الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: الفصل الخامس 2

دلور ميقري

2018 / 8 / 14
الادب والفن


الشوارع المتصلة بالمدينة القديمة، كانت أشبه بأذرع الأخطبوط، تتلقف الكائنات كي تسلّمهم لفم ساحتها، الأشدق. جاز للسيّدة السويدية أن تتصوّرَ مَن تدعوه، " عبد "، على صفة ذلك الحيوان البحريّ. واتتها الفكرةُ، قافزةً من المنضدة البعيدة على الطرف الآخر من التراس، أينَ جلس الرجلُ للتو مع امرأة أجنبية ذات شعر أشقر، أو مصبوغ، يبدو أنها سائحة. كونه على علم أكيد، بأن هذا المقهى هوَ المكان المألوف للقاءاتها مع " سيامند "، فإن " تينا " لم تستبعد احتمال أن يكون حضوره مقصوداً. إنها لا تكاد تعرف شيئاً، حتى لحظة ظهوره الآن، عن ماضيه أو حاضره. ولو أن حقيقة واحدة، على الأقل، كانت متيقنة منها مع بعض التشكك والحذر: " عبد الإله " هذا، لم يكن مختلفاً كثيراً عن هؤلاء المغتربين، الذين يعودون إلى بلدهم مع حلول الربيع ليختالوا أمام مواطنيهم البسطاء بالسيارات الخاصة ذات العلامات الأوروبية؛ بمحافظهم المتخمة بالأوراق الخضراء، أو دفاتر الشيكات.
" ولكن حتى السيارة العتيقة، المتبختر بها مذ يوم وصوله لمراكش، حاك أسطورة حول موضوع استعارتها "، داورت هذه الفكرة في ذهنها وقد طافت ابتسامة ساخرة على شفتيها. لقد عرفت اتفاقاً، هناك في رواق الفنون، أن علاقة الرجل بالأدب لا تعدو عن كونها تطفلاً. خصلة التطفل، أظهرَ كم هيَ عريقة فيه آنَ مدّ خيطه العنكبوتيّ لاصطياد امرأة شابة، غريبة، كانت ترسل نظرات حزينة من خلال نافذة مقصورة الدرجة الأولى في القطار المتجه إلى مراكش. ثم أي ألفاظ سوقية، بادر إلى استعمالها في مستهل تعارفه معها: وصفه لكاتب مغربيّ شهير بأنه حقق النجومية بفضل " شرجه "، المباح للمقيمين الغربيين؛ تعليقاته الممجوجة، الفظة البذيئة، على مسألة الخلاف بين كنّة الأسرة المحسنة والابن الوحيد؛ كلامه، المشحون بلمز مماثل، في خصوص علاقة الابنة الصغرى للأسرة مع " سيامند ".
فما أن نطقَ سرّها اسمَ الشاب، إلا وتحرك هذا على كرسيه متململاً. قال لها هازاً رأسه بدلالة ازدراء، بعدما استردَ بصرَه بدَوره من الطرف الآخر من التراس: " بالأمس، نصحني ألا أذهب بعيداً فيما دعاه، ‘ علاقاتي مع فتيات المدينة ‘، كون أغلبهن مصابات بفيروس السيدا "
" إنها سائحة أوروبية، كما تدل هيأتها. وعلى أيّ حال، أوافقك بأنه شخص فضوليّ وثرثار "
" أدركتُ منذ البداية، أنه فرضَ نفسه عليكِ فرضاً بطرق الخداع والزيف "
" بلى، مع أنني لا أنكر معروفه حينَ وضع نفسه في خدمتي كما لو أنه سائق خاص أو مرافق. أود مكافأته على ذلك، ولكنني على حيرةٍ بشأن طريقة مناسبة لا تجرح كرامته "
" كرامته؟ في وسعي أن أحدّثك مطولاً، وعن تجربة، عن كرامة الكثيرين من أمثال هذا الطفيليّ! "، قالها وهوَ يطلق من فمه دخانَ السيجار الثقيل كذكرياته المثقلة بها ذاكرته.
الشانئ الآخرين بالسّفه، كان بنفسه ضحيةَ غروره زمناً. الأمرُ، بدأ مع وضع " سيامند " يده على إرث الأب من العقارات العديدة وكان لمّا يبلغ بعدُ سنَّ العشرين. وإذا بأتراب الطفولة والصبا، الذين كانوا ينبذونه بتحريضٍ من أهاليهم على خلفية نميمة عن ماضي الأم الهاربة بأخويه الكبيرين من تركيا، إذا بهؤلاء يلتفون حوله ويتخاطفون مودته ـ كما يفعل أولادٌ مع دمية سليمة، عثروا عليها مرمية على طرف الطريق، وسط النفايات، مغمورة بالغبار والبصاق وربما البول أيضاً!
لم تعُد " تينا " لتتحمل المزيد من الحديث عن ذلك الشخص، ولا أيضاً رؤيته على مبعدة خطوات قليلة من موقفها. نهضت فجأة لتقفَ مع شعرها العسليّ، المتطاير من تحت القبعة المستديرة. أدارت ظهرها لصديقها الشاب، مطلّة على المشهد المثير تحتها وهيَ ملتصقة بحدّ التراس، الحديديّ المشغول، وكان يزداد سخونة تحت شمس الظهيرة: " هلم نمضِ إلى الشقة مشياً، ما رأيكَ؟ "، سألته ثم أردفت القول دونَ أن تلتفت " أنتَ مدعو على مائدتي، وستكون وجبة الغداء طاجين الدجاج مع الخضار ".
استفهم منها الشاب، وهما يخترقان زحامَ مدخل سوق السمارين، عما إذا كانت تعلمت طريقة تحضير الطاجين على يد " ذلك الطفيليّ ". التفتت إليه باسمة، لتلتقط تعبيرَ الضيق على فمه المزيّن بشارب أنيق، خليق بباشاوات المشرق أيام زمان ( ألم يكن أخواه غير الشقيقين يعتقدان بانتماء أبيهما لسلالة أمراء كرد! ). وكان ما ينفكّ محتفظاً بين شفتيه بعقب السيجار الخامد اللهب، مما ضاعفَ من تأثير صورته، الموصوفة. على أن ذلك المشهد أضحى على منقلبٍ آخر، لما أجابت " تينا " باقتضاب وبعض العبوس: " بل إنه فرهاد.. ". ثم ما لبثت أن أمسكت بمعصمه، قائلة لتغيير مجرى الحديث " من الممكن أن نطيل طريقنا، بأن نعرّج على درب القبة المرابطية، وبذلك نضمن وصولنا للشقة مع بطنٍ يئنّ جوعاً! "
" ولكن صالة رواق الفنون، الخاصة بجمعية الشعر، لا تفتح إلا مساءً. مثلما أنّ اليومَ ليسَ هوَ الجمعة..؟ "
" بلى، أعلم ذلك "، قاطعته واستمرت فيما أصابعها تشدّ بودّ على معصمه: " سنمرّ من أمامها، حَسْب. الدرب هنالك يُعجبني جداً، بمنحنياته وأرضيته الحجرية وأقواسه وقناطره، وأيضاً بما يشيع فيه من أفياء فاترة وغامضة ". ثم تابعت بنبرة ناعمة، وحزينة في آنٍ معاً: " كذلك يعبق الدرب بروائح عطور من ألِفَهُم زمناً؛ من صاروا الآنَ تحت التراب أو تحت سموات أخرى ". وأخذت تردد أسماءَ بعض رواد المكان أولئك، وكأنها تترنم بها على إيقاع طبول ودفوف الساحة، الذي ما يفتأ يصدى في سمعهما كلاهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض


.. تقنيات الرواية- العتبات




.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05


.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي




.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من