أدبه وانفعل علىَّ بألفاظ لم أكن أتخيلها، وقال لى "إن فعلت فهذا فِراقُ بينى وبينِك"! وبعدما هدأ ثم تقابلنا، كان حديثه يحمل النور لعقلى الثائر كالثور الهائج، وظل يؤكد لى أن ما يحدث فى سوريا تصفية حسابات دولية، ومصر تحتاج إلينا أكثر؛ الجهاد فى مصر أولى.


اقتنعت ولم أسافر، مرت الأيام سريعا، وتولى الإخوان الحكم، وقف صديقى ضدهم بكل ما أوتى من قوة، حتى إننى فى مطلع الأمر كنت رافضا لذلك، فهم أهل دين وثقة، ومع مرور الأيام تبين أن كلامه كان صحيحا، شاركنا معا فى كل التظاهرات والاعتصامات ضد الإخوان حتى رحلوا. وتوالت الأحداث سريعا، حتى جاء اليوم الذى لم يكن فى مخيلة أحد، سُجِن صديقى بتهمة ازدراء الدين الإسلامى! من يدافع ليل نهار عن الدين ويسعى لتطوير المفاهيم يُتَّهم بازدراء الدين! ومن ينقل قصصا خرافية تدعو للقتل والسلب والعنصرية عالم جليل!
مرت سنة على سجن صديقى، تحولت فيها أفكارى تماما، لم أعد أكترث للدين، إنما أعتنى بالإنسان والسياسة والفلسفة، عندما خرج كان هو الآخر تبدلت أفكاره، فأصبحت أنا فى نظره كافرا علمانيا ملحدا، وصار مقتنعا بأن شرع الله يجب أن يطبق فى الأرض، وأن دولة الخلافة يجب أن تعود حتى يرجع معها الرخاء! ماذا حدث له فى السجن؟ لا أفهم! كنت أتحدث إليه، وأحاول فهم ما غيّره، فقال لى: "السجن كان جنة وأنا اتبطرت عليها، فقال الله لى (اخرج منها)، والعلمانيين اللى زيك نهايتهم قريبة، والإسلام سينتصر عليكم، يا صهيونى إنت والمسيحيين الكفرة"! الكلمة زلزلت كيانى، لولا أننى أستمع للكلام بنفسى لقلت إنه صوت يشبه صوت صديقى المستنير المحب للجميع، وقتها لم أكن أعرف ماذا أقول، فطلبت منه أن نتحدث فى وقت لاحق، فقال لى: "هذا فراق بينى وبينك"!

بين الفراقين وجع على صديق طيب، وحزن على تفكير حر كُبِتَ، ونفس أصيبت بكل الأمراض فى سجن قمىء ملىء بالتطرف والخوف والكره والألم.

أوقفوا سجن الذين يفكرون بصوت عال، أرجعوا لى صديقى الذى سجنتموه وهو حر وأخرجتموه أسيرا للتطرف!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعرض على إسرائيل عدة أفكار جديدة كقاعدة للتفاوض حول الأس


.. Amnesty International explainer on our global crisis respons




.. فيديو يظهر اعتقال شابين فلسطينيين بعد الزعم بتسللهما إلى إحد


.. مواجهات واعتقالات بجامعة تكساس أثناء احتجاجات على دعم إسرائي




.. مراسلة العربية: إسرائيل طلبت إطلاق سراح 20 من الأسرى مقابل ه