الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: بقية الفصل الرابع

دلور ميقري

2018 / 8 / 10
الادب والفن


4
المكان، أين يقع مبنى الإقامة الفندقية، كانَ أشبه بواحة ذكريات ذي نخيلٍ مرّ الثمار. ولكنها، بالطبع، لم تكن ذكرياته. وفي التالي، كان من المستحيل عليه استعادة ذلك الماضي المراكشيّ، الخاص بأخويه الراحلين، دونما معونة من أحدهم. بوابُ العمارة، العجوز العملاق ذو البشرة القاتمة، الذي تعهّدَ أمرَ الاتصال بوكيل صاحبها، ما لبثَ أن أذهلَ " سيامند " بما أمتلكه من قوة ذاكرة وملاحظة. إذ تساءل العجوزُ وهوَ يُشرع بإمساك سماعة الهاتف، متفرساً في سحنة الشاب الغريب وكأنها أيقظت ما يُشبهها في ذهنه: " أنتَ من سورية، أليسَ كذلك؟ ". ثم أضافَ فوراً وقد برقت عيناه " أخالُ أني عرفتُ أقاربَ لك، سبقَ وأقاموا هنا "
" بلى، أنتَ تتكلم عن أختي الراحلة.. "، ولم يدعه البواب يُكمل كلامه. قاطعه هاتفاً بنبرةٍ تحفلُ بالفرح والألم: " آه، أنتَ إذاً شقيقُ شيرين؟ ". فلما أومأ الشابُ برأسه، فإنّ الآخرَ استمرَ فيما يده الحاملة سماعة الهاتف ما تنفكّ معلقة بالهواء: " وأخوها أيضاً، فرحات، أقامَ معها في الشقة..! "
" فرهاد، أجل "
" اختفى بهدوء وصمت، تماماً مثلما عاش هنا! ثم علمتُ من رجلٍ عراقيّ، كان مستأجراً لدينا، أن شقيقك هاجرَ إلى فرنسا.. أو ربما اسبانيا؟ "
" إلى السويد، نعم. لقد توفيَ هناك، وذلك في نهاية العام المنصرم "
" آه، يا له من قدَر! كانا كلاهما بغاية الطيبة والكرم.. أعني، شقيقيك الراحلين! لهما الرحمة والمغفرة "، قالها البوابُ بنبرة مُسلّمة بينما يده الحاملة السماعة تلوّح في الهواء مجدداً. كونها اليد اليمنى، كان من المحتمل أنّ صاحبها فكّرَ باستعمالها لمصافحة الشاب على سبيل التعزية. بيدَ أنه، بعد دقيقة واحدة، استعملها لشيءٍ أجدى دنيوياً: مندهشاً بشدّة، تمعّنَ في ورقة مالية من فئة العشر دولارات وهيَ تتمدد على كفه الأسمر بحلّتها الخضراء، الباهتة اللون ـ كما عمامة مولانا " بلعباس " المقدسة، المنتصبة على شاهدة ضريحه في باب لخميس والمظللة الصندوقَ المتخم بمال المتصدقين من ذوي الحاجات والأمنيات.

***
" الحرمان من طفل، هوَ مبعثُ هذا النفور بين ابني وامرأته. مع أنني رافقتها مراراً إلى مقام سيدي بلعباس، ولم نبخل بالأعطيات في كل مرة! الأسوأ، أخلاقها العسرة وقلة احترامها لرجلها وخصوصاً بعدما بدأت تعمل في تلك الخرق الملوثة بالزيت والأصباغ! "، خاطبت الأمُ السيّدةَ السويدية متنهدةً بكرَب بين الجملة والأخرى. الابنةُ الصغرى، كانت تتولى الترجمة إلى الفرنسية، " مع بعض التصرّف "؛ على حدّ تعبير ضيفهم المغربيّ. وكان " عبد الإله " في الأثناء شاردَ الفكر، وكما لو أنه يستعيدُ صورةَ كنّة الدار، المثيرة المرحة، متعسّراً عليه تخيلها في حالةٍ مُغايرة. فيما بعد، أجازَ لنفسه تفسيرَ مسلكها الفظ مع رجلها: " إنه العَصَاب، بلغة الطب النفسيّ. لقد انتزعها من براءة الطفولة، ولم تهنأ أيضاً بمراهقتها. فهيَ تنتقم لنفسها منه وعلى طريقتها "، قال للسيّدة وهما في السيارة بعد مغادرتهما الفيللا على أثر الفطور.
لعل " تينا " تصوّرت عندئذٍ ما عناه في مختتم جملته، وأنّ ذلك كان يبعث فيه نشوة خفية لدرجة الإنعاظ. وربما كانت على السبيل نفسه، نظراتُهُ الخاطفة عبرَ المرآة الصغيرة، المصوّبة بين فينة وفينة إلى " سيامند " القابع في مقعد السيارة الخلفيّ. كانت نظرات غير مريحة، فيها ما فيها من ضيق ونفور وانقباض. لاحَ لتفكيره الأخرق، والطريف في آنٍ معاً، أنّ بوسع الشاب أن يكون منافساً خطيراً بسنّه ووسامته وغناه. ثمة في مقابل منارة الكتبية، فاجأها حينَ نزل من السيارة مع علمه بأنها تريد محادثة " سيامند " في المقهى على انفراد. ولكنه ما عتمَ أن دارَ حول مقدمة السيارة بحركة ديكٍ مختال، مجروح الكرامة، كي يفتحَ لها باب السيارة: " تفضلي، يا سيّدتي! "، خاطبها بتلك الحركة المسرحية المضحكة.
لقد تكوّنَ لديه انطباعٌ ثابت عن الشاب، الذي ظهرَ بطريقة غامضة في مراكش قبل وصولهما بنحو أسبوعين: " كما تعلمين، دعاني قبل يومين لزيارة شقته. وقد لحقَ، هذا الشابُ الطائش، أن يدعّمَ صالة الشقة ببار مملوءٍ زجاجات خمر. رائحة عطر نسائيّ، كانت تأتي أيضاً من حجرة النوم. ولا أقصدُ احتمالَ أن تضل ابنة أسرة محترمة طريقها إلى الشقة، مدفوعةً برائحة الذهب مثلاً!.. لا، بل الأرجح أنها مجرد مومس ما "، قالها مجعداً فمه بحركة ماكرة امتحّها ولا شك من قريته الأولى. وإنها لحركة تثير دوماً امتعاضَ " تينا "، كونها تعيدها إلى ماضٍ تحمّر منه خجلاً وعاراً.


5
" الشقة بقيت على حالها تقريباً، ولكن ساكنيها هم من يتغيرون باستمرار "
قالها البواب متفاصحاً، فيما يقود المستأجر الجديد من حجرة إلى أخرى. ثم أضافَ الرجل بالنبرة الوقورة نفسها " قد يخطر ببال المرء أنّ لعنة حلّت بالشقة، نظراً لأن من أقام بها إما مات بطريقة مأسوية أو انتهى إلى السجن ". المفردة الأخيرة، شدد عليها العملاق العجوز بغية إثارة فضول " سيامند ". فلما خابَ رجاؤه، فإنه استمر بالقول: " رحم الله من رحل، وأعانَ أولئك الرازحين وراء القضبان! "
" آمين.. "، نطقها الشابُ باقتضاب وتلقائية. لاحَ أنّ العجوزَ انتبه إلى كونه قد آذى مشاعر المستأجر الكريم، عندما تعرّض لسيرة السجن: ألم يتم توقيف شقيقته، " شيرين "، بتهمة قتل المقيم الفرنسيّ؟ وشريكها في الجريمة، " سيمو "؛ ألا يقضي الآنَ فترة عقوبته على أثر إدانته من لدُن المحكمة؟
على ذلك، استدرك الرجل مُحرجاً وهوَ يداعب ذقنه الخشنة بكفّه الضخمة: " أظنني ذكرتُ لك، أنّ مستأجراً عراقياً سبقَ وأعلمني بخبر سفر شقيقك الراحل؟ حسناً، لقد انتهى به الحال إلى السجن بسبب قذفه امرأته من أعلى ترّاس مقهى كافيه دو فرانس. ولكن الزوجة لم تمت، بل كُسر ظهرها وباتت مُقعدة. قبل اقترانه بها، كانت لديه مشاكل عديدة مع النساء؛ غواني وأضرابهن. وكان يصطحب بعضهن إلى هذه الشقة، التي انتقل إليها عقبَ.. عقبَ.. نعم، لم يكن يستطيع كبح شهواته! والآن، انظر إلى أين انتهى؛ إلى السقوط بين براثن من هم أكثر شراً منه، بين مجرمين لوطيين لا يخشون الشرطة ولا حتى نائب الملك! ".
في أثناء تلك الثرثرة، كانا يتفقدان الشرفة الشبيهة بالتراس. كانت غير مسقوفة، كبيرة المساحة، مفتوحة من ثلاث جهات على ما حولها من أبنية ومناظر. وفكّر الشابُ عندئذٍ، مُقلّباً حكاية البواب في رأسه: " لعله أختلق حادثة الترّاس كي يُداري تلميحه إلى الحادثة الحقيقية، المتورطة فيها المسكينة شيرين؟ ". مئذنة مسجد، مربعة على طريقة المنائر الأندلسية، ظهرت لعينيه بشكل جزئيّ وسط العمارات الشاهقة وغالبيتها فنادق ونزل سياحية: " غداً سأزور قبرها، وقد يمكنني أيضاً اصطحابَ خجي الصغيرة "، خاطبَ داخله بينما كان العجوز يرتاح على كرسيّ وحيد وجده على الشرفة.

***
ساحة جامع الفنا، صباحاً. مدخل فاره، يتصل بين حداثة الشارع ذي الاسم الملكي وألف عام من تاريخ المكان.. يتصل بينهما على وقع عزف " الغناوة "؛ جوقة الطبول والدفوف، المنتمية لقارةٍ يهربُ منها شبابها عبرَ المضيق المبشّر بالموت ـ كما كانَ اسمُ الساحة يعني الفناءَ، المصاحبَ لجرّ دفعاتٍ من المحكومين بالإعدام إلى نطع الجلاد.
صباحاً، تغدو الساحة على منقلبٍ آخر غير متصل بكرنفالها الليليّ، اليوميّ. تصبحُ أقربَ لصفة أسواق البدو، المقامة عادةً خارجَ المدن. عندئذٍ يُنير ضوءُ النهار واجهاتِ المحلات، المتصدرة المكانَ بالزرابي الثمينة، المنقوش نسيجُها بمهارة أنامل نساء البربر؛ بالأثواب التقليدية، الزاهية الألوان ( ذكّرت السيّدة السويدية بملابس النسوة الكرد في احتفالات نوروز ستوكهولم! )؛ بالمصنوعات الجلدية؛ بالمصوغات الفضية؛ بالطنافس والخناجر والرماح والبنادق وهلمجرا..
وكان على السيّدة أن تتذكّر كذلك صديقها الراحل، وهيَ جالسة بمواجهة " سيامند ". إنها على شيء من العلم، بأنّ حضوره إلى المدينة الحمراء يُعد نوعاً من التكفير عن أخطاء أرتكبها بحق أخويه غير الشقيقين في خلال الفترة السابقة مباشرةً لسفرهما إلى الخارج. سيرته تلك، كانت على خلفية ورثٍ كبير من العقارات آل إليه بعد وفاة الأب. هذا الأخير، كونه شديد الشح والحرص علاوة على جفاف الطبع واللؤم، جعل الابنَ الوارث عاجزاً عن السيطرة على ذاته. فاندفع كل اندفاع في حياة البحبوحة والرفاهية واللهو والقصف والمجون. وكل ذلك، كان على حساب حرمان أخويه من أمه، اللذين رفض زوجها تسجيلهما باسمه خشية أن يشاركا ابنه في الميراث.
ولكنها لم تأتِ لرؤية " سيامند " كي يُبعَثَ الموتى من رقادهم، سعيدين بمشاعر تأنيب الضمير وتبكيت الذات. في المقابل، أسعدها انقلابُ أخلاقه المفاجئ والمتواشج مع انفتاحه على حركة كردية ـ ماركسية، عابرة للحدود، تكافح في سبيل التحرر الوطني بالدرجة الأولى. صدى الذكريات، كان يتردد إذاً في سمعهما كلاهما ـ كوقع طبول ودفوف الساحة إلى الأسفل من جلستهما، هنالك على تراس الكافيه دو فرانس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى