الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاصطدام بالشخصيات المقدسة (3)

طلعت رضوان

2018 / 9 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الاصطدام بالشخصيات المقدسة (3)
طلعت رضوان
عندما قرّرتُ الكتابة عن د.جمال حمدان كنتُ أعلم درجة القداسة التى أسبغتها الثقافة المصرية (والعربية) عليه بسبب موسوعته الشهيرة (شخصية مصر) وكانت ذروة المفارقة/ المأساة أنّ المتعلمين المصريين الكبارالذين مجـّـدوه لم يهتموا بكلامه الذى نفى فيه أية خصوصية للشخصية المصرية، ولا للثقافة القومية المصرية..والأخطرعندما ردّد كلام البكباشى عبدالناصربأنّ مصر(عربية) وأحزننى أنّ المتعلمين الكبارالمحسوبين على الثقافة السائدة (من روائيين وباحثين إلخ) كان من بينهم معظم الماركسيين..وبالرغم من ذلك كتبتُ مع علمى بصعوبة النشر(بسبب طغيان القداسة السائدة) وعملتُ بالأهزوجة التى (آمنتُ) بها طوال مسيرتى الحياتية والثقافية (اعمل اللى عليك..وما تفكرش فى النتايج)
ويجب أنْ أعترف فى البداية أنّ الدكتورجمال حمدان مثقف موسوعى بلا أدنى شك..ولكن قراءاته الموسوعية تغلبتْ عليها الأيديولوجيا التى تــُـفسد البحث المتجرّد من أية نوازع عرقية أودينية..فهويرى أنّ الامبراطوريات القديمة (الفرس والرومان إلخ) كانت استعمارية (وهذا حق) بينما ((الدولة العربية كانت امبراطورية تحررية..فهى التى حرّرتْ كل هذه المناطق من ربقة الاستعمارالرومانى أوالفارسى واضطهاده الوثنى وابتزازه المادى)) وبعد أنْ إمتدتْ الامبراطورية العربية من أطراف الصين إلى أبواب فرنسا ((أصبحتْ دارالإسلام دارالعرب الكبرى)) ونظرًا لوعيه بالطبيعة الجغرافية لصحراء العرب، طرح السؤال التالى ((لاشك أنّ مايدعوإلى الحيرة والتساؤل أنْ تستطيع قوى الصحراء الطاردة (قاعدة أرضية شبه خاوية وموارد طبيعية شحيحة وإنتاج اقتصادى متواضع) أنْ تُقهروتُخضع قوى البروالبحرالتقليدية العتيدة: فارس شرقًا وروما غربًا؟)) وبعد أنْ طرح تساؤله أجاب ((علينا ابتداءً أنْ نُسلم بأنّ هناك قوى ميتافيزيقة تكمن خلف هذه الدينامية المتفجرة والحيوية الدافقة..ولاشك أنّ جذوة الحماس الدينى المُـتقدة هى التى ألهبتْ خيال المؤمنين حتى تحوّلتْ بهم إلى شعلة ملتهبة وتحوّلوا هم بها إلى مشعل مضىء)) (وهذا كلام يقوله كل الأصوليين الذين لايعتمدون إلاّعلى المرجعية الدينية) ورغم تركيزه على أنّ الامبراطورية العربية كانت تحررية..وقع فى التناقض عندما كتب ((والخلاصة أنّ القوة العربية الصاعدة مع الإسلام..وإنْ بدتْ قوة صحراء ورعاة، خرجتْ عن وصاية الصحراء لتضع قوى العالم الكبرى البرية والبحرية تحت وصايتها)) وبينما يرى أنّ الحملات الصليبية كانت دوافعها مادية اقتصادية (لنهب ثروات الشعوب واحتلال أراضيها وهذا حق) وبالتالى فإنّ رفع الشعارات الدينية زيف وبطلان، فإنّ العرب (وحدهم) لم تكن لهم أطماع مادية اقتصادية ((وأنّ أخوة الدين كان يُـقابلها أخوة الأقاليم..وسواسية الناس كانت تترجم سياسيًا إلى سواسية الولايات والمقاطعات..وأنّ الدولة العربية الإسلامية كانت شركة مساهمة بين كل أعضائها وأطرافها..وأنها لم تمربالمرحلة الاستعمارية المشينة..والحقيقة أخيرًا أنّ دولة العرب الإسلامية هى أول فصل فى جغرافية التحريروأبعد شىء عن جغرافية الاستعمار)) ورغم إصراره على هذا ذكرالحقيقة المُـتفق عليها بين علماء الأنثروبولوجيا إذْ كتب ((أنّ الصراعات لاتخرج عن معادلة محددة بعينها هى الصراع بين الرعاة والزراع. بين الرمل والطين، حيث نجد هجرات الرعاة وغزواتهم، ابتداءً من الآراميين إلى الكنعانيين والفلسطينيين والعبرانيين إلخ تتواترخارجة من قلب الجزيرة العربية خاصة إلى كل المناطق الزراعية المجاورة للهلال الخصيب ووادى النيل. كانت هذه الموجات تزحف آلاف الأميال لتهوى عاتية كالمطرقة على مناطق الاستقرار)) (أنظركتابه استراتيجية الاستعماروالتحرر- دارالشروق عام 83من ص13- 32) وهوالكتاب الذى (تتجاهله الثقافة السائدة) وبنفس السبب الذى ذكره د.حمدان عن الصراع بين (الرعاة والزراع) تم للعرب غزومصروفارس وغيرها من البلاد المتحضرة..فلماذا ناقض نفسه واعتبرأنّ الامبراطورية العربية تحررية وليست استعمارية؟ هل هناك سبب آخرغيرالأيديولوجيا التى تــُـفسد الموضوعية؟
وهذه الأيديولوجيا هى التى جعلته يتطابق مع الثقافة السائدة بعد يوليو52 التى نفتْ عن مصرخصوصيتها وجاهدتْ كى تـُرسّخ تلك المقولة الزائفة (مصرعربية) وحاول د.حمدان أنْ يبدوموضوعيًا فذكربأسلوبه الأثيرفى التلاعب بالألفاظ أنّ مصر((فرعونية بالجد ولكنها عربية بالأب)) (شخصية مصر- طبعة هيئة الكتاب المصرية عام 2000ص12) ورغم اعترافه ب (فرعونية الجد) ألزمه توجهه الأيديولوجى إلى أنْ يذكرأنّ ((الحضارة الفرعونية ماتتْ فى مجموعها..ولايتبقى لنا فى تاريخ مصرسوى انقلاب التعريب الذى من بعده أصبحتْ جزءًا لايتجزأ من العالم العربى)) وبعد أنْ ركزعلى الانقطاع الحضارى لمصركتب ((هناك من يحاول أنْ يُبالغ فى جانب الاستمرارية فى كياننا، لا ليُبرزأصالة ما ولكن ليُـقلل من جانب الانقطاع..وبالتالى ليُضخم فى البعد الفرعونى فى تاريخنا، فـيُـبعدنا بذلك عن عروبتنا..والهدف هوتخريجات سياسية ترمى إلى التشكيك فى عروبة مصروبالتالى عزلها عن العالم العربى)) ثم يُصرعلى عروبة مصرفذكر((حين التقى العرب بالمصريين وتصاهروا لم يكن ذلك فى الحقيقة إلاّ لقاء أبناء عمومة أوأخوة فى المهجر)) ورغم قرابة الدم وفق تعبيره فإنه تجاهل أنّ العربى الذى غزا مصراستمتع بالمصريات باعتبارهنّ من الأسرى والعبيد..وإنْ قبل الزواج (بعد قرون) من المصريات فإنه رفض زواج المرأة العربية من أى مصرى، وعبّرتْ أمثالهم عن هذا التعصب العنصرى فى المثل العربى الشهير((يأكلها التمساح ولايأخدها الفلاح)) ثم يُـلح على أبوة العرب لنا نحن المصريين وأنهم ((الأب الاجتماعى بالدرجة الأولى وليسوا الأب البيولوجى إلاّفى الدرجة الثانية حيث كانوا بالضرورة أقلية عددية بالقياس إلى المصريين)) والأخطرمن ذلك أنّ العرب ((عرّبوا مصرثقافيًا.. بينما مصرمصّرتهم جنسيًا)) فإذا كان الأمركذلك فلماذا ظلتْ الثقافة القومية التى أبدعها الأميون المصريون على النقيض من الثقافة العربية ؟ (لعلّ أبرزها تعددية الآلهة المصرية التى انتقلتْ إلى الاحتفال بالقديسين ثم الأولياء، مقابل الوحدانية العربية) سؤال تحجبه الأيديولوجيا رغم سطوعه كشمس بؤونه..ويرى سيادته أنّ التمسك بالخصوصية القومية مثل الفرعونية والفينيقية ((دعاوى رجعية لنفى القومية العربية..ومضاربة القومية الشاملة بالوطنية المنغلقة..وهى لهذا مرفوضة ابتداءً ودون مناقشة)) إلى هذه الدرجة جعلته الأيديولوجيا يرفض المناقشة من حيث المبدأ على أساس أنه هوالوحيد الذى يملك (الحقيقة المطلقة) والدليل على ذلك أنه وصف من يتمسكون بخصوصيتهم القومية ب (الجهل) وكتب بلغة العاطفة أنّ مصرهى ((الشقيقة الكبرى للعرب)) ولم يسأل نفسه لماذا تفرض السعودية وغيرها نظام (الكفيل) على أبناء الشقيقة الكبرى؟ سؤال تحجبه الأيديولوجيا التى دفعته لأنْ يكتب عن زعامة مصرللعرب قائلا ((لعلّ الاختبارالنهائى لزعامة مصرأنْ ترقى إلى مسئوليتها عن استرداد فلسطين للعرب)) (المصدرالسابق من ص 211- 240)
هكذا نجد أنّ د.حمدان لم يختلف عن كتــّاب مابعد يوليو52فى الترويج لعروبة مصر. بل إنه ردّد أفكارعبدالناصرالذى قال أمام الشعب السورى ((كنا نشعربكم فى هذه المنطقة من العالم وقد عزلونا عنكم وأرادوا أنْ يقيموا فى مصربلدًا يتنكرلعروبته وينتمى إلى الفرعونية)) (خطاب 9/3/58) وقال أيضًا ((واستطعنا أنْ نرى أنّ الدعوة الفرعونية التى حاول الاستعمارأنْ يبثها بيننا ضمن الدعوات الأخرى إنما هى محاولة زائفة ، يُحاول الاستعماربها أنْ يُقسّم الأمة العربية ليقضى عليها جزءًا جزءًا ويقضى على العرب والقومية العربية ليحل محلها قوميات أخرى)) (خطاب 22/7/59) هذا التطابق بين كتابات د.حمدان وكلمات عبدالناصر، دفعتْ أحد مريدى د. حمدان (د.عبدالوهاب المسيرى) أنْ يُعلن اكتشافه الخطيرفكتب ((...ولنتوقف هنا لأشيرإلى حقيقة غائبة عن الكثيرين: جمال حمدان بلا منازع هوواحد من أهم فلاسفة ثورة 23يوليوفقد بلور رؤيتها للذات وللكون وللآخر، ووضع الأسس الفلسفية لمشروعها الحضارى الثورى..ونظّرللصراع العربى الإسرائيلى إلخ)) (من مقدمته لكتاب اليهود أنثروبولوجيًا تأليف د.جمال حمدان- دارالهلال- فبراير96ص20) فكيف نظرد.حمدان (أهم فلاسفة ضباط يوليو) لليهود الذين احتلوا فلسطين؟ من عنوان الكتاب إلى المتن حتى آخرصفحاته يُرسخ لمقولة أنّ يهود اليوم غيريهود التوراة مرتكزًا على الـبُعد الأنثروبولوجى من ذلك قوله ((وفى النتيجة يكاد يـُـصبح جسم اليهود فى آخرالمطاف شيئًا مختلفـًا أنثروبولوجيًا عن يهود التوراة إنْ لم يكن لاعلاقة له بهم تقريبًا)) وهوفى هذه الفقرة يتجاهل مرجعية الصهيونية الدينية فى احتلال فلسطين، ثم يـُـناقض نفسه إذْ كتب ((إنّ اليهود اليوم ليسوا من بنى إسرائيل..وأنّ هؤلاء شىء وأولئك شىء آخرأنثروبولوجيًا..وألاّرابطة بين الطرفيْن إلاّ الدين والدين فقط)) (المصدرالسابق ص 173، 181) لقد أجهد سيادته نفسه فى بحث عقيم، إذْ أنّ العبرة بواقعة الاحتلال الذى تأسس على مرجعية دينية، فتـمّ تجميع اليهود من شتى الدول التى كانوا يعيشون فيها..وهذه حقيقة يعرفها أصغرباحث وأنّ ماذكره د.حمدان هو(تحصيل حاصل) ولكن الأخطرهورؤيته لحل مشكلة فلسطين فيرى ((كل حل لايُعيد الوضع إلى ماكان عليه قبل 1948بل قبل 1918مرفوض بلا نقاش..وكل حل لايُزيل إسرائيل من الوجود لامحل له من البحث العلمى)) لذلك كان مُـتسقــًـا مع نفسه عندما وصف إسرائيل بالدولة ((المزعومة)) (المصدرالسابق ص 49، 50، 60) فى تطابق تام مع العروبيين والناصريين، إذْ ورد فى محضرالقيادة السياسية الموحدة فى مايو65(( أنّ القيادة السياسية الموحدة تؤكد تمسكها بما قرّره مؤتمرالقمة العربى الثانى فيما يختص بخطة العمل العربى الجماعى فى تحريرفلسطين التى قرّرتْ أنّ الهدف العربى هوالقضاء على إسرائيل)) (نقلا عن ضابط المخابرات المصرى فتحى الديب فى كتابه عبدالناصروتحريرالمشرق العربى- مركزالدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام- عام 2000ص688) وفى مايو67قال عبدالناصرإننا ((سنُدمرإسرائيل إذا بدأتْ هى بالعدوان)) (مذكرات عبداللطيف البغدادى- المكتب المصرى الحديث- عام 77ج 2 ص 270) وكتب أ.هيكل أنّ ((إسرائيل لامستقبل لها فى المنطقة..وأنّ المدى القصيرلصالح إسرائيل..والمدى الطويل لصالح العرب)) (أهرام 8/6/73)
وإذا كانت إسرائيل أصبحتْ دولة عظمى فى منطقة الشرق الأوسط، فما دلالة كل الخطاب العروبى الانشائى؟ وما دلالة الإصرارعلى نفى خصوصية شعبنا المصرى؟ وإذا كانت الثقافة السائدة رفعتْ من شأن جمال حمدان لأنه تبنى مخططات عبدالناصرالذى شطب اسم مصر، فإنّ أ.أحمد أمين كتب ((العرب أزالوا استقلال فارس..وحكموا مصروالشام والمغرب وأهلها ليسوا عربًا، فاستتبع ذلك أنّ كثيرًا من الفرس كانوا يحنون إلى ملكهم واستقلالهم، وكثيرًا من نصارى الشام ومصركانوا يكرهون العرب المسلمين الذين أجلوا الروم النصارى عن بلادهم، ويتمنون أنْ يحكموا أنفسهم بأنفسهم)) (ضحى الإسلام- مكتبة الأسرة عام 97ص 76) وهكذا يكون أحمد أمين (رغم تخصصه فى الإسلاميات) أكثروعيـًـا وتحضرًا من جمال حمدان، لأنّ الأول وعى أهمية الخصوصية الثقافية لكل شعب..وهوما أبرزه علماء علم الأنثروبولوجييا، بينما الثانى لم يهتم بهذا العلم..وكرّس (ثقافته) للترويج للمُـخطط الأنجلو/ أميركى/ الناصرى (تعريب مصر) بدلامن (تمصيرالعرب)
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24