الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


١٤ تموز :جدل الثورة الدائمة/الجزء ١

مظهر محمد صالح

2018 / 8 / 5
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


١٤ تموز :جدل الثورة الدائمة/الجزء ١
د.مظهر محمد صالح
تبعت والدي ونحن نجتاز سوق البلدة الصغيرة التي كنا نعيش فيها صبيحة يوم منتصف شهر تموز 1958إذ كنا نسير رويداً رويدا بين كتلات بشرية تتجاذب اطراف الحديث الساخن حول ولادة الجمهورية وأفول الملكية .فهذا العم ابا سعيد يقود تجمعاً وهو في نقاش حاد ليفسر ان ماحصل امس صبيحة الرابع عشر من تموز هو ليس بانقلاب عسكري كما روج لذلك احد ضحايا التغيير وهو العم ابا سميه الذي كان يعمل في ضريبة الاستهلاك والمكوس التعسفية .فالانقلاب كما فسره الاخير هو الازاحة المفاجئة للحكومة بفعل مجموعة تنتمي الى مؤسسات الدولة ،عادة ماتكون بالتعاون مع الجيش،لتنصيب سلطة مدنية او عسكرية تابعة لها بعد ان تتمكن من تغيير الحاكم من دون النظر الى ايجاد نظام بديل يلبي احتياجات الشعب.ومن هناك رد ابا سعيد المعلم اليساري المشمول بالاحكام العرفية التي سادت في العهد الملكي وتسببت بطرده من الوظيفة قائلاً بصوت جهور: ايها الناس انها ثورة الشعب ،انه التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في مفاصل النظام الملكي السابق ،انه التغيير الجذري الذي جاء بارادتكم لتحقيق طموحات الشعب العراقي نحو نظام سياسي نزيه وعادل يوفر الحقوق الكاملة للجميع على قدم المساواة والحرية والنهضة للمجتمع. هنا توقفت قليلاً كي اساءل والدي ابتاه ما الفرق بين الثورة والانقلاب ؟ اجابني قائلاً :يابني ان تاريخ الثورات تُوثق بتاريخ انطلاقها في حين ان تاريخ الانقلابات تُوثق بتاريخ انتصارها...اجبت والدي واين نحن من هذا التغيير الهائل الذي حدث في العراق ؟فهل هو ثورة ام انقلاب؟ هنا سكت والدي هنيهة ثم رد قائلاُ بوثوق يابني انها الثورة ،فالنظام الملكي قد افل تماماً وبزغ نظاماً جمهورياً بديلاً له.فقوى التغيير يابني ابتدات في صياغة المشهد السياسي لبلادنا لتوفر مشاركة اوسع لسلطة الشعب وتحقق الازدهار المنشود للعراق،وان جموع الفلاحين الذين مروا من جنبك قبل قليل لم يعرفوا الا الظلم بغض النظر عن اسم الظالم وجنسيته .استمرينا انا ووالدي في السير في سوق المدينة وبخط مستقيم قبل ان تكون الشمس عمودية على الارض ، اذ
كنا نقصد دكان القصاب الذي اعتدنا الشراء منه بصورة يومية .فالدنيا تبدلت حينها ودكان القصاب قد ازدحم بالمتبضعين القدامى الذين اشتبكوا في جدلية زوال الملكية القديمة وشرعية الثورة والنظام السياسي الجديد!! .وفي خضم تنوع اصناف اللحوم من الماشية المذبوحة والمصلوخة التي ازدان بها المحل ، بدا لي ذلك المكان يومها اشبه ما بمنبرٍ سياسيٍ مترع بنشوة التغيير. وان البلاد امست مقبلة على شعور غامض بالنور المضيء والجميع يتطلع في اطراف الحدث الكبير والتحدث بأسبابه وتلمس نتائجه ، فأكثرهم بدأ يشعرنا بالنظرة المسددة بتفاؤل نحو المستقبل، مما جعلنا نتلمس موقع الشمس قبل ان نراها.
وفجأة دخل الدكان رجل في الخمسينات من عمره وكان يسير بأناة وأدب ورهبة وبرأس مهيب خلا من الشعر واصابه احمرار صامت جراء تعرضه لاشعة الشمس اللاهبة وكان وعيه في تلك اللحظات قد انجذب كله نحو سكين القصاب التي اصطبغت بالدم..استدركت الموقف في نفسي وانا ابن العشر سنوات ماسكاً بسترة والدي بقبضة حديدية لكي لا افلت زمام بوصلتي، وقلت في سري من سيكون هذا الهائل الذي صمت الجميع عند دخوله يا ترى؟
اقترب والدي منه بلطف وهو يتلقى من عينيه الكبيرتين نظرة استلت من ذاكرته جميع ما فيها،ولكنها بثت في قلب ذلك الرجل قلقاً وهو يتلفت بخوف وكآبة وارتجفت أوصاله ...حيث شعر بأن كل شيء قد تغير من حوله..وفجأة فتح فاه ليتكلم...! فبادره احد المتبضعين وسأله:أيمكن ان تمضي هذه الحياة على هذا النحو الذي نراه ايها السيد الكريم؟ قال الرجل:نعم اذا ما ارتضيتم العفو لنا!!هنا اجاب المتبضع من فوره وبصوت كالشروق:ما جدوى الامل في المستقبل اذا كان ذلك الزمن الماضي الطويل في معترك السياسة لم يلن قلوبنا،واذا كانت عذابات السجون كلها لم تزكنا لرحمة من نحب!!
هنا تعثر الرجل في الاجابة ..!فسدد الجميع نظرة جسدها ارتياح منفتح الصدر ليخلو صدره من الخوف او العدوان،مشدداً القول:الدنيا تغيرت وان بقاء الحال من المحال وان زوال اليأس سيزيدني قوة وسيزيل سخريات حزينة في نفسي ربما ستثب خارج ضجيج الحياة وتلج جناح النسيان الى الابد.ثم تحفز قلب الرجل للارتياح ورفع رأسه نحو القصاب وقال له ضع في ميزانك من اليوم والى الابد نصف كيلو غرام لحم بدلاً من الكيلو غرام الواحد الذي اعتدت شراءه في الايام الخاليات...واعلم ايها القصاب انه ماكان على الثورة ان تحدث في منتصف الشهر ..! فكان حريا بها ان تحدث في نهاية الشهر حتى اتسلم راتبي من المجلس النيابي الملكي!! هنا ضحك الجميع ونظر الرجل فيما حوله وهو يجفف عرق وجهه بكم قميصه وتنهد من الاعماق وهو يكبت نزوعاً نحو البكاء..متمتما بالقول :عندما يحترموننا امواتاً نحترمهم احياءً!!كان جدل الثورة حواراً في ثقافة التسامح في يوم شديد التغيير في حياة العراق السياسية.ليذكرني ذلك اليوم بقول الزعيم الافريقي المناضل الراحل نيلسون مانديلا: انه لايوجد انسان ولد يكره انساناً آخر بسبب لون بشرته او أصله او دينه...الناس تعلمت الكراهية، إذاً بامكاننا تعليمهم الحب، خاصة ان الحب أقرب لقلب الانسان من الكراهية..!!انها المباديء السامية التي ولدها جدل الثورة في الرابع عشر من تموز و قبل ستون عام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع