الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديناميكا التطور

كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)

2018 / 9 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


تتطور الشعوب تأثراً بأسباب ودوافع عديدة، تعمل متكاملة يعضد أو يفشل بعضها البعض. وكما يختلف مدى توفر ‏هذه الظروف بين مكان وزمان وآخر، تختلف أيضاً ردود أفعال الشعوب على هذه المؤثرات، لينتج لنا التباين الذي ‏نشهده في درجات التقدم.‏
سنحاول في هذا هنا استعراض بعض من أهم هم هذه العوامل.‏
‏- تكاثر البشرية وكبر حجم المجتمعات:‏
بدأ انسان مسيرته متجولاً وحيداً، يلتقط طعامه من الثمار المتساقطة من الأشجار، ثم بصيد ما تصل إليه يده. وعندما ‏عرف تكوين أسرة وإنجاب أولاد يلتزم برعايتهم، احتاج للمزيد من الطعام، فكان أن اكتشف الزراعة وتدجين الطيور ‏والحيوانات، لتوفر له ما يحتاجه من طعام. وكان أيضاً أن بدأ يصنع آلات تعينه على الإنتاج، ومعها عرف كيف ‏يستخدم النار للتدفئة وطرد الحيوانات التي تخيفه وطهي طعامه. وكانت هذه أولى خطواته في رحلة تطوره المستمر، ‏دفعته إليها زيادة عدد دائرة اهتمامه البشرية.‏
مع زيادة أعداد البشر تشكلت مجتمعات من عدة أسر، ثم قرى ومدن، فاستدعى هذا التكاثر نظماً وقوانين وأخلاقاً ‏لتنظيم العلاقات بين الناس، فكان التقدم في المجال الاجتماعي والفكري والسلوكي، وتعاظمت الحاجة لما نسميه الآن ‏تقدماً تكنولوجياً، لابتكار آلات أكثر تطوراً وقدرة على إعانته على إنتاج ما يسد الاحتياجات المتزايدة للطعام، ولتأسيس ‏مساكن أكثر قدرة على استيعاب البشر.‏
الآلات والنظم والقوانين التي تصلح لتلبية احتياجات مجتمعات صغيرة، تفقد صلاحيتها تدريجياً مع تزايد أعداد البشر ‏الذين تضمهم. وتظهر ويبتكر الإنسان تدريجياً آلات ونظماً أكثر كفاءة، وهذا ما نسميه تطوراً وتقدماً.‏
التجمعات البشرية التي تظهر استجابات إيجابية لضغط التزايد السكاني تنمو وتتطور. وتلك التي تكون استجاباتها ‏ضعيفة تتشتت، أو تتراجع حضارياً، لتأخذ خط سقوط أو تدهور، يتجه بها نحو البدائية الأولى.‏
نلحظ هنا أن تكاثر المجتمعات بشرياً هو في الأساس عامل دفع باتجاه التقدم والتطور. لكن في حالة غياب أو فشل ‏عوامل التقدم الأخرى في مجتمع ما، يصير عامل فشل وانحدار. وهو ما نشهده في المجتمعات التي تحاول جاهدة ‏تحديد النسل، لأنه انقلب عامل تقهقر حضاري، بتفاقم سوء حالة مثل هذه المجتمعات، التي تفشل في توفير ‏الاحتياجات الأساسية المتزايدة كما لمنتسبيها.‏
‏- التكنولوجيا وتطور الآلات:‏
يبتكر ويصنع الإنسان الآلات ليستخدمها لتلبية احتياجاته. لكن الآلات المصنوعة بالأساس لأداء وظائف محددة ‏مقصودة، يظهر لنا مع استخدامها وتحسينها وظائف جديدة يمكن أن تؤديها. هنا تكون الآلات المصنوعة والمستخدمة ‏من قبل الإنسان، أداة دفع وتطوير له ولحياته وأفكاره.‏
فالسكين الحجري الذي ابتكره أجدادنا الأوائل لتقطيع أشياء بسيطة يحتاجونها لطعامهم، اكتشف فيه الإنسان بعد تطويره ‏إمكانية أن يكون أداة للقتل. هذا فيما بعد شجع على اتجاه الإنسان للحروب مع إخوانه البشر، وعلى المزيد من التطوير ‏لأدوات القتل. وتواكب مع هذا تطور لأفكار أو أيديولوجيات ودوجما العدوان والقتل. ليكون التطور التكنولوجي سبباً ‏ودافعاً للتطور الأخلاقي والفكري والديني، سواء باتجاه إيجابي أو سلبي من منظور التقدم الإنساني.‏
في المرحلة الإنسانية الراهنة يأخذ التطور التكنولوجي الذي يسوقنا أمامه أبعاداً أعظم نتيجة التطور العلمي والصناعي، ‏حيث يستقل بدوافع تطوره الاقتصادية الربحية. وبعدما كان "الاختراع وليد الحاجة"، صارت "الحاجة وليدة الاختراع". ‏حيث يبحث المنتج الساعي للربح كيف يصنع آلات يمكن أن تخلق حاجات جديدة لدى الإنسان.‏
وأبسط مثال ما بين أيدينا الآن من موبايلات ذكية، تتطور تلقائياً على يد منتجيها، دون أن نطلب نحن ذلك. ومع ‏تطورها تتطور احتياجاتنا ومعها أسلوب حياتنا وأفكارنا وعلاقاتنا.‏
بالطبع تختلف درجة ونوعية تطور الشعوب مع تطور التكنولوجيا، نتيجة تأثيرات عوامل التطور الأخرى. لكن هناك ‏دوماً حركة باتجاه الرقي الحضاري تفرضها الآلات، مهما بدت لنا ضئيلة أو منعدمة، أو حتى عكسية، كاستخدامات ‏السلفيين والجماعات الإرهابية للإنترنت ووسائل الاتصال وغيرها من مظاهر الحضارة.‏
‏- تطور وسائل الاتصال والتواصل:‏
تطور وسائل الاتصال بين البشر مكنهم من تلبية المزيد من احتياجاتهم الحضارية المستجدة. لكنه بالمقابل طور ‏حياتهم ونظمهم وعلاقاتهم بالتأثر بالمجتمعات الأخرى. سواء من قبيل نقل ما يستحبونه لدى الآخر، أو اضطرارياً لكي ‏يتمكنوا من التفاعل مع العالم، والذي يصير مع الوقت أكثر ضرورة لحياتهم وارتباطاتهم المستجدة والمتعاظمة ‏باستمرار.‏
في عالمنا المعاصر صارت العزلة، أو ما يحب البعض تسميته "الاستقلال التام" أمراً مستحيلاً، أو بالأحرى عقوبة ‏يفرضها المجتمع الدولي على الشعوب "المارقة"، كما في حالتي كوريا الشمالية وإيران، وقبلهما نظام جنوب أفريقيا ‏العنصري السابق. من ذات الرؤية نرى مستقبل أحلام البعض بالارتداد لنظم ماضوية دينية. فهم بافتراض نجاحهم في ‏قهر أو تدجين شعوبهم على الحياة وفق نظمهم المتخلفة المأمولة، لا يملكون حتى وإن رغبوا، أن يعزلوا أنفسهم عن ‏العالم، كما لن يقبلهم العالم بنوعية علاقاتهم البائدة المتخلفة، حتى ولو لم يتعمد فرض عقوبات بالعزلة عليهم.‏
النظم السياسية والاقتصادية والدساتير والقوانين وحتى الأخلاق، لم تعد المجتمعات والشعوب مطلقة الحرية في تحديدها ‏لنفسها. بل صارت مضطرة لوجود قدر من التناغم والتوافق مع السائد عالميا. ولدينا كمثال تجريم وتحريم العبودية، ‏وضغوط مواثيق ومنظمات حقوق الإنسان.‏
لا يفوتنا هنا الانتباه للمحاولات المستميتة الفاشلة للنظم والمجتمعات المغلقة، لحجب بعض وسائل التواصل ‏الاجتماعي، وملاحقة النظم البوليسية للنشطاء الذين يستخدمونها لفضح الممارسات المتخلفة.‏
كلما تقدمت وسائل الاتصال والتواصل، استحالت العزلة، واتجه العالم لتوحد وتناغم فكري وسياسي واقتصادي، يطيح ‏بالخصوصيات التي تعيق تقدمه وتطوره، ويبقي ويحمي ما لا يضيره من خصوصيات الشعوب.‏
‏- القدرة الذاتية للشعوب:‏
هي آخر وأهم عوامل تقدم البشرية عامة، وسبب الفوارق الهائلة التي نرصدها بين مختلف الشعوب.‏
هناك شعوب لديها القدرة العقلية والسيكولوجية، على الاجتهاد والابتكار والتطور المستمر.‏
وشعوب أخرى حدود قدراتها التأثر الإيجابي بالتطور العالمي من حولها، ونقل تطبيقاته لمجتمعاتها.‏
وهناك شعوب عاجزة ساقطة من عربة الحضارة، تنتظر المعونات وقوافل الإغاثة.‏
وهناك أخيراً شعوب تغلب عليها الوحشية الفكرية والسيكولوجية، تعادي التغيير والحضارة والحياة، وتسعى لتدميرها بقدر ‏ما تستطيع. وتكاد شعوب منطقة الشرق الأوسط تحتكر إنتاج من هذه النوعية من البشر، المعادين للحضارة والساعين ‏لتدميرها.‏
يمكننا إرجاع القدرة الذاتية للشعوب لثلاثة مصادر:‏
الأول القدرات العقلية والشخصية الخام الموروثة بيولوجياً، والتي تختلف باختلاف أجناس البشر. . هل يبدو هذا الكلام ‏عنصرياً؟. . الحقيقة نعم، لكننا نظنه أقرب لحقائق الواقع. وقد يستحسن أن نعترف بأن الحياة والوجود ذاته مؤسس ‏على نوع أو أنواع ما من العنصرية. كما يخبرنا علم الفيزياء مثلاً أن الكتلة الضخمة تجتذب الكتلة الأصغر لمجالها ‏وليس العكس.‏
والثاني هو نظم التعليم التي تؤهل الإنسان الفرد. تلك قد تنمي فيه مهارات التفكير والإبداع، وقد تحوله لببغاء يردد ما ‏يتم تلقينه له من محفوظات مقدسة أو غير مقدسة.‏
والثالث طبيعة النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية السائدة، والتي قد تتيح تنمية وتفجير ملكات الفرد ‏والمجموع الإبداعية، وقد تعوقها أو تخنقها وتجرمها.‏
لا نذكر هنا تأثير الثقافات السائدة كعامل منفرد، لأن ثقافة أي شعب هي مجرد منتج من منتجاته الخاصة، حتى لو ‏كان للطبيعة الجغرافية لبيئته تأثيراً في صياغة وتشكيل ملامحها. نرصد ثقافات منفتحة تسعى للتطور باتجاه المزيد من ‏مقومات السعادة والرفاهية للبشر. مقابلها ثقافات تؤثر سلبياً على قدرات الأفراد والمجتمعات، تلك تعتبر التجديد بدعة ‏وكفراً وهرطقة. بل ونسمع عن محاكمات قانونية واجتماعية، أيضاً مطالبات بدراسة أسباب تنامي أعداد شباب يكتشف ‏زيف ما تعيش عليه هذه المجتمعات من أكاذيب وأساطير. وكأن اكتشاف الحقيقة مرضاً، يجب اكتشاف أسبابه ‏ومعالجتها.‏
نلاحظ هنا أن العناصر الثلاثة المذكورة أعلاه، والتي تحدد القدرة الذاتية للشعوب، مرتبطة ببعضها البعض، فالواحدة ‏منها تستدعي الأخريين. بمعنى أن تغيير واحدة منها وحدها، سيؤدي لنتائج أضعف مما لو تغير العنصرين الآخرين. ‏قد يبدو هذا محبطاً ومرفوضاً من البعض، الذي يظن أن تغيير نظم التعليم مثلاً، أو تغيير النظم السياسية كفيل ‏بوصول شعب لقمة جبل التطور. هذا مع الأسف غير حقيقي. نعم تغيير عنصر واحد يحدث تغييراً ملموساً، لكن ليس ‏بالدرجة التي يرتضيها طموحنا.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا