الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الشطرة العراقية في كتابات الرحالة الأجانب (الجزء ألاول)

سلام حسين الهلالي

2018 / 8 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مدينة الشطرة العراقية في كتابات الرحالة الأجانب
(الجزء ألاول)

مقدمة: تشكل كتابات الرحالة الأجانب مصدرًا مهمًا لدراسة تاريخ العراق، وهذه الدراسة تعنى بالبحث في أوضاع مدينة ومنطقة الشطرة العراقية بالاعتماد على ما كتبة الرحالة الأجانب فألشطرة لم تكن محطة رئيسة على طرق المواصلات في جنوبي العراق ولكنها تميزت بمكانتها الاقتصادية والاجتماعية وقوتها العشائرية وكثرة المواقع الاثرية فيها وهذا ماتحاول هذه الدراسة تغطيته بالاعتماد على ما كتبه الرحالة الذين مروا بالمدينة.
تكمن أهمية كتابات الرحالة الأجانب كمصدر لدراسة تاريخ العراق في عددها الضخم ومادتها الغزيرة ومنهجيتها التي درست جوانب مختلفة وممتعة من تاريخ العراق الحديث ولا نعرف بالضبط عدد تلك الرحلات ففي الوقت الذي ذكر فيه لونكريك ستا وتسعين رحلة اغلبها أوربية قدرها بعض الباحثين العراقيين بما يقرب من الثلاثمائة وعلى الرغم من أن هذا العدد الضخم ما زالت معرفتنا قليلة بتلك الرحلات، وان ظهرت بعض الدراسات التي اعتمدت عليها أوترجمت قسمًا منها إلي العربية.
مما لا شك فيه أن غايات وأهداف الرحالة الأوربيين كانت متباينة ومتعددة، لكنها بالتأكيد تعكس الاهتمام الأوربي بالعراق منذ مطلع القرن السادس عشر، عندما بدأ الصراع والتنافس الأوربي للسيطرة والتوسع في العالم الإسلامي، موفرين أي الرحالة معلومات تفصيلية ودقيقة ومهمة لحكوماتهم، أسهمت إلى حد بعيد في توجيه وبلورة سياسة تلك الدول نحو المنطقة.
والشطرة (القديمه والحالية) لاتقع على طريق النقل الرئيسي الداخل الى العراق من جهة الخليج والبصرة لأن هذا الطريق يستمر عن طريق السفن في شط العرب ثم نهر دجلة مارا بالعماره والكوت الى بغداد, ولهذا السبب نلاحظ قلة الرحاله الذين مروا بمنطقة الشطرة.
وهذه الدراسة معنية بتوضيح أوضاع منطقة الشطرة الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية معتمدة في مادتها العلمية على المعلومات التي نقلها الرحالة الأجانب عن المدينة لتشكيل الصورة التاريخية لأوضاعها ألعامة مقسمة الى فقرات تخص كل منها احد الرحاله وحسب تسلسلها الزمني, وسبق للكاتب نشر بعض تفاصيلها على صفحته في الفيس بك.

1- صفحات من رحلة البريطاني وليم هود William Heude
A Voyage up the Persian Gulf and a Journey Overland from India to England in 1817

في بداية عام1817 قام الضابط البريطاني المقدم وليم هود William Heude وهو من منتسبي كلية مدراس العسكرية بزيارة إلى العراق شملت البصرة وبغداد وكردستان والموصل. كان هود ضابط بريطاني يعمل في شركة الهند الشرقية في طريقه من الهند الى لندن وبسبب وجود مشاكل بين الاتراك وقبائل العماره كان طريق دجله مغلقا فغير طريق رحلته من البصرة عبر شط العرب و الفرات والاهوار ثم برا على الخيول وبالمركب مرة أخرى في نهر الغراف الى الكوت وبغداد. مر هود يصحبه خادمه وحارسه التركي , ومعه كتاب توصية من متسلم البصرة التركي بالشطرة وذكر أسمها هكذاShatra والتقى بشيخها وكتب أسمه هكذا Shaik Hassud (يعتقد المؤرخ يعقوب سركيس أنه الشيخ حسن السنجري) كما في صفحة 72 من كتاب الرحلة وهو في 280 صفحة وصدر في لندن 1817وتوجد الان منه نسخ الكترونية مجانية على كوكل. والشطرة التي مر بها الرحالة كانت تقع الى الغرب من المدينة الحالية, ذكر الرحالة قليل من أسماء الناس الذين قابلهم وكتبها بطريقة تختلف عن حقيقتها بسبب اختلاف اللغة.
بعد ان غادر الرحاله البصره في يوم 16 من شهر كانون الثاني عام 1817 أستمر بوصف مايمر به من مناطق ومن يقابلهم من أشخاص ويبدأ بالكلام عن ديرة المنتفك أبتداءا من الفصل الرابع صفحة 53 من كتاب الرحله فيقول في صفحة 62:
عند مغادرتنا البصرة وأثناء سيرنا على طول ضفاف نهر الفرات لاحظنا وجود مسجد بني أكثره من الطوب ، مع مدرسه صغيرة ملحقة به فيها بعض الفقراء والدراويش. وكان بناء الطوب هذا هو البناء الجيد الوحيد الذي مررنا به منذ رحيلنا من البصرة وقليلا أبعد من ذلك وفي مساحة مفتوحة قبل القرية، وصلنا إلى مخيم شيخ محمود شقيق الشيخ حمود الذي أثناء غياب هذا الأخير مع الجيش يكون نائبا له و كان غائبا في وقت وصولنا ومن المرجح أن تتأخر عودته وكان هذا من حسن حظي لانه اتاح لي الوقت لدراسة عاداتهم في مجلس شيخهم حمود الذي هو رئيس المنتفك، وهي القبيلة الرئيسية بين بدو الصحراء كما وصفها نيبور.
لا شيء يمكن أن يفوق بساطة المعيشة التي يمكن ملاحظتها في خيام هؤلاء الشرقييين الطيبين, القلم لا يمكنه وصف المجاملة والتواضع وحسن الاستقبال وكرم الضيافة الذي ينالها المسافر في هذه الصحراء التي ينعدم فيها القانون والمليئة بقطاع الطرق.
أثناء الغياب المؤقت لوالده يقوم الابن البكر للشيخ محمود (وهو شاب وسيم عمره 16 سنة) بمهمات الزعامة عوضا عنه.
كان يجلس على سجادة في خيمة كبيرة مفتوحة مع العديد من الحاشية والرؤساء الملتحين الاجلاء جالسين أو واقفين على الجانبين وفقا لرتبهم ومهنهم.
أثاث الخيمة يتألف من السجاد والوسائد فقط في حين أمتلأت الساحة المحيطة بالخيمة بأعداد كبيرة من الابل وخيول الضيوف وعدد من الخيام الصغيره.
في مدخل الخيمه كلن يقف عدد من الرجال لتلقي الاوامر وتنفيذها او نقلها وتوزيع فناجين القهوة والتبغ بين فترة واخرى لكل قادم جديد, جلسنا معهم بعد تلقينا أيماءة لطيفه من الزعيم الشاب وجلسنا بأنتظار الوصول المتوقع لرئيس القبيلة.
وأخيرا سمعنا أصوات أنهت أنتظارنا لوصول الشخصية الكبيرة وخرج الجميع يتقدمهم الشيخ الشاب الابن لأستقباله بعد عودته من مهمته السرية المهمة، ترجل الشيخ المهيب عن صهوة جواده وحيا الجميع رافعا يده وهو يبتسم بثقة.
دخل الخيمه وجلس وأعيدت مراسيم المقابلة والتعريف بنا ثم أشار للجميع بالجلوس وبعد فترة صمت قصيره تكلم مع اتباعه في أمور تخص القبيله أو حدثت في غيابه وختم بعض الاوراق بخاتمه ثم حيانا مرة أخرى بعد أن قام أحدهم بقراءة الرسائل التي نحملها له من علي أغا متسلم البصرة التركي وقام خادمي بالترجمه.
بعد فترة أعلمَنا أن جوازاتَ سفرنا وأدلائَنا ستكون جاهزة لان لدينا توصية من شخصية بارزة لا يمكن رفضها ودعينا للبقاء لتناول وجبة الغداء.
التحضيرات لمائدة الغداء جرت بكرم وأسراف لم أكن أتوقعه، ثلاث أَوأربع جواميسِ كان قد تم ذبحها وطبخت لحومها ونشرت سوية مع الأرز والزيت على الأرضِ وسطِ الدائرةِ الكبيرةِ في أواني واسعة مَلأَت الخيمةَ وأمتدت ألى خارجها، ويبدو أن هذه الطريقة هي ميراث عائلي منذ أجيال متعاقبة، ثم أقترب الجميع بشهيات مفتوحة وأستعداد.
ظهرت الان سلسلة طويله من الخدم والعبيد امتدت من الخيمة الخاصة الى مكان جلوسنا وكل واحد منهم يحمل صينية هائلة مليئة بالرز الخشن وعليها سيقان وايدي ورؤوس خراف تم طبخها. ولاحظت بساطتهم وأسرافهم في فن الطبخ.
ردد الجميع سوية بسرعه وبصوت عال (بسم الله الرحمن الرحيم) وبعد ان مد رئيسهم يده المفتولة العضلات الى كومة الرز القريبه منه فعل الجميع مثله وأنا كذلك.
ساد الصمت التام لفترة حتى اكتفى الرئيس واخذ ينظر الى جانبيه ويشجع ضيوفه على الاستمرار، وكنت سئ الحظ في تلك اللحظه حيث جلبت انتباهه وانتباه الجميع بسبب الم اصاب معدتي وجعلني في حاله حرجه ورغم ذلك اخذ يقطع اجزاء رأس الذبيحة ويضعه امامي ويدعوني الى اكله، حاولت الاعتذار وجائني الفرج أخيرا عندما نهض الجميع ونهضت معهم لفسح المجال لمجموعة اخرى من ضيوف الدرجه الثانية الذين كانوا ينتظرون دورهم في الوليمه. وبعد ذلك دار علينا الخدم بالماء لغسل ايدينا كما فعلوا في بداية الوليمه.
خلال لحظة كان كل شئ نظيفا والقهوة قدمت الى جميع الضيوف (كان الشيخ الشاب يقف خلف والده مباشرة ويقدم له الفنجان).
ايها الغريب قال لي الشيخ الرئيس لقد تعبت في سفرك وجئتنا ونحن في حالة حرب ... ابلغ علي باشا تحياتنا وسيوصلك ادلائي سالما الى ارض المنتفك في الكوت ثم الى بغداد و أذا قابلت علي باشا قل لفخامته ان ابن سليمان العظيم ويقصد سعيد باشا لن ينحني لعبد جورجي وقالها بحركة لا يمكن ان يخطئ معناها من يسمعها.
هذه القبيلة كثيرا ماكانت تهدد الطريق بين البصرة وبغداد وهي تسيطر على كثير من القرى من هنا الى العرجاء ومن القرنه الى السماوة وتحتمي بالصحراء اذا هوجمت من قوة كبيرة . وفي أحدى المرات وصلوا البصرة نفسها لكن طموحاتهم هذه جوبهت بقوة من قبل سليمان كاجكا (Solyman Kaichja) الذي نجح في الحصول على باشوية بغداد والذي كان مثل عمه احمد باشا الشهير الذي هاجمهم ونجح في اسر شيخ المنتفك سعدون ثم اطلق سراحة بعد اخذ التعهد منه بعدم المعارضة وبدفع الضرائب المفروضة عليه. ولكن نفس الاضطرابات عادت بعد فترة فأرسل ضدهم صهره سليمان كاجكا مع قوة صغيره مختارة هاجمت معسكرهم بغتة وتمكنت ان تعتقل شيخهم ثانية. العرب الذين شاهدتهم يمتازون بالشجاعة ويعتزون بأنفسهم كثيرا فقبل أسر هذا الشيخ دافع عن نفسه بسيفه ورمحه ثم بخنجره وحتى بركاب سرج حصانه وقاوم محاولة أسره بأستماته رغم العروض المغرية التي قدمت له، وظل يردد حتى بعد أسره (أَنا مُنْحَدرُ مِنْ سلالة طويلة مِنْ الأسلافِ النبلاءِ المحاربينِ الذين لن يتلوث شرف قبيلتهم وكان يلعن الحظ السئ والظروف التي جعلته أسير سليمان العبد الجورجي وأخيرا تمكن الاخير من أسره وقطع رأسه بضربه من سيفه وأرسلَه إلى عمه أحمد باشا.
بعد هذا رأى بقية الشيوخ أن الخضوع أفضل لهم فأستسلم ثمانية عشر منهم في نفس اليوم معتقدين ان ذلك سيرضي الترك لكن سليمان كاجكا رأى أن هذه فرصة لن تتكرر فأمر بقطع رؤوسهم جميعا فكان ذلك سببا في ضعف قبائل المنتفك بسبب فقدانها لرؤسائها، وبفضل هذه السياسة البربرية ظلت هذه القبائل خاضعة وهادئة لفترة من الزمن. ويعتبر الاتراك ان مافعله سليمان شجاعة ويعتزون بذلك بينما العرب يتذكرونه باللعنات والحقد.
ما كدنا نبتعد ميلين عن المخيم حتى فاجئتنا عاصفة أمطار فتبللت أجسامنا الى عظامنا وخلال بضعة دقائق أصبحت الارض رطبة ووصل الطين الى ركب الخيل التي كانت خائفة جدا من البرق ورخاوة الارض تحت اقدامها المرتجفة، مرافقي التركي الذي أشتاق إلى القدورِ والبصلِ واللحمَ تَركنَاه ورائنا وكان يختلق الاعذار للعودة الى المخيم، أما أنا فشعرت بأن الامان والراحة لن تحصل الا بعودتي الى اوربا وكنت متلهفا لذلك، حتى خادمي كان ضدي وهو منشغل بالشجار مع مرافقي التركي وكلاهما كان يسخر من مهارتي بالفروسية، وبعد عشرة أميال وصلنا الى مخيم صغير بائس وكنا وخيولنا نشعر بالتعب والحاجه الى الراحة بسبب المطر والسير في الأرض الموحله، فأسعدتنا رؤية الخيام والنار المشتعلة قربها.
الكرم هو بالتأكيد صفة خاصة ببدو الصحراء، وهؤلاء البسطاء رغم أنهم لا يملكون الا القليل جدا تراهم يقدمونه مع أبتسامة ترحيب لمن يمر بديارهم، وبعد برهة مد السجاد في الخيمه لأجلنا، كنت متعبا وجسمي مبلل كليا فنمت في الحال ولكن أيقظتني ضجة الاغطية الصوفية التي جلبت وقام مضيفنا وعائلته بتغطيتنا بها، من الواضح أنهم حرموا انفسهم لاجل راحتنا وظلوا واقفين يحرسوننا ويخدموننا طوال الليل وهم يعتذرون عن التقصير. لذلك بعد تدخين البايب مع الحراس وملأ علب تبغهم من كيسي عدت ثانية الى النوم. في الصباح الباكر من يوم الخامس والعشرين أستأنفنا مسيرتنا بصحبة دليلنا الجديد وهو الذي بتنا عنده البارحة.
في الثامنه صباحا عبرنا نهرا صغيرا يتفرع من الفرات و يجري على حدود بلاد جنة عدن ومابين النهرين العريقه. يا للأسف! كيف تغير هذا الفردوس ! هوالان أرض قاحله تنتج بالكاد محصولا ضئيلا من الحبوب الخشنه.
في الساعة 12 وقفنا لفترة قصيرة من الوقت في الهواء الطلق مع الشيخ حبيب (Hubeeb) ثم أستأنفنا مسيرتنا في الواحدة بعد الظهر وحتى المساء مع هذا الشيخ الوقور الكبير في السن والذي يقيم على بعد سبعة ساعات مشي أو ثمانية وعشرين ميلا من مكان استراحتنا السابق.
هذا القطر الذي هو جزء من بلاد مابين النهرين القديمه لا تزرع اراضيه كلها ومستوى الزراعة فيه الان بسيط يعيل اعدادا قليلة ومتفرقة من السكان.
أثناء اليوم السابق كله كان مضيفنا ودليلنا يزعجاننا بفضولهما وأسألتهما وأستغرابهما من كوني جورجي يرتدي الملابس العربية وفي خدمة علي باشا وكنت صامتا ومرافقي التركي وخادمي كانا يجيبان نيابة عني حماية لي، ويبدو أن علي باشا كان محترما جدا بين هذه القبائل لنجاحه في محاربة الوهابيين أعدائهم الالداء.
لم اكن أعرف شيئا عن الوهابيين ولا عن علي باشا سيدي المزعوم وكان خادمي يجيب عن الاسئلة بكل ما يحلو له من اكاذيب جاعلا مني شخصا مهما وغامضا وعلي باشا رجلا عظيما له من الجيوش اكثر مما لدى شاه الفرس وكان دليلنا الجاهل يصدق ذلك.
كنت كثيرا ما أسأل نفسي: يالغرابة كل البشر سواء كانوا متحضرين او مثل لصوص الصحراء الفوضويين الذين احل بينهم الان؟ فهؤلاء يستضيفوننا ويحموننا رغم فقرهم ورغم سمعتهم بل ان رئيسهم قال ان ضيفهم لا يهم ان كان مؤمنا او كافرا أو من أين وألى أين وهو ينال الضيافة والحماية في كل الاحوال.
كان لمضيفنا، اللص أبراهيم (Robber Ibrahim) طفل جميل اتجه نحوي راكضا ضاحكا لكن امه ابعدته عن هذا الغريب الذي يجلس في الخيمة وسرعان ما تلقفه والده بين ذراعيه وقال لي:
هَلْ انت اب وهل سَبَقَ لك أنْ رَأيتَ نظيرا لولدِي؟ عندما يصبح قويا بما فيه الكفاية، فسوف يَرْمي الرمحَ بمهارة مِثْلي، أنه الان بعمر أربعة سنوات بالكاد، أيدنا كلامه مجاملة وعلقنا في رقبة الطفل المدلل قطعة ذهبية صغيره، ثم أخبرنا الشيخ بأنه سيكون من المستحيل علينا المَضي في الصباحِ لتكملة رحلتنا بسبب أخطارِ الطريق وطلب منا الانتظار عنده فطلبنا منه المساعدة وان يرسل معنا الادلاء الجيدين.
في يوم 27 من شهر كانون الثاني 1817 وبعد مسيرة لمدة ساعتين مع دليلنا الجديد وبعد أن رفض دليلنا السابق أن يستمر معنا نتيجة خلافه مع التركي الذي يرافقني وصلنا إلى بلدة كبيرة تسمى الشطرة، قدرت ان الشطرة تبعد ما لا يقل عن ستين ميلا من الكوت، وكانت أول مدينة مررنا بها منذ رحيلنا من البصرة، بيوتها مبنية من الطين ولها بازار (سوق)، وهي تدار من ديوان الشيخ Hassud وهو رجل في حوالي السبعين مع ابنه الاكبر، كانوا يجلسون في خيمة كبيرة محاطين بخمسين أو ستين من رجال قبيلتهم، يقرأون الرسائل ويتلقون الأخبار ويناقشون مواضيع يبدو أنها مهمة جدا، يتضح ذلك من مظهرهم وقلقهم الواضح. بعد تقديمنا لهم أعلن الشيخ أنه سيكون من المستحيل علينا حتى مع دليل المضي قدما خارج المكان ولا حتى العودة
لأن المدينة والمنطقه كلها معرضه لهجمات اللصوص وتم في الصباح الباكر لهذا اليوم نهب مواشي المدينة من قبل جماعة من قطاع الطرق نجحوا في التسلل الى شوارع المدينة أثناء الليل ويقوم أكثرية الشباب على خيولهم بمطاردتهم حتى الان.
ومن ناحية أخرى ، فإن دليلنا ، عند استشارته ، يرفض تمامًا المضي قدمًا إلى أبعد من المكان ، للحصول على أكبر كمية من المال التي يمكننا تقديمها لأنه مغامر يعتاش من ذلك. وبأنتظار موافقته على أيصالنا الى الكوت اضطررنا إلى الجلوس لتناول العشاء الذي ظهر الآن، مع توقع بقائنا لفترة طويلة، أو اضطرارنا إلى إعادة خطواتنا إلى خيام مضيفنا الكريم، اللص إبراهيم. خلال الوجبة، التي كانت هي المناسبة الوحيدة المريحة التي استمتعت بها لمدة أسبوع، دخل مرافقي التركي، كالمعتاد، في نزاع أكثر عنفاً مع الأدلاء، لرفضهم الإرشاد، وبسبب فضولهم فيما يتعلق بي. فخاطب البعض وهددهم، وهو ما لا يمكن للكلمات أن تترجمه.
ويبدو أن مرافقي التركي حاول الاعتداء على أحدى النساء مما اثار السخط والغضب ألشديد عند أبن الشيخ Hassud الذي حاول قتله لكن الشيخ الاب والرجال الاخرين منعوه بصعوبه وكان الابن يهددنا بالقتل والطرد. على الرغم من أن خرق طقوس الضيافة نادر للغاية بين هؤلاء الناس، إلا أنهم لا يفضلون في الغالب العفو من العقاب. ومع ذلك، نجح الزعيم الكبير في إلقاء نفسه في طريق ابنه الغاضب، مع بعض الصعوبة، وفي تقييده من أقصى درجات العنف، مع ملاحظة ، أنني وخادمي، على الأقل، بريئان من الجريمة، و أن هذا السكير المبتذل سبب لنا كل هذه المشاكل وكان سبب تأخرنا وحصولنا على دليل للطريق.
إن الحصول على مرافقة أو دليل، بعد كل هذا العنف، أصبح الآن ميئوسا منه تماما. لكن التركي سعى إلى تمهيد الطريق نحو المصالحة، من خلال التأكيد بإصرار، مع الضحك، أن سلوكه كان يهدف فقط إلى مزحة لتسلية أصدقاءه الجدد في هذه المناطق البعيده.
ولم يقبل أحد أعتذاره فأخذ التركي وخادمي بالتوسل والتأكيد أنني برعاية علي أغا متسلم البصره وتهمه سلامتي من أجل موافقة الشيخ على حث سيد Sayid على مرافقتنا إلى أقرب قبيلة.
إن السادة ، باعتبارهم أحفاد النبي ، هم أشخاص يمتلكون مثل هذا التقدير العالي ، ليكونوا بشكل عام حماية كافية للغاية بين الذين يعرفون قدسية شخصيتهم. إن قتل أي من هؤلاء ، الذين حققوا هذه القدسية العالية، سيكون جريمة من الدرجة الأولى؛ والكشف عن أنفسهم أثناء القتال، إذا هوجم حزبهم، عادة ما يكفي لتقييد وأيقاف من يحاول الاعتداء.
كان الشخص المقدس الذي تحدثت إليه في هذه المناسبة، واقتربت منه بخوف، على وعي تام بقيمة وضرورية الخدمات المطلوبة منه؛ وطالب لذلك بمكافأة باهظة للغاية على جهوده. وسعى صاحبي التركي، الذي ينزوي الآن مع خادمي، إلى إقناعني، من خلال الحجج المختلفة، بالمساهمة بنصيب من النفقات، على الرغم من أنني قد أبرمت عقدًا منتظمًا لنقلي إلى بغداد، ورأيت ، في مناسبتين أو ثلاث مرات، أنه في حالة عودتي مرة أخرى، يجب أن أكون مسؤولًا عن التزامات جديدة، لكنني رفضت مطلقًا أي تعديل على الاتفاق.
انطلقنا في النهاية وقائدنا المقدس يريدنا أن نؤمن ونثق بحمايته ومكانته ومعرفته لما سيصادفنا في الطريق. يقع مسارنا الآن من خلال براري موحشه ، والشطرة كانت هي الحد الشمالي للأراضي القليلة المزروعة التي يمكن تمييزها فوق تقاطع الأنهار. سرنا لمدة ساعتين في صمت حزين، يفكر التركي بالمشاكل التي سببتها وقاحته، وأنا بالتأخير الذي واجهناه، وخادمي بالأخطار التي تخلصنا منها أو التي سنواجهها.
فجأة، في هذه المسالك الكئيبة المنبسطة التي تحيطها النباتات البرية، وصلنا إلى ضفة نهر، يحمل اسم المدينة التي تركناها وراءنا. وبينما كنا ننحدر لنصل الى النهر عبر طريق ضيقة وعرة، سمعنا صراخ المعركة البشع الذي أطلقه البدو. ووجدنا أنفسنا محاصرين، في لحظة واحدة، بأكثر السلالات وحشية والتي لم نواجهها من قبل ؛ والذين كأنهم خرجوا من الأرض مع رماحهم المدببة وبنادقهم ، ذرية مروعة ، قاسية ، وحشية. بالتأكيد تصرف سيدنا بأعظم مالديه من برود وثقة بالنفس في هذه المناسبة المخيفة. وسار على فرسه الى الأمام دون أدنى تردد، ونزل عن ظهرها وسطهم ، وألقى بنفسه على الأرض في وضع الصلاة والخشوع ، ووضع تميمة صغيرة منقوشة بأحكام من القرآن تحت رأسه، و بدء يتلو كلاما من عقيدته بلهجة عالية ، رتيبة ، لكنها مثيرة للإعجاب.
في لحظة واحده وفجأة سكتت كل الأصوات والصراخ الرهيب وبقي صوت صلاة السيد فقط والايدي التي كانت مرتفعه بالسيوف والرماح والبنادق نزلت الى الأرض وعم السلام ولم يتوقف السيد عن صلاته ودعائه وطلب من الجميع الانضمام اليه لأداء الصلاة.
وبعدها أنتظم الجميع في دائرة واسعة وتبادلنا المجاملات مع أعدائنا السابقين، وسعينا لزيادة التفاهم الودي الذي ألهمته روح الدين ، بتقديم التبغ والبايب لهم الذي كان له تأثيرا عجيبا على قطاع الطرق المختلفين هؤلاء، ويبدو إن القليل من اللطف بهذه الطريقة سوف يفعل المعجزات أكثر من المال والهدايا.
بعد ماحدث، كانت فرحتنا بالنجاة لا حدود لها حيث كانت مخاوفنا كبيرة ، وحالنا حرجًا. وبعد الأستراحة الطويله، والاحاديث، والاستفسار عن الأخبار، تم الإعلان عن وصول القوارب و عن استعدادنا للعبور الى الجانب الاخر من النهر ونحن على ظهر الخيول ورغم التيار.
عندما وصلنا الى الجانب الاخر من النهر، رغب معارفنا الجدد في بقائنا فترة قربهم لكي لا يتعرف أحد غريب على موعد مغادرتنا او وجهتنا، ومررنا برعاة كانوا يرعون قطعانهم، ووصلنا إلى مخيمهم، على بعد حوالي ميلين من ضفة النهر. وبمجرد دخولنا ، ذهب سيدنا مرة أخرى للصلاة ، وفي طريقه، منح بركاته للجميع، الذين فاز بحبهم وتقديرهم، حتى أن النساء تجمعن حوله لينال أطفالهن لمساته المقدسة ، وكن يتوقعن الحصول على البركات من هذا القديس الدنيوي. خلال هذه المشاهد المتنوعة ، حيث استطعت أن أرى النفاق مقترنا بأكثر الآثار السامية للدين ، "نشر السلام ، وحماية الضعفاء من يد السارق" ، استمتعت بوقت فراغ كبير لرصد الأخلاق و حالة القبيلة الجديدة التي نحن بينها الان وكان هؤلاء بالتأكيد أفقر الناس وأقلهم تحضراً من الذين التقينا بهم وكانت ثروتهم الوحيدة هي قطعانهم التي تتألف فقط من الأغنام؛ وقليل جدا من الجمال أو الخيول. كانوا ينصبون خيامهم في مربع أو مستطيل ، على مساحة كبيرة مفتوحة قاموا بتطهيرها لهذا الغرض؛ الاشواك التي قطعوها ، يتم رصها كسياج لحمايتهم من المفاجئأت. داخل هذه المساحة المفتوحة في وسط الساحة ، كانت قطعانهم تبات ليلاً ويتناوب رجالهم على حراستها.
لم يحدث من قبل أبداً، أو منذ ذلك الحين، أنني شاهدت مثل هذا البؤس المطلق الذي كان واضحاً في مظهرهم كلهم. استطعت أن أحسب أن في من لقيتهم حوالي 30 رجلاً يمكن اعتبارهم بحالة جيدة، أما الباقون فكانوا مخلوقات متعبة متهالكة، أو شباب متجولون نصف جوعى، بالكاد شعر على شفاههم. على العموم، اعتقدت أنه من المحتمل، مع الرجال والنساء والأطفال، في الخيام الأخرى، أن تكون أعدادهم 300 على الأكثر. كان ترفيهنا، الليلة التي غادرنا بعدها الى الكوت، ترفًا مثاليًا؛ لم يكن لديهم سوى الكعك الاسود الذي قدموه لنا، والذي تم جمع الطحين له بعد جولة حول جميع الخيام ، قبل أن يتم الحصول على إمدادات كافية. عندما تم إحضار الطحين، كان بإمكاننا سماع نساء مضيفنا، عبر الخيمة، يعملن في عجنه وبعد ذلك، تم وضع الكعك الكبير الثقيل الذي يبلغ طوله ثلاثة أقدام بالكامل وبسماكة بوصتين، أمامنا على الجمر المتوهج لنيراننا وتركناه لينضج.
كان بالتأكيد مشهدًا غريبًا، وكان هؤلاء الناس مختلفين اختلافًا كبيرًا عن بقية العرب الذين قابلتهم، في لباسهم، وأخلاقهم ، والتعبير الحزين على وجوههم ، الذي هو مختلف جداً عن البدو، وأعتقد أن الفقر والبؤس هو سبب الشر الذي قد يوجد بينهم وهم ميالون الى الخير بدليل انهم تقاسموا معنا القليل الذي يملكونه .
لقد كنت دائما أسأل خادمي عن كل شيء يمكن أن ألاحظه ولاحظت انه رغم بساطتهم وفقرهم فبعضهم يمارسون أفظع الفظائع ولا يهمهم الرسول الكريم ، ولا القرآن ،ولا علي أغا ولا شيخ المنتفك. وفي نفس الوقت لاحظت الخشوع الذي أظهروه لرجلنا المقدس ، ومراعاة صلواتهم
وهم يعتقدون أن السيد لن يتأذى أبداً وحتى لو أن أسدا قابله في الصحراء ، فإنه سيستسلم له.
لقد شاهدت وخمنت وبمساعدة خادمي ومرافقي التركي أن هؤلاء رغم أنهم مسلمون لكنهم انتكسوا الى الهرطقات وممارسة العرافة والخرافات والطقوس الأخرى التي لا يمارسها المؤمنون الأكثر وعيا. ولم يكن خادمي والتركى متحمسين لقبولي ضيافة هؤلاء الفقراء، أو أن يكونوا هم قد أكلوا الخبز معهم.
في اليوم الثامن والعشرون وبعد ليلة غير مريحة، غالبًا ما اخترقت الأمطار الخيام ، في الصباح، استأنفنا مسيرنا. كانت الأرض التي مررنا بها صحراء لا توجد فيها زراعة ، ولا خيام يمكن التمييز بينها، الغطاء النباتي الوحيد نبات تستطيع الإبل وحدها أن تأكله.
سبحت خيولنا عبر نهر صغير وتوقفنا عند بيت من الطين ، في قرية صغيرة تعود ملكيتها إلى الشيخ الحاج هدهود Shaik Hajhood وكان الوضع هنا مختلفا ، كما أعتقد عن سلوك كل قبيلة التقينا بها؛ والتي ربما يكون بسبب نوع العمل أو المناخ أو بتأثير من شخصية الشيخ الحاكم.
قرية هذا الشيخ افضل حالا من البؤس الذي تركناه وراءنا، الحقول القليلة التي كانت تزرع على ضفاف النهر، وحول هذه الأكواخ ، كان لها مظهر من الوعد والخصوبة بما يتناسب مع حجمها الصغير. الرئيس نفسه كان رجلا كريما مطاعا من جماعته. عشاءنا ، لأول مرة ، كان يتكون من أروع أنواع الأرز، وبعد الوجبة ، تم توزيع قليل من الكعك في أطباق نظيفة ، ورغم التعب والمشي لثلاثين ميلاً. الشيء الوحيد الذي استطعت أن أجده للإدانة ، هو الحاحهم وأسألتهم وعدم تركنا لوحدنا لنرتاح ثم دعوتهم لنا للصلاة، وكان خادمي ملزماً بتقديم اعتذار، بإعلاني أنني كنت بحالة غير نظيفة (كمسافر لم يؤد الوضوء لمدة ثلاثين يوماً) وهو ما يحول دون انضمام المؤمنين إلى الصلاة التي بدأت وكان مشهدًا مهيبًا ومثيرًا للإعجاب..
في الصباح التالي ، بعد مسيرة ثلاث ساعات عبر الصحراء ، وصلنا إلى واسط ، التي كانت في يوم ما عاصمة بلاد ما بين النهرين. إن الجزء المسكون منها الآن، وهو فضاء مستطيل صغير يحيطه جدار بائس، لا يمكن أن يمثل سوى نسبة قليلة للغاية من محيط العاصمة الواسعة للإمبراطورية العظيمة. قد لا يشغل الموقع السابق بالضبط ؛ ومع ذلك أنها سثير الاعجاب لمن يشاهدها؛ وتحيط بها ، من كل جانب ، تلك الآثار الواضحة لمدينة واسعة والعديد من المباني ، التي تحدد بشكل كاف الهوية العامة للموقع ، مع المساحة التي كانت تشغلها في السابق. عرفت و فهمت بعد ذلك من السيد ريتش ، مقيمنا في بغداد ، أنني كنت الرحالة الأوروبي الوحيد غيره، الذي زار هذه المشاهد القديمه الشهيره وتلك البقايا التي لا تزال مرئية.

الجزء الثاني سيكون عن رحلة الفرنسي دنيس دي ريفوير الى العراق Denis de Rivoyre 1880








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا