الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاموك- رواية- (64- 70)

وديع العبيدي

2018 / 9 / 13
الادب والفن


وديع العبيدي
كاموك
(رواية)

الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!


(64)
كنا نتمشى في أمكنة جديدة عليّ.. لم يسبق لي التعرّف إليها.. لندره هذه مدينة عجيبة.. مدينة سحرية.. تمنيت لو لم تكن عاصمة كولونيالية.. لو كانت سويسرا أو النمسا أو تشيكيا.. لا يعيبها غير تاريخها العدواني وطموحها المريض الذي ترسمه نساء مريضات.. أكثر بلد تسوده النساء وأكثر بلد غارق في الدم.. ولكنه من الداخل جميل الترتيب والتنظيم..
لو كانت قلعة الاشتراكية بدل موسكو لما سقطت أبدا.. لكنها أتبعت الطمع وغويت بالتسلط وظلمت نفسها.. ماذا كان يفعل ماركس هنا إذن.. يبحث عن الدفء في أروقة المتاحف.. لأن زوجته البارونة تهجره دائما وتهرب مع أطفالها من الفقر والشحاذة..
إذا قلت أكرهها لا أكون صادقا.. وإذا قلت أحبها لا أوافق نفسي.. مهما تصفحتها تتكشف عن أسرار ومفاجآت.. لأول مرّة كان عليّ أن لا أفكر في المكان.. لا أسأل عن اسم المنطقة وكيف أعود إليه.. كلّ ما عليّ هو الكلام والكلام والمسير والحياة على السّجية..
وفي الغالب كنت أنا وحدي أتكلم.. أقول شيئا وأتفرع منه ثم أعود وأعقب عليه وأبين ملاحظاتي عنه.. لم يكن يهمّني ماذا قال الآخرون.. ولتفادي الحرج.. صرت أسبق أفكاري المحرجة بعبارة – برأيي الخاص، حسب وجهة نظري، حسب اجتهادي، هذه هي قراءتي للموضوع- وهكذا لم أسمح لأحد بمداخلة أو إبداء رأي..
سيكون للجميع وقت كافٍ للردّ والمناقشة والاعتراض، بعد انتهاء المحاضرة..
المهم أن أقول آرائي قبل أن أموت.. وهكذا أبرئ ضميري أمام الوجود.. فالانسان مجرد رأي ، بعض فكرة.. ماذا يبقى من البشرية غير بضعة أفكار.. طبعا..
هل تعتقد بوجود وليمة لحوم وأعضاء بشرية سوف تقدم ذات يوم.. المناسبة الوحيدة للوليمة هي النار المحرقة.. لكن الفكرة لا تحترق.. من الفكرة تخرج فكرة.. والحياة فكرة.. الوجود فكرة..
الإنسان مجرد تجسيد لفكرة.. الحضارة تجسيد هندسي لمنظومة من أفكار.. مجرد اختبار لمدى نجاعة الأفكار.. وقدرة نجاح خلايا العقل في معالجة الفكر.. وظيفة الفلسفة هي إنتاج الأفكار.. إنتاج الأفكار أفضل من إنتاج شيء آخر كالأطفال مثلا.. طبع الكتب أفضل من طبع البنكنووت..نوت.. حلقات المناقشة أفضل من اجتماعات التسبيح وتبجيل الحاكم..
عندما ارتقينا التلة صارت لندره تحت.. في كل الإتجاهات ترى المدينة تحت.. العمارات والشوارع والأبراج والسيارات تحت.. السماء قريبة والأرض بعيدة.. البشر صغار مثل الذرات.. هل نلتقط صورة هنا.. قف من هذه الجهة.. طيب أنا ألتقط الصورة.. سرنا قليلا وغيّرنا الإتجاه والتقطنا صورة أخرى..
صارت لدينا مجموعة صور جميلة.. صورنا لندره من جهات مختلفة.. لكن كيف تعرف لندره.. لا يوجد شيء اسمه لندره.. الأبراج والعمارات والشوارع في كلّ مكان.. من أين جاءت تسمية لندره.. لا عليك.. لندره هي فكرة.. مجرّد فكرة.. كل فكرة افتراض.. الإنسان كله مجرد افتراض.. خاطر.. لماذا لا تكون بغداد مثل لندره.. أنت قلت لندره فكرة.. لكن بغداد تاريخ.. واقع.. أقصد.. أريد صورة مع بغداد.. هل يوجد جبل في بغداد.. أنا وأنت نأخذ صورة مع بغداد.. ضحكت.. لا أريد.. هل ضحكت من الفكرة أم من بغداد..
جلسنا على مصطبة البلدية.. كلّ مصاطب البلدية خضراء.. تماهيا مع الطبيعة.. أنا أحبّ الطبيعة.. لكن الطبيعة أيضا فكرة.. والفكرة قابلة للتطور.. هل يأتي يوم لا توجد فيه طبيعة.. محتمل مجيء يوم لا يكون فيه انسان.. ماذا يصبح الإنسان عندما يتطور.. عصفور.. عصف ريح.. كيف تتعبد العصافير.. أعني الكائنات الجديدة التي يتطوّر إليها البشر.. هل ستكون ثمة عبادة على الاطلاق.. مجرد أفكار.. بالنتيجة كلّ شيء يعود إلى أصله.. مجرّد هواء أو ضوء.. مجرّد فكرة..
جلسنا متقاربين.. وجهانا نحو قمة التلة.. طرف المدينة وراءنا.. جعلت جلستي جانبية لكي أنقل نظري بين الطرفين.. كانت الكامره تأتي من الخلف.. خلعنا معاطفنا ووضعناها على المصطبة.. الريح كانت شديدة والهواء بارد على التلة.. الشمس ساطعة ولكن الحرارة مفقودة.. في الصورة لن تظهر البرودة.. ستظهر حرارة الصيف.. الصور أفكار تتحرّك في ذهن الناظر..
لم أتصور أن أتصوّر بهذه الكثرة ذات يوم.. ما التقطته اليوم من صور أكثر مما صورته في كلّ حياتي بمئات المرّات.. قبل اثني عاما راقبت الفتاة النمساوية وهي تضع الفيلم الثالث في الكامره وتصورني من كل زاوية.. من بين ثلاثة أفلام، أكثر من مائة صورة بورتريه استخدمت واحدة فقط في كتابها.. ومن ثلاث ساعات تصورني كامره تلفزة صورتا وصورة.. كذبت علي الفتاة عندما قالت ان الكامره لا تلتقط الصوت.. وكنت أتكلم على السجية.. تكلمت في كل المحظورات.. عندما استمعنا الى جزء من التسجيل ابتسمت.. قالت انهم سيمسحون الصوت.. ثم قالت.. لا بأس.. الكلام عادي.. كلّ هذا سيبقى للتاريخ.. للتاريخ ذاكرة.. والإنسان تاريخ.. ماذا يعني إنسان بلا ذاكرة.. وبلا تاريخ.. ماذا يعني تأريخ.. جلجامش تأريخ.. ذاكرة يعني شعب!..
لقد نجحت أن أجعل لنفسي تأريخا.. يقرأه من يأتي من بعد.. صحيح ليس لي امرأة أو ذرية أو ملاعق ذهب وليالي ملوّنة.. وثياب باهظة الثمن.. لكن عندي تأريخ وذاكرة ناطقة..
لماذا تتجسس المرأة على أفكار الرجل.. عشتار أو خادمتها تجسست على أفكار جلجامش.. من قال ان ملحمة جلجامش كاتبتها امرأة.. ماذا كانت وظيفة المرأة قبل ظهور الرجل.. جميلة هي المرأة عندما تخون.. جميلة عندما تبتسم أو تغضب او تزعل.. ما يتبقى هو الجمال.. عندما يسيح الوقت..


(65)
اللاندلورد قال أنه سيبدل شباك المطبخ.. أمس دخل الشقة من غير أذني.. كنت في المستشفى، ولم يتصل بالتلفون!.. في هذا البلد العلاقات إخوانية وعائلية من منظور اللوردات.. إذا تكلمت سيطردني للشارع.. ولن يحاسبه قانون.. لا يوجد قانون يحاسب لاندلورد.. اللاند لورد هو القانون.. من أنت.. أقصد من أنا.. مجرد جرذ، يعتاش على جلدة الامبراطورية.. القانون لا يحمي الضعفاء..
سيكون لك شباك جديد!..
هكذا قال العامل المشرف.. يقصد أنني سأحمله في جيبي، أو أعلقه على صدري مثل صليب وأخرج للشارع.. كل من يراني سينحني لي اجلالا بسبب شباكي الجديد..
شباك جديد في بيت قديم.. شباك ألمنيوم يتيم في بيت كل شبابيكه خشبية موديل عثماني..
دونت كومبلين.. بي هابي.. يو هاف تو بي هابي.. يو ار ان انكلاند!..
أشعر بجوع دائم.. أشعر بعطش دائم.. لا أستطيع أن آكل بسبب حميّة السكر وفقدان الوزن.. القهوة أصابتني بالادمان .. أحن إلى خبز امي.. إلى تنور أمي الصباحي..
أكثر شيء أذكره من أمي هو خبز التنور.. قميصها الملطخ بالعجين.. وجهها الملفح بلهب التنور.. قبل أن أنهض من السرير أسمعها تكسر أغصان الحطب.. أحيانا أتاخر في النوم وأشمّ رائحة الخبز الحارّ.. أبلّل الخبزة بالماء البارد وأقضمها مثل التورته.. لماذا لم أبق طفلا.. لماذا نكبر ونتعذب ولا نموت..
أمي تعذبت كثيرا وماتت.. كل الذين يموتون يتعذبون.. ومن لا يموت يتعذب.. أنا أتعذب وأتعذب ولا أموت..
فريد هو إسمي الأول.. دعتني به أمي عندما ولدت.. والدي كان يومها في السجن. وعندما عاد إعتقد أن أمي سمّتني على إسم مطرب.. فاختار لي إسم مطرب آخر، لا أدري إن كان يحبّه حقا.. وعندما وعيت على نفسي صرت أغنّي مع نفسي.. عله الله تعود عله الله.. يا ضايع في ديار الله (*)..
لم أعرف أنّ مطرب أمي هو ملحّن هذه الأغنية لمطرب والدي.. وكلّما كنت أغنيها أضيع وأضيع أكثر.. وضاعت أمي وضاع أبي.. وافترقنا الواحد من الآخر، مثل خرزات سبحة فارطة.. عله الله تعود.. أمنية ضعيفة: معناها لعلك تعود.. أضعف حالات التمنّي ما اقترن بلعلّ وعسى..
أين أعود.. حتى المكان انمحى.. والبيت أصبح كومة حجار.. والغرباء عاثوا في المكان(*).. كلنا ضائعون في ديار الابالسة(*)..
أنتقل من بلد إلى بلد.. وكلّما أدخل بلدا.. ينزل الخراب فيه.. هذا ثالث بلد.. أردت الذهاب إلى الصحراء الأفريقية.. لكن الانكشاريين وحرس المرابطين أوقفوني وردّوني..
حتى الصحارى صار لها حراس وقراصنة.. أين هو الأمان يا أبي..
فقدت بشاشتي وابتسامتي الطبيعية التي ولدت بها.. تغير شكلي كثيرا.. في كل مكان يتحاشاني الناس.. وعندما أتحدث اليهم، يقولون.. لقد تغيّرت.. شكلك تغيّر كثيرا.. لم نعرفك!.. لماذا يخشى الناس التغيير.. ماذا يقصدون بالتغيير.. هل فقدان الوزن يعني تغييرا.. أم هو فقدان شيء آخر.. الناس يخافون الفقدان.. وهذا أصحّ.. هل أنا شبح ميت.. يذكرهم بيوم القيامة مثلا؟..
جلست أمام ثانوية كوبلاند وغنيت..
ضاع كلّ شيء للأبد.. ما أظن يرجع بعد..
أنا وفيت الوعد.. والزمن بيه خان!..
لا تقل لي كان كان.. ينفعك ذاك الزمان..
المكان ما عاد مكان.. عيشه بس من غير أمان!..
خلي كَلبك من حديد.. وابتدي جدّه وجديد..
غيّر اسمك العتيق.. وخلي لك اسم فريد!..
ــــــــــــــــــــــــ
• أغنية (عله الله تعود) للشاعر ميشال طعمة، من ألحان: فريد الاطرش، وغناء: وديع الصافي: مقام البياتي. وهي الأغنية الوحيدة التي لحنها فريد الأطرش لوديع الصافي في بداية الستينيات. تقول كلماتها: على الله تعود على الله/ يا ضايع في ديار الله/ من بعدك أنت يا غالي/ ما لي أحباب غير الله/ يلي مرمرت زماني / كانك بطلت تهواني/ يا أبو الأحباب لاقيني/ من بعد غياب هنيني / حاجي من دموعي تسقيني / نشفت دموعي اي والله/ على الله تعود بهجتنا والفراح/ وتغمر دارنا البسمة والفراح / قضينا العمر ولف ضل وولف راح / وضاع العمر هجران وغياب/ لو جاني يوم مرسالك / وطمني يوم عن حالك / لطرب الفؤاد كرمالك / واسجد على أبواب الله!..
• فريد فهد فرحان اسماعيل الأطرش [1910- 1974م] من مواليد سوريا/(السويداء)، عاش واشتهر في القاهرة، ومات في لبنان/بيروت. من عائلة الأطرش المعروفة في جبل الدروز، كانت والدته: الأميرة علياء حسين المنذر (ت 1968م) مطربة تؤدي العتابا والميجنا، أنجبت خمسة أطفال، ثلاثة ذكور وبنتين، اشتهر منهم فريد وأخته آمال/(اسمهان) [1912- 1944م] في عالم الغناء. مات والده عام (1925م): في أحداث الثورة السورية (1925- 1927م)، وهربت العائلة الى مصر/(القاهرة). في القاهرة عمل فريد موسيقيا يعزف على العود، ثم مطربا، كانت أولى أغنياته (يا ريتني طير أطير حواليك) من شعر ولحن الموسيقار الفلسطيني يحيى أحمد اللبابيدي [1900- 1941م]، التي فتحت له باب الغناء في الاذاعة مرتين في الاسبوع، قبل أن يشتهر ملحنا من الطبقة العليا الى جانب القصبجي ومحمد عبد الوهاب. شارك في تمثيل (31) فيلما، وقد كان نشاطه الفني في الفترة (1934- 1974م)، أشهر أغنياته: (الربيع)، وأشهر أفلامه (حبيب العمر).
• وديع فرنسيس الصافي [1921- 1913م] مطرب وملحن لبناني، من ألقابه الفنية: صوت الجبل، مطرب الأرز، الصوت الصافي، عملاق الطرب، قديس الطرب، صاحب الحنجرة الذهبية، مبتكر المدرسة الصافية. بدأ مشواره الفني عام (1938م) في أغنية (يا مرسل النغم الحنون) للشاعر الأب نعمة الله حبيقة، ومن لحنه وغنائه، فازت الأولى في مسابقة ضمت اربعين مشاركة اعدتها الاذاعة اللبنانية. الى جانب مجموعة فنية تضم فيلمون وهبي والاخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، ساهم وديع الصافي في تشكيل شخصية الاغنية اللبنانية الجديدة التي تركز على مواضيع حياتية ومعيشية تتعلق بالشخصية والبيئة المحلية اللبنانية، مثل أغنيته الأولى (طل الصباح وتكتك العصفور)/(1940م) من شعر أسعد السبعلي [1910- 1998م] ولحنه وغنائه. (1944م) زار مصر والتقى محمد عبد الوهاب[1902- 1991م]، [1947- 1949م] اقامة في البرازيل ، (1950م) بعد عودته من البرازيل اطلق اغنية (عاللّوما) مطعمة بموال شرقي، وسمعه عبد الوهاب في أغنية (ولو) المأخوذة من أحد أفلامه فعلق قائلا: (غير معقول أن يملك أحد هكذا صوت). (1976م) خلال الحرب الأهلية هاجر الى مصر ومنها الى أوربا، حيث استقر في باريس/(1978م). منذ (1980م) اتجه للأنشاد والموسيقى الروحية. ترك وراءه تراثا زاخرا من الفن الغنائي الأصيل ومواويل جبال وليالي لبنان. من أقواله: ما أعز من الولد إلا البلد!.
• ميشال ابراهيم طعمه [1933- 1976م] من مواليد لبنان/(كفرنيس)، شاعر مطبوع لقب بالشاعر الشلال، وصاحب الثلاثة الاف أغنية. حظت اشعاره باعجاب كبار الملحنين والمغنين في بين الخمسينيات والسبعينيات. بدأت مسيرته بلقائه المطربة نجاح سلام في بيروت، التي غنت له قصيدة (أنت.. أنت..) من ألحان: شفيق ابي شقرا. ثم انتشر صيته في الأرجاء. غنت له: صباح (75) أغنية، نجاح سلام (52) أغنية، احسان صادق (52) أغنية، وديع الصافي (35) أغنية، نزهة يونس (30) أغنية، هيام يونس (23) أغنية. كما غنى له كل من: فريد الأطرش، سميرة توفيق، عصام رجي، نور الهدى، فايزة أحمد، وديع عبدو، وليد توفيق، موفق بهجت، سعاد محمد، سهام شماس، جاكلين، شاديه، فهد بلان، دلال شمالي، جورجيت صايغ، نصري شمس الدين، محرم فؤاد، سمير يزبك، هناء الصافي، حياة الغصيني، ورده، حنان، نهى هاشم، نور الملاح، جوزف ناصف، ملحم بركات، محمد سلمان، طروب، حليم الرومي، عبدو ياغي، جوزف ناصف. واخرون.
• يقول موسيقار العصر كاظم الساهر (مواليد الموصل/ 1957م) في احدى روائعه الغنائية: نفيت واستوطن الأغراب في بلدي، ودمروا كلّ أشيائي الحبيبات!.

(66)
سار ماريو وسرت إلى جانبه.. الواقع كنت أتبعه.. بعدما عبرنا الجسر.. سألني مبتسما..
- هل في ذهنك مكان محدد نذهب إليه؟..
- لا.. أنت أعرف!
- ما رأيك في كافيه اميركاني؟..
- أميركاني..؟!
- هل لديك تحفظ؟..
- لا.. لا.. أعني أننا في النمسا!
- ألا يجوز كافيه أميركاني في النمسا؟..
- وهل مكانه في الأورفه(*) أيضا؟..
- أجل هو قريب.. أميركان ستايل سيعجبك حتما!
كنا قد اجتزنا الجسر، حوالي خمسين خطوة عندما احتلت الرصيف عبارة كبيرة ومميزة بشكل بارز: (كافيه ومطعم فيلادلفيا).. ودون أن ينتظرني أو يلتفت، كان ماريو قد دخل الكافيه واختفى عن ناظري..
وقفت في مكاني لأفتقده.. وأحصل على برهة من التفكير في الخطوة التالية.. طال وقوفي وانتظاري، دون أن أرى ماريو..
دخلت بتمهل.. كانت المقاعد كثيرة ومتداخلة.. مقعدين مقابل مقعدين.. بحيث يصعب الجلوس دون اشتباك مع الجالسين على اليمين والشمال والخلف.. نظرت إلى طاولة البار الطويلة والعالية.. بعض الندل يمسحون الزجاجات بمناديل بيضاء، منقوش عليها اسم المطعم..
هل هو مطعم أو كافيه أو مشرب.. شباب نحيلون في بناطيل سوداء وقمصان بيضاء.. شعرهم أسود قصير.. كنت أتحضر لسؤال أحدهم.. عندما ندّت عني لفتة جهة الواجهة الزجاجية.. وجدت ماريو جالسا في الزاوية الملاصقة للشارع.. وهو يمسك بيده قائمة الأطعمة.. دون أن يدعوني أو يعبأ..
اقتربت من المكان بتمهل، دون رغبة مسبقة بالبقاء.. ومن غير تفكير سحبت الكرسي مقابله وجلست وأنا أتلفت مستكشفا المكان.. مدّ ذراعه بلوحة كبيرة على شكل غلاف كتاب، وهو يقول: إختر ما يعجبك..
وضعت القائمة على الطاولة.. وصرت أراقبه ساهما.. لم يكن هذا ماريو الذي أعرفه.. ولكن ما يهمّ.. دعني اتعرف عليه جيدا.. هذه أول مرّة نخرج سوية.. والدعوة هي رغبته.. لا تستطيع أن تقول اليوم عن أي شخص، مهما كانت صلتك به، أنك تعرفه!.. فكل انسان يحاول أن يمضي في حريته إلى الحد الذي يعجبه، حتى لو غير شخصيته من لحظة الى لحظة.. هو حرّ.. وأنت حرّ في البقاء أو تركه في أي لحظة..
الآن أعرف أن في داخل ماريو شيء آخر.. هذه هي منفعة الهواء الطلق..
كان النادل يقف على رأسي.. وماريو يعدّد ويشرح له طلباته.. ثم التفت اليّ.. فقلت.. (كافيه!)
- لاتيه اميركاني!..
- لاتيه!..
- هل من رغبة أخرى؟..
- لا..
أجابه ماريو.. وهو يجلس منشرحا على أريكته الصغيرة.. ويقول:
- أفضل أن أكتب قصائدي في هذا المكان.. هذا هو مكاني المفضل دائما!..
- .....!
- أكيد سيعجبك!..
- أعتقد ان هذا هو المكان الأميركاني الوحيد هنا.. أم هناك مطاعم ومراكز أخرى.. أعني أميركية!..
- هذا هو الوحيد الآن!... هل كنت في المبنى المجاور.. أعني المتحف الالكتروني.. أعتقد اننا زرناه سوية في الكوليج..
- أجل!..
وضع النادل الطلبات على الطاولة.. ووقف في مكانه.. مدّ ماريو يده إلى جيبه، وفعلت أنا مثله.. كنت أنوي أن أعزم عليه وأمنعه من الدفع.. عندما وضع مبلغا في يد النادل وهو يشير إلى العصير أمامه.. كنت أراقب بصمت.. سأله النادل: كلّ الطاولة أو لمفردك..
- لمفردي..
سألت النادل الذي التفت نحوي عن الحساب.. ودفعت له قيمة القهوة..
بدأ ماريو يمتدح عصير الكوكتيل الأميركاني.. الذي لا يوجد مثله.. ولا يشرب غيره كلما جاء إلى هنا.. وكنت أستمع اليه، بالأحرى أراقبه وأتابعه بصمت.. ثم سألني..
- وأنت.. أعجبتك اللاتيه؟..
- سأتذوقها الآن!.
أخرج من حقيبته دفترا صغيرا.. ثم فتحه وأخرج من باطنه أوراقا عدة.. نثرها على الطاولة حتى ازدحمت.. وبعد أن قلبها عدة مرات ونقل نظره بينها.. دفع إليّ رزمة أوراق وهو يقول:
- هذه.. اقرأها.. أود سماع رأيك..
وقبل أن أبدأ القراءة.. وأنا ألاحظ الرزمة.. دفع إلي بأوراق متناثرة أخرى.. وقال: لا.. إقرأ هذه!..
- أفضل أن أقرأها بتمهّل.. هل يمكن أن اخذها معي وأعيدها إليك لاحقا..
- لا.. أريد أن أعمل تعديلات عليها..
- إذن.. لا فائدة من الاطلاع عليها الان.. قبل أن تنتهي منها..
جمع أوراقه ثانية.. وبدأ يتحدث عن نفسه وعائلته.. صعوبة ظروفه، ولكنه كان مسرورا ويتحدث بمعنويات عالية.. قال أنه أراد الانتقال إلى المانيا.. لو كان في ألمانيا لكانت الظروف أفضل.. بالكاد يشعر بالتقدم هنا.. ثم عاد ليسألني عن نفسي وهل أجد الوضع أفضل هنا بعدما تركت بلدي.. قلت له..
- أنا لم أترك بلدي.. ولم أستطع الخروج منه..
سحب رشفة من العصير بقصبة طويلة.. وعيناه تتابعانني..
- بالنسبة لي.. المشكلة كانت الحرب.. وعندما خرجت.. بقيت الحرب معي.. أنا لا أوجد الآن من غير الحرب.. ولا أستطيع نزع الحرب من ذاكرتي ووجداني.. آثار الحرب وذكرياتها تعيش في داخلي وتفصلني عن العالم.. أنا أكتب لأنزع الحرب على الورقة..
- جيد أن تكون لك قضية تنطلق منها في كتاباتك..
- كل إنسان أو كاتب له قضية.. لكن الحرب ليست قضية.. تعرف.. أنها حالة غير طبيعية.. مثل مرض أو جريمة.. وحربنا غير مفهومة.. الحرب الأوربية الثانية حدثت بسبب التضخم والكساد.. لكن حروبنا غامضة ومجهولة السبب.. خرجنا من الحرب سهوا أو خطأ.. كثيرون ماتوا وتضرروا.. دون أن يعرفوا لماذا حصل ما حصل.. تعرف.. هذا هو السؤال!..
ــــــــــــــــــ
• الأورفه/(Urfahraner Platz): كلمة (أورفه) معناها (ضفة) في الألمانية. وهي الجانب الشمالي من نهر الدانوب/(Donau) الذي يمرّ من وسط مدينة لنز/(Linz)، عاصمة مقاطعة النمسا العليا. بعد خسارة ألمانيا والمحور لحرب (1939- 1945م)، وضعت ألمانيا والنمسا لمدة عشر سنوات تحت إدارة قوات الحلفاء. وكان نفوذ الجيش الروسي في منطقة الاورفة من لنز، والجيش الأمريكي الضفة المقابلة التي تضم القلعة والمدينة القديمة. وكان موقع الكافيه الأمريكي في الأورفه، للمفارقة!.


(67)
عندما فقدت وزني بتلك الطريقة، لم أكن أريد أن أموت.. بل كنت أتحول بيولوجيا من حال إلى حال، ومن شخصية لأخرى.. دون المرور بحادث سيارة أو الإصطدام بشجرة في منعطف.. فتلك من قصص المخابرات..
أعني.. أن حوادث السيارات والإصطدام بالأشجار، ليست للموت.. فلا كاموك(*) مات، ولا الملك غازي (*) مات، ولا لورنس (*) ملك المثليين، ولا أنا طبعا!..
صحوت وأنا أشعر بصداع يفتك برأسي وجسدي.. أشعر بجوع داخلي.. الساعة الآن الرابعة والنصف فجرا.. الضباب شديد على العمارة المقابلة.. ضوء شاحب عبر النافذة.. أريد أن أذهب للحمام ولا أستطيع.. أستطيع الذهاب للحمام ولا أريد..
طيلة الوقت وأنا متوزع بين طريق الحمام وباب المطبخ.. أي قرف أن أكون محبوسا بين مطبخ وحمام.. طعام وفضلات.. فم ومخرج.. مدخلات ومخرجات.. هل هذه هي حياة الفردوس.. أم أن النياندرتال(*) لم يكتشف أفضل منها لاستمرار جنسه..
عقلي لم يقتنع بطعام الأمس.. كثرة في السلطة.. في أوراق الخضرة.. كثرة في الهشاشة.. خيوط السباغيتي الطويلة بلا طعم ولا وزن ولا كتلة.. لا تشعر بأي امتلاء.. كأن الطعام مأدبة مرسومة على الورق.. الأكل صور على ورق..
نحن لا نأكل بل نمثل الأكل.. كما في مسرحية.. نمثل صورة عائلة ونحن غرباء.. نحتمي من بعضنا البعض بأسلاك مكهربة من الخوف وعدم الثقة.. وعندما يتحدث أحد ما.. ننشدّ إليه بعيوننا وأذهاننا لنبدو مشغولين معه..
في الواقع هو يتحدّث لوحده.. ونحن لا نفهم ما يقوله.. ولا نشاركه أي شعور.. هكذا تعلم الغربيون أن يمثلوا مظاهر سعادتهم المدنية.. يتظاهرون بالسعادة والأناقة والاكتفاء والقناعة.. يتكلفون الكلام من طرف الشفة.. مثل طريقة مسكهم الشوكة والسكين.. لوضع حبة طعام في أفواههم.. لا تكفي منقار عصفور..
لا تكفّ عيون الغربي عن مراقبة جلسائه خلال الطعام.. معتقدا أن ذلك يزيد أجواء الحميمية.. ربما بسبب الخوف أيضا.. وبين وقت وآخر يذيع تقريرا من استنتاجاته عنك.. يبدو أنك لا تحبّ المادة الفلانية.. أنت لا تأكل غير المادة الفلانية.. يبدو أن الشيء الفلاني لم يعجبك..
هكذا تستمرّ المحاكمة خلال الأكل.. بعد الأكل.. بسبب الأكل.. وإذا تحدثت في السياسة.. يتظاهر بعدم سماعك..
الطعام في الكنيسة مناسبة جميلة ولكنها تفقد معناها.. بروتوكولية أكثر من اللازم.. تحوّلت لنوع من الواجب.. أكثر من كونها فعل محبة وتطوع.. في كل مرّة يصرح أحدهم أنه لا يأكل اللحم والآخر يتبع حمية وهذا لا يريد الرزّ.. وأن المسكرات لا مكان لها على المائدة.. مجرد كلام.. مجرد كلام..
بعضهم يمسح الصحون.. ويستمرّ في الطعام بعد أن يكون غيره تركوا المائدة.. طعام النساء عكس المطلوب.. رخيص قليل الكلفة وخال من الدسم.. يقابله كلام كثير.. وشغل كثير واستهلاك صحون وقدور أكثر من ضعف المطلوب..
أمس.. بادرت إلى غسل الأواني والصحون .. يحدث هذا لأني أنتهي من الطعام قبلهم ولا أتشاغل بالحديث أو مراقبة الآخرين.. جمعت بعض الصحون الفارغة إلى صحني وذهبت إلى المجلى.. ولم أخرج منه الا والقاعة قد خلت.. لا أعرف متى غادروا..
عندما تناولت قهوتي بعد انتهائي من الجلي.. كنت لوحدي.. كما لو أنني في حجرتي كالعادة بلا رفقة ولا ألفة..
بعد الطعام أود البقاء في مكاني لربع ساعة أو نصف ساعة لو أمكن.. طقس اعتاده جسدي.. وكان هذا يسبب لي مشكلة في المطاعم الحديثة التي لا تريد للزبون أن يجلس أكثر من وقت طعامه..
بمجرّد التوقف عن الأكل يداهمك الجرسون ويمدّ يديه أمامك أحيانا بغير استئذان..
البزنس يتطلب وقاحة.. هذا ليس دار استراحة.. يصرح أحدهم من الجانب الآخر للمطعم.. حتى الطعام بزنس.. مثل أي شيء آخر هذه الايام.. حتى الزواج والغرام والجنس والمجاملات التافهة بزنس وصفقات ونصب.. تفوه على الحضارة.. تفوه على الفلوس التي سمّمت كلّ شيء ودخلت في كلّ شيء ومسخت البشر وغير البشر..
إعلانات الأكل باذخة.. ولكنها رخيصة التكلفة وعديمة القيمة الغذائية.. كثيرة البهرج ومن غير طعم.. بدأت أغيّر رأيي في ماريا عندما إنتبهت لتصرفاتها.. في كل أول شهر يكون دورها في الطعام.. وفي كلّ مرة تكرّر نفس الأكلة.. سلطة خضرة وسباغيتي وحساء لحم.. وفي كلّ مرّة، تستمرّ هي في الدّوران بيننا حتى نهاية الاكل.. حتى لا يبقى أحد لا يقول لها: أنت لم تأكلي.. اجلسي وتناولي طعامك بليز!.. تمثيل وتكلف أكثر من اللازم.. هل هذه هي المدنية الحديثة!..
الأجواء الاجتماعية بعد العظة جميلة ومطلوبة.. سيما وأكثرنا غرباء بلا أقارب أو علاقات اجتماعية في هذه البلاد.. لكن الخوف وكوابيس الرأسمالية تضطهد جوهر العلاقات الانسانية.. عندما أتصرف أحيانا بشكل مختلف ولا أعير أهمية للمال أو الكلف.. يعتقدني البعض ساذجا ولا أعرف حياة اليوم.. يحدث هذا من أقرب شخص اليك.. ربما لأنك تحرجه باختلافك عنه!..
المجاملات المفرطة تفسد العلاقة.. حتى في حجرة النوم.. عندما تلحّ المرأة في امتداح نفسها تفسد المشاعر.. وتتراجع لذة العلاقة وبراءتها.. الحياة فارغة بشكل لا يحتاج لتأكيد تفاهتها.. عندما يصر الآخر على تعظيم ما يقوم به.. اشتريت المادة الفلانية من السوق الفلاني بالسعر الفلاني.. لأنّ بضاعة السوق القريبة من منطقتنا ليست طرية وليست بيو...
ــــــــــــــــــــــــــ
• البير كامو [1913- 1960م] فيلسوف وروائي وجودي جزائري، تخرج في جامعة الجزائر عام (1936م)، شارك في المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الالماني لفرنسا وأصدر باسم مستعار/(بوغارد) نشرة [كومبات/ كفاح] التي شارك فيها جان بول سارتر [1905- 1980م]. اعتبر كامو الوجود عبثا عديم الغاية/(اسطورة سيزيف)/(1942م)، وان وظيفة الانسان التمرد/(المتمرد)/ (1951م) على عبث الوجود وعدم الانسياق او الاستسلام له، على شاكلة سرن كركجورد [1813- 1855م]، رفض كامو وسارتر صلتهما بالفلسفة أو نسبتهما للوجودية. ومع التوجه الفكري لكامو الى العبث، ألا انه لم يكن متشائما، واختار التوجه الافلاطوني للايمان بالسمو الخلقي بدل الانتحار لمواجهة الوجود العبثي. في العام (1957م) منح جائزة نوبل للأداب. وفي (4 يناير 1960م) توفي في حادث سيارة.
• غازي بن فيصل بن الحسين بن علي [1912- 1939م] ثاني ملوك العراق، عرف بتوجهه الوطني ونفوره من الانجليز، توفي في حادث سيارة غامض في (4 ابريل 1939م)، مما أفرز مضاعفات واحتجاجات جماهيرية، تطورت إلى ثورة (1941م) التحررية، الذي ردت عليه انجلتره بالاحتلال العسكري الثاني، وأفرزت صعود شخصيات نوري السعيد [1888- 1958م] وعبد الاله [1913- 1958م] للفترة اللاحقة.
• توماس ادوارد لورنس [1888- 1935م] جاسوس انجليزي خدم في المشرق العربي وحرض عرب الحجاز ضد الحكم العثماني، وصف تجربته في كتاب (اعمدة الحكمة السبعة). توفي حادث دراجة نارية وهو يقود بسرعة في منعطف (19 مايو 1935م).
• هومو نياندرتال: من القردة العليا، احد مراحل تطور السلف البشري، وجدت آثاره في أوربا/ جنوب فرنسا للفترة قبل [350000- 24000] خلال العصر الجليدي، اكتشفه كنغ العام (1864م). ويشبه العلماء أوربا تلك الحقبة بأفريقيا التي لا يفصلها عنها غير مياه المتوسط، من حيث الغابات والحيوانات المتوحشة كالماموث والنمور والاسود والضباع ووحيد القرن الصوفي. ومن أحد أجداد هومو نياندرتال ولد هوموسابينز في أفريقيا وقبل (45000) سنة بدأ انتشاره في العالم.

(68)
تسعل المرأة التي في الطابق الأسفل.. هي المرأة الأجمل في النزل.. وتسعل كثيرا في الليل.. رأيتها عدّة مرات وهي خارجة تدفع عربة طفل باهظة.. تسعل سعلتين.. تتوقف.. سعلة ثالثة.. يقول كتاب النمل(*) ان مفردات : تسعل وتعسل وتلسع مترادفة المعاني، وهي من آيات الاعجاز.. السعلة واللسعة تجتمع مع عسلة وعسلية.. يخرج من الجافي حلاوة..
في بداية نزولي هناك رأيت امرأة في الحلم، كان رداؤها جميلا.. وبقي الحلم معي حتى الصباح.. عندما خرجت ذلك اليوم.. سمعت صوتا من ورائي.. لم أكن أعرف المرأة.. لكني رأيت الرداء الذي كان في الحلم.. لقد كانت هي نفسها.. امرأة الحلم.. نظرت إليها ونظرت.. انتظرت أن يصدر شيء منها أو تنتبه لي.. لم يحصل.. إذن.. ما معنى الحلم.. لا شيء..
لا أريد أن أتناول شيئا الآن لكي لا أستعجل بداية اليوم .. لا أريد أن أشرب القهوة الآن لكي لا أفقد لذة الفطور.. لابدّ من طريقة تحفظ تقسيمات اليوم والنهار.. حتى ولو بالأكل.. بالجوع.. بالشوق لشيء أو أحد لا يفكر بك.. وربما يفكر بك وتمنعه تعليمات المادية الحديثة من الحب والثقة والاتصال.. وربّما حتى الاحترام لكي لا يبدو ساذجا..
كانت روزا تدعو نفسها حمارة لمجرد أنها تشعر بعاطفة نحوي.. ولا تحصل على ما تريده مني.. وفي كل مرّة أسمع تلك الكلمة أشعر بالابتزاز والتقيؤ.. كأنها تتصور في نظري كما تقول.. وهكذا ماتت مشاعري نحوها ولا أريد أن أعرف عنها شيئا..
تثقيف المرأة وخروجها من البيت ومقاصير الجهل كان جناية شاملة على كيانها.. لقد فقدت براءتها وأنوثتها وقدرتها على الإدهاش.. وصارت مادة عادية مبتذلة لكثرة انتشارها في الأسواق.. وصورها الداخلة في كل شيء بشكل دعائي..
بدء من اعلانات فرشات الأسنان ودعايات غرف النوم والسيارات.. إلى الحملات الدعائية للساسة والمبشرين والوعاظ.. برامج الفضائيات ومواقع النت مليئة بالنساء الرخيصات وايحاءاتهن الجنسية المبتذلة..
أمس وقفت لدقائق أتأمل امرأة تبيع اكسسوارات تافهة في عربة.. وقد وقفت بشكل ملتوي دافعة عجيزتها بشكل استفزازي.. لو واتتني جرأة أو وقاحة لالتقطت لها صورة نادرة.. لم أكن أراقب عجيزتها.. كنت أدرس ملامح وجهها خلال تلك الحركة.. وأحاول تكهّن ما يدور في ذهنها.. وهي تفعل ذلك بلا حراك لمدة طويلة.. دعاية لاجتذاب المستهلكين.. أم هي مندهشة بشكل انعكس على ردفيها، بدل ملامح وجهها.. عندما خرجت من المكتبة بحثت عنها نظراتي.. كانت الساحة خالية من أثر عربة..
الليل وقت والنهار وقت والعمر وقت والعمل وقت.. ولا طريقة مبررة أو مقنعة لقتل الوقت.. ومن غير أفكار جميلة ومشاعر جميلة وعواطف مشتركة.. يكون الوقت مجرد عقوبة إجبارية مسبقة لذنب مؤجل بجريرة الوقت!.
ــــــــــــــــــــــ
• كتاب الحيوان لأبي عثمان عمرو الكناني البصري المشهور بالجاحظ [776- 868م] وهو أديب معتزلي من تلاميذ ابراهيم النظام [777- 835م]، ومن المتأثرين بأرسطو [384- 322 ق. م.]، من كبار مثقفي زمانه، من أعماله ايضا: البيان والتبيين، البخلاء، وغيرها.

(69)
كنت قد عبرت الشارعين إلى الرصيف الآخر، متسلحا بقبعتي ومعطفي المزرر مثل شارلي شابلن (*)، عندما سمعت أحدا ينادي باسمي.. هذه المرّة لم يكن الصوت من داخل عقلي، ولا هلواسا، ولكنه صوت حميم فالتفتّ.. لم أتوقع أو يخطر لي يوما، أن ماريا ستخرج إلى الشارع وتتبعني خطوات.. لتثنيني عن المغادرة..
- كيف تذهب دون أن تودعني، أنت حتى لم تسلم عليّ.. كيف تذهب هكذا!.. تعال ابق معنا..
- لدي شغل.. وخرجت مسرعا..
- ستذهب بعد ذلك.. ابق معنا اليوم!..
ماريا هي الأقرب إليّ في المجموعة.. عند طاولة الطعام تجلس بجانبي دائما وتملأ لي الصحن.. وترعى احتياجاتي .. في أول لقائنا قدمت لي كأس شاي مع ثلاثة أقراص بسكوت.. وجلست تراقبني بينما كنت أتحدث مع القس.. منذئذ أشعر بكهرباء سريرية تجاهها أو من جانبها.. أشعر باهتمامها ولكن من غير خصوصية.. فهي بركة الكنيسة، وتتولى الخدمة العامة.. أشعر بأسئلتها الشخصية.. أستمع لتوصياتها.. وأعتبر ذلك من باب الأخوة.. الإسبوع الماضي، بعد وجبة الطعام.. وضعت تلفونها في يدي وطلبت مني أن أسجل رقم تلفوني، ففعلت.. قالت أنها تريد أن ترسل لي عظة أعجبتها..
عندما ألحّت علي بالبقاء.. قلت لها، ما سبق حدثتها عنه..
- إذن.. دعينا نشتري بعض اللوازم للمائدة!..
- ماذا تشتري؟..
- عصير أو فاكهة؟..
- لا نحتاج شيئا اليوم.. كلّ شيء موجود!.. تعال..
كنت قد غادرت مرتين.. من قبل.. وأعادتني أخوية الكنيسة.. في المرّة الاولى.. اتجهت للباب بعد انتهاء حديثي مع القس.. ومن غير توديع أحد لتجنب الإحراج.. بينما كنت أدفع الباب.. ارتفع صوت جون قائلا: لا تنهزم.. ارجع!..
التفتّ، لأرى الجميع ينظرون نحوي.. فقلت..
- أردت أن أتسلل هاربا..
قالت كارمن: أين تذهب.. هذا يوم قدس للربّ!.. ابق معنا كل اليوم..
وبقينا نتحدث.. وعندما اقتنعت بأعذاري.. قالت: سامحتك، تستطيع أن تذهب الآن!..
تشجّعت للمغادرة.. ألقيت نظرة على الجميع.. وهم يتحادثون في جماعات.. كانت ماريا تقف مع القس.. نظرت نحوها لتحيتها، ولم أرد ازعاجهم.. فرفعت صوتي بالتحية وخرجت بقوة هذه المرّة..
عند الباب كان القس خارجا فابتسم أو ضحك بغير صوت.. وهو يراني عائدا بيد ماريا.. فيما كان توني يضحك ضحكات مجلجلة.. وهو يشير نحوي.. إشارة لها معنى.. فقلت للقس بعفوية..
- I have to obby, isn’t this what you want
استمر في إبتسامته الصامتة.. ومسح بيده اليمنى على كتفي وهو يخرج.. بينما كانت ماريا تقودني نحو المطبخ..
قلت للقس في نهاية المحادثة.. وأنا اخبره عن اختباري الروحي..
We have to trust Him!
We need to obey Him, because we always trusting Him!
I think both concluded together
عندما أخبرته بمسألة الطاعة، كنت أذكره بوصيته الأخيرة.
أنا أتحدث عن الثقة، وهو يعني الطاعة.
انتهينا من إعداد الطاولتين.. قام شباب صغار بتوزيع الصحون ولوازم الأكل.. بانتظار تسخين الطعام الذي يجلبه معه في كل مرّة أحد أفراد المجموعة بعد إعداده في البيت. وجدتها واقفة على الجانب الآخر من الطاولة.. كان المكان بجانبي مشغولا من الجانبين .. فسألتها بعفوية: أين تجلسين؟..
فأشارت إلى كرسي قبالتي على الجانب الآخر، وجلست.. ومن مكانها، كانت تقوم بخدمة المائدة وتوزيع الطعام على الجميع ، مبتدئة بصحني وصحنها..
انتهيت من الأكل قبل غيري.. سألتني: هل أكملت، قلت لها نعم.. ثم قمت بتنظيف صحني.. وجمعت الصحون التي انتهى اصحابها من الأكل، ومضيت بها إلى المطبخ.. وبعد إلقاء فضلات الطعام في القمامة.. خطر لي غسل الصحون.. أكمل البقية طعامهم وجلوا صحونهم للمطبخ.. قبل الانتهاء من الغسيل جاءت ماريا وصاحت بي:
- ماذا تفعل.. هل تجيد غسل الصحون؟..
- أحاول ذلك..
كانت تعرف شعوري بالحرج لعدم القيام بشيء للمشاركة معهم.. وقفت إلى جانبي، وأخذت منشفة لتنشيف الصحون المغسولة.. ثم قالت أخيرا..
- شكرا لك.. اغسل يديك واجلس.. سأكمل الباقي!..
ـــــــــــــــــــ
• شارلي شابلن [1889- 1977م] ممثل كوميدي انجليزي اشتهر بأفلامه الصامتة، ومنها: الصبي، الدكتاتور، أضواء المدينة، الأزمنة الحديثة.

(70)
من نافذتي الوحيدة أراقب قوس قزح ويمبلي ستاديوم(*).. سألت موظف المكتبة العامة عن مهندس التصميم فقال مومئا بيده: أنظر في غوغل.. قلت له: شكرا.. سألني إن كان عليه أن يحجز جهازا.. شكرته قائلا: إني سأعود في وقت آخر..
كنت أقصد فكرة صدفة المحارة المفتوحة، والقريبة من نصب الشهيد العراقي في الثمانينيات.. المحارة لدينا ترتبط بالموت.. نفق نحو العالم الآخر.. وهنا ترتبط المحارة بكرة القدم.. لكن أيا منهما لا تشير للأكل، ولا الماسة وخاتم الزواج المحفوظة فيها.. قال باول أن ألوان القزح المرتبة فيها عددها ستة وليس سبعة، وذلك رمزا للمثليين.. تشتعل الأضوية من اليسار نحو اليمين.. حسب الأبجدية اللاتينية.. القوس عالٍ ينحني فوق القرص المفتوح.. فتبدو ثلاثة صحون.. يمكن رؤيتها على بعد نصف ساعة من كلّ الجوانب..
أحاول حفظ تسلسل الألوان وتمييز اللون الناقص بلا طائل..
تذكرني ألوان القوس بصديقي أيام الجامعة الذي كان يعمل في وقت فراغه في مدّ خطوط الكهرباء.. ورغم كونه خريج القسم الأدبي، ويعاني من قصر شديد في النظر بحيث تم أعفاؤه من الجيش.. فهو يشرح لي الفرق بين التيار المربوط على التوالي والتيار المربوط على التوازي.. أحاول استذكار الفكرة فتخذلني الذاكرة.
فكرة الأضوية جميلة في الليل.. تحيلني إلى صورة النهر في المدينة.. أول مرّة رأيت فيها انعكاس الأضوية في ماء دجلة.. في أول زيارة لي لبغداد.. رافقت والدي في معاملة إضافة الخدمة في وزارة المالية.. صعدنا السلّم الكهربائي العمودي لأول مرّة.. وفي تلك الزيارة الأولية أخذني والدي لمطعم جلسنا في الطابق الثاني وتناولنا الشاورمه.. كانت تلك أول مرة أجلس في مطعم وأول مرة أتذوق الشاورمه..
كلّ شيء في تلك الزيارة كان يحدث لأول مرة في حياتي وما زلت أحنّ إليه.. وأحنّ للأضواء المنعكسة في ماء النهر.. كنت أتمنى السكن على ضفاف التايمز لمراقبة النهر في الليل.. حيث أبراج العمارات هناك لها واجهات زجاجية وشرفات عريضة تقابل الشاطئ..
مع بداية الشتاء جاء عاملان وقطعا أغصان الأشجار العالية في البارك المقابل لنافذتي.. خفتت صور الأشباح التي كانت تتراقص ليلا.. عندما يقع نظري على الزجاج.. لكن منظر البيوت المتراصة على الجانب الآخر صار عاريا من أية لمسة جمالية.. في الليالي المظلمة تبدو لي البيوت مثل عربات قطار طويل.. يزحف بعيدا عن الملعب بلا هوادة.. تزيده أشباح الأشجار وحشة، مثل مسافرين من الهنود الحمر..
شحذت دارينا نهايات الأسهم.. بقطعة الرصاص الخاصة لهذا الغرض.. ثم أعادتها الى صندوق العدة.. قبل أن تقف على البقعة المحددة بجسم منتصب وذراعين ممدودتين.. وجهت نظرة مستقيمة نحو صندوق الكارتون.. انحنت بشكل بروتوكولي وتناولت القوس..
أمسكتها باليد اليمين.. وضعت سهما واحدا في منتصفها بدقة متناهية.. كلتا الذراعين في مستوى النظر وللأمام.. بعد دقيقة من التركيز التام.. إذا كنت محافظا على الهدف إرمِ!.. انطلق السهم واستقر عند جنب الكارتون.. في وسط بقعة الإرجوان الملطخة تماما..
تناولت السهم الثاني وأعادت الكرة.. مثل كل مرّة.. وعندما انتهت السهام الخمسة.. خمسة و خميسة.. تقدّمت بخطوات مستقيمة نحو الكارتون.. درست جيدا مساقط الأسهم.. قاستها من الجانبين.. من الأمام.. عدلت وضعية الكارتون.. وعادت تكمل تدريباتها اليومية..
دارينا جارتي اليسارية.. في الحادي والعشرين من مارس التالي سوف تكمل عامها العشرين.. وهي تحبّ الرياضة.. أعني الرّماية.. دارينا مسالمة جدا.. ورقيقة جدا.. تحبّ الغناء وتقرض الشعر وتتدرب على الرماية.. تقيم في المبنى المجاور في الطابق الأرضي.. وحجرتها الأخيرة من الخلف.. حيث تستطيع استخدام الحديقة الخلفية لتدريباتها لا غير..
ـــــــــــــــــــــ
• ويمبلي ستاديوم: صممه موت مكدونالد، واستغرق بناؤه اربع سنوات [2003- 2007م] مساحته (105 × 69 م)، ويسع تسعين الف مشاهد، وهو الملعب الرئيس في انجلتره لمباريات كرة القدم، والثاني في سعته في كل أوربا. يغطي فضاء الملعب من الجانب كتلتان من نصف صحن بشكل مائل، مما يوحي بالشبه مع نصب الشهيد العراقي الذي افتتح العام (1983م) من تصميم النحات العراقي البصري محمد فتاح الترك [1934- 2004م].








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث