الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غيبهم الزمنُ

محمد الحاج صالح

2018 / 9 / 26
الادب والفن


غيبهم الزمنُ
كان يدفع أمامه العربة رباعية العجلات ذات المكابح سهلة الاستعمال. محني الظهر متيبّس المفاصل، ينقل قدماً إثر قدم ببطء و بخطاً قصيرة جداً. كان يمشي مثل طفل اكتشف للتو أنه يستطيع الوقوف. حقيقة لم يكن يمشي؛ كان يشحط قدمية شحطاً و بهدوء. كم عمره؟ تسعون؟ مائة؟ مائة وعشرة؟
نطتْ أمامه طابةٌ من خلف سور أحد البيوت، و اندفع خلفها طفلان وطفلة بصخب و صياح و تدافع و تعثّر ببعضهم البعض. قالت الطفلة بصوت عال و هي تلهث: "مرحبا يَنْسْ". لم أسمعه يرد التحية، ولكنه استدار بكل جسده ببطء نحو الصبية و ابتسم لها ببطء أيضاً، و استطاع أن يسند نفسه بحذر عبر ذراع واحدة إلى العربة، و يرفع اليد الأخرى كما لو في تصوير بطيء لردّ التحية.
كان اسمه "يَنْسْ" إذاً.
تابع خطوه الثقيل معلقاً على ممسك العربة الأيمن كيساً يحتوي على حاجياته المشتراة. و كان صاحب الدكان "السوبرماركت" الصغير الذي ولا بدّ أن الرجل المعمر اشترى منه ما يزال في باب الدكان يلاحق الرجل بعينيه بصبر من لا عمل له، على الرغم من مرور عديدين من جنْبه إلى داخل الدكان.
اتضح أن بيته لا يبعد عن الدكان سوى ثلاثين إلى أربعين متراً. مسافة تكاد تكون دهريةً بالنسبة لمعمر مهدم الجسد مثله.
على ذات النظم في الخطو البطيء استمر إلى أن وصل إلى الباب الخشبي العتيق لبيته العتيق. مؤكدٌ أنه يعيش وحده، مؤكد.
كيف له أن يدخل عربته؟ كيف له أن يصعد الدرجتين الحجريتين العاليتين؟ وكيف له لو أننا في الشتاء أن ينزل الدرجتين أو يصعدهما وسط أكوام الثلج و الجليد؟
بهدوء و ارتعاش و بزمن طويل استطاع أن ينزع الكيس عن العربية و يضعه متباطئاً على أعلى الدرجتين. و أكمل طريقه بضع خطوات من خطواته، ثم فتح باباً منخفضاً لسياج حديقته الجانبية. دفعه بسكون عجيب. أدخل عربته بحركات و مناورات غير سهلة، استغرقت زمناً. أغلق باب السياج، و كبس مغلاقه العلوي بيد مرتجفة كما لو أنه يغلق صندوقاً ثميناً لن يفتحه قريباً.
و عاد مستنداً إلى جدار بيته، خطوة ثقيلة بعد خطوة ثقيلة. ارتقى أول درجة بجسده المضعضع كله، نقل جسده كله ببطء إلى الأعلى. و استراح قليلاً يستجمع الهمة للنقلة الصعبة التالية. و فعلها كما الأولى. أخرج المفاتيح من جيبه بعد لأي وارتباك. كان واضحاً أن حمالة المفاتيح لم تمكّنه من نفسها بسهولة. بحث عن المفتاح الصحيح دهراً، و أدخله بعد محاولات ومحاولات في القفل، وانفتح الباب. انفتح الباب أخيراً حقّاً. و كان عليه أن ينحني بكل جسده مرة أخرى كي يتناول الكيس، و وضعه فوراً خلف الباب. و لم ينس أن يرفع متمهلاً غطاء صندوق البريد بجانب الباب متعمقاً و متمعنا طويلاً في النظر إلى داخله، لعل رسالة تستقر بعيداً في قاعه، و ما في إمكانه رؤيتها. و لم تكن هناك أيما ر سالة.
دلف إلى الداخل و غاب هناك، و انطبق الباب ببطء و دون صوت.
وحيداً يعيش هو و لا بد، وحيداً بين جبال من الذكريات و صور الذين غيبهم الزمنُ.
محمد الحاج صالح
آرندال. النرويج. 25/9/2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع