الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلزاك..(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب والسياسة (5)

ماجد الشمري

2018 / 9 / 24
الادب والفن


كان بلزاك في سرده الروائي معنيا بالتواصل مع قراءه،وكأنه يتحدث اليهم-الينا،كما نتحدث نحن انفسنا الى غيرنا بعد مشاهدتنا او معايشتنا لحدث او واقعة بكل دقة وتفصيل.هذه الدقة والتفصيل في السرد...هذه التسجيلية والتوثيق في عرض ونقل الواقع حرفيا،هي ضعف شنيع وقصور في عالم الكتابة الابداعية،فهي تقتل روح الادب اسلوبا وشكلا،وتحوله الى تاريخ ميت،جثة هامدة!.وهذا هو بالضبط ماكان بلزاك يرومه ويسعى لتجسيده في رواياته.فهو يصبو لجعل المسافة بينه كأنسان حقيقي،وبين شحصياته الحية الحقيقية،كالمسافة التي تفصل بلزاك الكاتب-الروائي عن نماذجه-شخصياته المتصورة ادبيا،اي المنسوخة او المبتدعة؟فنحن لانستطيع ان نفرق او نميز بين الشخصية الخيالية -الادبية وقرينها الواقعي الحي الذي استلهمه بلزاك،فهما متماهيان لحد التطابق.ان عظمة فنه تكمن في قدرته الفذة على الفصل وخلق تلك المسافة بين الفنان ونموذجه،رساما كان او اديب روائي.،او كما يقول الرسام:انه يجعل الهواء الذي يحيط بالنموذج يرتعش بأستمرارّ.ان البنية العامة لل"الكوميديا الانسانية"تسمح بالانتقال من رواية الى اخرى،وانتقال الشخصيات الاقدم الى الاحدث ايضا دون تكلف او اخلال وارباك في الاتساق والمضامين والسرد المتتابع والمنساب دون فجوات عبر الروايات المفتوحة على بعضها،فنهايات وبدايات التسلسل الروائي متداخلة في مزيج متجانس يضم كل الموسوعة السردية.وهي ليست مقصودة او مفبركة كما يعتقد البعض،بل هي نوع ادبي غير معقد،وانسياب متدفق متطرف الواقعية،وتصويرا مرآويا مطابقا للاصل-الواقع.وهذا المنهج الادبي الثابت لهيكلة وبنيان روايات المجموعة"الكوميديا الانسانية"الذي انفرد به بلزاك عن غيره من ادباء جيله،هو الذي اتاح له ومكنه من وصف وعرض كل الجوانب اليومية وحتى التافه من حيوات ابطال اعماله بتلك السهولة،وذلك اليسر العفوي المسيطر عليه،وتلك الدقة المتناهية النادرة النظير!.فالحركة المتناغمة في سيرورة الروي البلزاكي كانت هي الرابط المتين بين صوره المتعددة والمختلفة والمتطورة لكل الشخصيات التي خلقها وانتقاها من واقعه وحياته.كل المشاهد والثيمات الفوتوغرافية الملتقطة سرعان ماكانت تدب فيها الحياة وتبدأ في الحركة والنشاط في طول وعرض جسم الرواية.فتتعدد الابعاد والزوايا المتباينة،وتتشابك الخيوط في العلاقات مابين شخوصه في مابينها كذوات،وبينه كمبدع لها.وبالرغم من كون سفره السردي الضخم"الكوميديا الانسانية"عملا روائيا شبه مستقل ومتداخل الا اننا نستطيع الفصل بين رواية واخرى دون صعوبة.وكما تكون بعض من اوجه ذواتنا خافية او مجهولة عن اصدقائنا واقرب الناس الينا،ليشكل ذلك انطباعا او فكرة جزئية او سطحية مبتورة عنا،كذلك هو الامر بالنسبة لقراء بلزاك.بين:قاري لرواية واحدة ،فتكون علاقته بأدب بلزاك علاقة سطحية وواهية لانها غير كافية للحكم على ادبه او على شخصياته حكما صائبا ودقيقيا،وبين قاريء متبحر بكل مجموعة ال"الكوميديا الانسانية"والمتمكن والمحيط بكل ابعاد وجوانب تلك الشخصيات وادراك تناقضاتها الداخلية وصراعاتها وهي تتطور داخل العمل الروائي ككل.كان هاجس بلزاك الدائم هو تثيبيت الحقائق ورصفها كما هي بكليتها وحركتها الدائبة،وسيطرة الواقع الموضوعي الذي ينظم ويتحكم بتلك الحركة للواقع اليومي المعاش.ان واقعية بلزاك الراصدة-المراقبة-المدققة تتميز بالقدرة الفذة على الاقناع والقبول بان كل رواياته هي مستمدة من واقع عياني ملموس،ونتاج تجربة حياة-وليس كما يتصور البعض-نتاج مخيلة خصبة لاديب مثالي.رغم صعوبة سبر اغوار الشخصيات سايكولوجيا بشكل جلي من قبل القاريء المتوسط..ففي رواية"ابنة العم بت"يسلب البارون أيولو شرف الفتاة أتالا،ورغم هذا"الانحراف الخلقي والتردي في الرذيلة،فان أتالا بريئة كل البراءة".يقول الناقد الادبي"اميل فاجي":ان لغة بلزاك هي لغة خاطئة عندما يقول على لسان بطلته:"أبي اراد ذلك..ولكن امي لم توافقه،فكنت موضوع نزاع مستمر بين أبي وامي".فيعلق الناقد فاجي على هذا الحوار قائلا:"ان هذا التناقض البين يكشف لنا عدم تصديق هذه الشخصية،وان أتالا هذه لاوجود لها"!.ان بلزاك ليس فنانا بقدر ماهو كاتبا للتاريخ،وليس هناك اسوء منه فنيا-ادبيا.وكان هو نفسه يدرك ذلك،ويعي حقيقته تلك،ويتذمر منها،ولكنه في نفس الآن ينسى-مع الاسف-قدرته الادبية على الروي في اغلب الاوقات،فهو يقول مثلا في رواية"اورسول ميروي"عند محاولته تصوير حبه وتعلقه بالطبيعة:"لابد ان تكون للفرد مصلحة مادية عندما يريد استنشاق عبير الريف"!.ويقول في رواية"الفلاحون":"كم تبدو الطبيعة فقيرة المفاتن عند مقارنتها بصورتها على المسرح"!.وعندما يحاول بلزاك الكتابة يصورة"جميلة"واستخدام اسلوب ادبي مجنح،ويأخذنا بعيدا بأستعمال الجمل والكلمات الشاعرية المدعاة،فيبدو وكأنه:فتاة تضع طبقة من مساحيق التجميل وتلطخ وجهها بشكل منفر ومبالغ فيه!.وفي هذا المجال نجد الكثير من شطحات بلزاك"الجمالية"في متون رواياته.ومع ذلك يجب ان لانعير التفاتا لزلاته تلك،فبلزاك لم يدع يوما او يزعم بأنه يقدم اعمالا مثالية او نموذجية مدهشة في كمالها تبهر قراءه.فما اراده حقا هو تدوين سرديات غنية بالمفاهيم والوقائع التي تحفز التأمل وتدعو الى التفكير العميق غير المنقطع،وتجبر قراءه على الاستغراق والاندماج في اجواء موضوعات ومضامين نصوصه.على هذه الشاكلة كان بلزاك هو:الروائي الاشكالي..بلزاك المفكر الانسان..الاديب الواقعي التقريري.واكثر شخصياته واقعية هو نفسه بالذات:بلزاك،فمن ذاته استمد شخوصه،ومنه نبعت صفاتها وسايكولوجيتها وسلوكها.ولكن لماذا استمر الدافع الاهم للكتابة لدى بلزاك،بهذا الهوس،وتلك الغزارة،والروح المثابرة المحمومة لدرجة الجنون،والتي لم تتوقف الا بموته؟!.كان يفعل ذلك وببساطة لهدف وحيد اوحد هو:بلوغ الغنى وامتلاك المال!وما تبقى هو تحصيل حاصل.ان يصبح غنيا من خلال نشره لاعماله الروائية المتتابعة دون توقف،فهو كان يحب ويسعى للجانب العملي النفعي المفيد لمردود نتاجه الادبي،كان متلهفا لما ماتدره رواياته المنشورة والمباعة من نقود!.ففي حديث له مع ناشر كتبه"فروه"عن امور تتعلق برواياته،يقول له منزعجا:"اننا نتحدث ومنذ ساعة في امور لاتجدي نفعا،وهكذا خسرت مائتي فرنك"!.وقت بلزاك لم يكن يقاس بوحدات الزمن بل يقاس بالفرنكات!.....
............................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث