الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العوامل والمؤثرات الرئيسة في تشكيل أسلوب الكتابة عند كامو ج 2

سعد سوسه

2018 / 10 / 3
الادب والفن


2-أعراس
لقد كتبت هذه المجموعة بين عامي 1936 – 1937 ، ثم نشرت بعد عام من ذلك 0 ويوضح هذا الامر قرب المدة بين كتاب كامو الاول وكتابه هذا الذي يعد امتداداً للكتاب الاول سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون0 فالنزعة الغنائية الشعرية هي النزعة الطاغية على هذا الكتاب ، بل أن اسلوب الكتاب معتمد عليها بصورة تامة ، كما نلاقي الموضوعات عينها التي طرحت سابقاً كثنائية الحياة والموت والسعادة وحب الطبيعة والحس والجسد 0 إلا أن كامو في ( أعراس ) يترك المدينة ومشاهدها ويقبل على الريف الجزائري فيصف ( تيبازا ) و ( جميلة ) ، وبعد ذلك وبالمقارنة مع المسنين في ( الوجه والقفا ) يصف لنا الشبان على شطآن الجزائر في الصيف ، أما المقال الاخير ( الصحراء ) فهو تأمل مسهب في إيطاليا ولاسيما فلورنسا والرسم الايطالي 0 وفي المقالين الاولين ( أعراس في تيبازا ) و ( الريح في جميلة ) يصف كامو الطبيعة وصفاً دقيقاً معبراً عنها بالفاظ توحي بالجمالية والحس الانساني الصافي " فالربيع والشمس والبحر المدرع بالفضة والسماء الزرقاء الصافية " لاتبدو عند كامو مجرد كلمات تضج بها صفحات تلك المقالات ، وانما هي صور مجسدة للطبيعة استطاع أن يضفي عليها لمساته واسلوبه الذي يعكس لنا براعته في التصوير الواضح لخفايا وأسرار الطبيعة ، حتى جعل من صوره الحية تلك ألسنة فصيحة تخاطب مشاهدها باعثة في فكره يقظة ، وفي عقله نوراً ، وفي نفسه بهجة 0
ويتحدث كامو في هذين المقالين عن حبه للحياة وللسعادة من خلال تمتعه بالماء والشمس والريح وكل صور الطبيعة في ( جميلة ) و( تيبازا) تلك الصور التي تمنحه حب الحياة ولاتعده باي أمل أخر سواها إذ يقول " إنني أحب هذه الحياة حباً لاتكلف فيه وأريد أن اتكلم عنها بحرية ، أنها تمنحني كبريائي لكوني أنساناً" وكأن في قوله هذا دعوة لأرتشاف الطبيعة بكل ما فيها ومن كل منافذها ، وكأن فيها فقط يشعر الانسان بأنسانيته لانها تجرده من كل قناع وتجعله نقياً مثل صورها ، " هذه الشمس ، هذا البحر ، قلبي المتوثب بالشباب ، جسدي بما فيه من طعم الملح، والمدى اللامحدود الذي يلتقي فيه الحنان والمحبه بالصفرة والزرقة ، كل شيئ هنا يتركني بكراً ، فأنا لا أتخلى عن شيء من ذاتي ولا أتحجب باي قناع" 0 فنقاء الطبيعة هذا لايدانيه شيء في نظر كامو ، فليس ما يهمه سوى اللحظة الراهنة التي يعيشها ، سوى اللذة الحسية التي يكتسبها منها ، وعلى ذلك فأنه لايامل بحياة أخرى سوى حياته التي يعيشها فقط " إذا كنت أرفض بعناد كل ما في العالم من " فيما بعد " فهذا لأنني أود ألا أتخلى عن غناي الحاضر" 0 وعلى الرغم من أنه يعلم بقصر تلك اللحظات وفنائها فأنه يصر على الامساك بها وعيشها حتى أخر رمق من الحياة ، إذ يقول " إن في من الشباب ما لايمكنني معه أن أتكلم عن الموت ، ولكن أذا كان علي أن افعل ذلك فأنني سأجد هنا الكلمة المضبوطة التي تعبر بين الهول والصمت عن اليقين الواعي لموت بلا أمل" 0 لقد توضح لنا موقف كامو من الموت أينما دار الحديث عنه في مجمل البحث ذلك الموقف الذي بدأه منذ ( الوجه والقفا ) ليحدد معالمه النهائية في ( اسطورة سيزيف ) 0 وما معاودتنا الحديث عن موقفه هذا ألا لما يقتضيه حديثنا عن مواقف اخرى ارتبطت بفكرته عن الموت ومنها حبه للحياة أو بحثه عن السعادة التي تكمن بمتع الطبيعة ، بالشمس والبحر والريح التي يعلن كامو من خلالها عرسه مع العالم 0 وإن كانت هاتان المقالتان تعبران عن تجربة كامو الفردية مع الطبيعة فأنه في ( الصيف في الجزائر ) يتحول الى الحديث عن الجزائر وشعبها " فذلك البلد المفرط في الثروات الطبيعية ، هو بلد بدون دروس ، أنه لايعد بشيء ولا يحمل على الاوهام ، هو فقط يعطي ويهب نفسه ، وأنك لتعرف ما أن تتمتع به أن ملذاته لادواء لها ، وأن أفراحه تظل بلا أمل" 0 وحال البلد كحال أبنائه الفقراء الذين لايملكون سوى متعهم وملذاتهم وطبيعتهم الثرة التي يغرفون منها دونما ملل " فهذا الشعب الخائض باسره في الحاضر يعيش بدون أساطير ، بدون عزاء ، لقد وضع كل ثرواته على هذه الارض وبقي مذ ذاك دون دفاع ضد الموت ، أن هبات الجمال الجسمي موفورة لديه ومعها ذلك الشره الغريب الذي يرافق دوماً هذا الغنى الذي لا مستقبل له" 0 وعلى الرغم من أعجاب هذا الشعب أعجاباً تاماً بالجسد ، فان ثمة اعتدالا يجده كامو في تلك الحقائق التي يمكن لليد أن تلمسها " فليس هناك أي الوهية خادعة ترسم ملامح الامل أو الفداء فلا مكان لميثولوجيا أو لادب أو لدين يجرد كامو الشعب الجزائري من كل التزام بالدين أو بالتقاليد أو بالاعراف ، فيجعل منهم شعباً بلا قيود ، لايعرف سوى الطبيعة وملذاتها حتى أن كامو نفسه يبرر إلحاده اذ يعزوه الى نشأته في بلد متحرر من التقاليد الدينية ، وهو راي مغلوط دون ادنى شك ، إذ إن كامو يخلط بين براءة ذلك الشعب وحبه للحياة ، وبين عدم تمسكه بالدين أو أيمانه بالله0 ، أنما حجارة وجسد ونجوم فقط 0 كما إن هذا الشعب شعب بريء وتتمثل براءته في تلك الطيبة والسذاجة التي يملكها ، فهو متحرر من كل القيود التي تمنعه من السعادة ، إذ ليس لدى هذا " الشعب الطفل " سوى المتعة واللحظة الحاضرة التي يطبق عليها بكل قوته ، فلا أهمية للماضي أو للمستقبل لأن في الحاضر فقط غناه الذي يعوضه عن قسوة الفقر0 الا أن هذا التأكيد الدائم للتجربة الحسية الخالصة ولذائذ الجسد الفانية لاتعني أبداً التجرد الاخلاقي والانحلال " فليس معنى ذلك أنه يجب أن نمارس الحيوانية ، لكني لاأجد معنى لسعادة الملائكة" فكل ما هناك أن كامو لايفهم شيئاً من دون أن يلمسه ويحسه ، لذا فانه لايفهم الابدية أو الامل ، لأن الامل عنده يعادل الرضوخ، وأن تعيش فهذا معناه أن لاترضخ 0
ولا يخرج المقال الاخير ( الصحراء ) عن الاسلوب الوصفي نفسه ، عدا ما يحصل فيه من تغيير للمكان ، إذ تكون إيطاليا والفن الايطالي هما محور المقال مع بعض المداخلات التي لايبرحها كامو كحديثه عن الحياة والموت والحب والفرح والسعادة التي يتميز الحديث عنها في هذا المقال من دون ما عداه ، كوننا نصل من خلال هذا الحديث الى المعنى الدقيق للسعادة في نظر كامو " ما السعادة أن لم تكن ذلك التجاوب البسيط بين كائنِ وبين الوجود الذي يعيشه ، وأي تجاوب شرعي يمكن أن يقيم وحدة الانسان والحياة إن لم يكن وعيه المزدوج لرغبته في البقاء ولقضاء الموت المقدر عليه0 أننا لنتعلم من ذلك على الاقل أن لانعتمد على أي شيء وأن نعتبر الحاضر الحقيقة الوحيدة الممنوحة لنا" 0 لقد شغلت السعادة فكر كامو كثيراً وكان لها حضورها الواضح في أغلب كتاباته بل أن جل ما كان يسعى اليه هو أن يمهد الطريق الشائك الذي يعيق الوصول الى السعادة ، فيصالح بين المتناقضات ويوفق بين ما لايتفق حتى يحصل على مبتغاه إذ يقول "إن في قلب نتاجنا المفعم بالسواد شمساً تشع وليس لضيائها من خمود" 0 فحتى في قلب اليأس والتشاؤم الذي يسود نتاج كامو ، تبقى هناك ومضات من التفاؤل إذ تبقى الشمس ويبقى نورها مشعاً لاينطفئ ، وربما تكون شمس كامو هذه بارزة في كل مؤلفاته سواء جاءت بمعناها الحقيقي كما هو الحال في ( اعراس ) الذي لاتكاد صفحة من صفحاته تخلو من تلك الكلمة ، أو بمعناها المجازي بوصفها النور الذي يشع في ثنايا كتاباته ليولد السعادة 0 لقد منحتنا تلك المقالات احساساً عميقاً بجمال البيئة الجزائرية من جبال وشمس وبحر ممزوجاً بالاحساس بقسوة الفقر وآلام البشر 0 كما إن فكرة الجسد واللذة والتجربة الحسية الخالصة قد أحالتنا الى فكرة كامو عن ( أخلاق الكم ) – التي بيناها سابقاً- تلك الاخلاق القائمة على التجربة الحسية والاستمتاع بالحياة الزائلة بأعظم قدر ممكن ، التي على الرغم من ذلك لا تستبعد ( أخلاق الكيف ) أو تلغيها ، وتلك أيضاً واحدة من الافكار الفلسفية التي تداخلت مع الادب عند كامو وشكلت فيما بعد فكرة فلسفية مستقلة 0 وخلاصة لكل ما تقدم فأنه يمكننا أن نقف على اللحظات الاساسية التي شكلت فكر كامو في ( أعراس ) والتي كان لها أثرها في جميع أعماله التالية وتلك اللحظات هي " الواقع الحاضر والمباشر ، السعادة ، الحياة بأعتبارها القيمة الاولى والاخيرة ، نقاء القلب والبراءة ، حتمية الموت وانقطاع الامل ، رفض العالم اللامعقول بغير العزوف عنه ، واخيراً تأكيد محدودية الانسان" مثلما يمكننا أن نقف على أسلوبه النثري الذي تميز بجمعه بين الصفاء والغنائية ، وبعاطفته المتقدة ، وبالانعطافات اللماحة للجمل ، وبأمثاله الجذابة مما يجعله قريباً من الشعر وهذا يتضح من جمالية الصياغة ودقتها حتى باتت كلمات كالشمس والبحر والسعادة كلمات تطفح بالحياة وتفصح عن عاطفةِ لامثيل لها0
3- الصيف
ضم هذا الكتاب المجموعة الاخيرة من مقالات كامو التي كتبت بين الاعوام 1940-1953 ونشرت عام 1954 ، أي أنها قد كتبت بعد ( الوجه والقفا)و(أعراس) بمدة زمنية بعيدة 0 ومن المعروف أن سنوات الحرب العالمية الثانية التي وقعت أبان تلك السنوات قد خلقت شقاً عميقاً في نفسية الفرنسيين ومنهم البير كامو الذي تزعزعت ثقته الاولى بالناس مما غير مناخ مقالاته أنذاك ، ومنها مجموعة مقالاته ( الصيف ) التي كتبت معظمها خلال تلك المدة أو بعدها بقليل0 وقد كان الفاصل الزمني بين محاولات كامو الاولى وهذه المقالات كفيلاً بتغيير مستوى التاليف وأسلوب الكتابة عنده ، إذ غدت تلك المقالات اكثر رصانة ونضجاً من سابقاتها ، فكامو يبتعد بعض الشيء عن غنائيته الحادة التي أعتمدها في محاولاته الاولى ، ويحاول قدر الامكان تأسيس عددِ من الافكار التي تهم الانسان ومصيره0 وتتباين مقالات هذا الكتاب في موضوعاتها ، إذ إنها لاتنصب في موضوع محدد مثل سابقاتها، فهي تأملات شعرية فلسفية في الارض والانسان ، وهي نظرات في التاريخ والطبيعة ، فيها شيء من روح التصوف ، شيء من الالحاد وبعض التدين ، وفيها أحاسيس عميقة بالعبث ، الى جانب الافكار المتفائلة 000 كما تطالعنا في هذا الكتاب وثبات نحو الحديث عن الانسانية في كل أحوالها ، الانسانية المعذبة بالحرب أو الراغدة في نعيم العيش 0
وربما يكون مرد هذا التنوع الى أن تلك المقالات لم تكتب كلها دفعة واحدة أي أن هنالك ظروفاً حددت كتابة تلك المقالات منها ظروف العصر الذي كان يعيشه كامو ، والتي آملت عليه التأمل في متطلبات واقعه من دون الانصراف عنها كلياً لتأمل الطبيعة ومعالمها فقط مثلما حدث في ( الوجه والقفا) و( اعراس ) 0 على الرغم من أن المقال ا لاول ( في معالم وهران) يعد امتداداً للموضوعات نفسها التي تناولها في مقالاته الاولى فهو يستذكر فيه معالم المدينة وشوارعها وصحرائها وآثارها كما يصف حياة سكانها ومتعهم التي تمتاز بالبساطة ومع ذلك تمنحهم السعادة والفرحة وتجعلهم يتغلبون على عبث العالم ولا جدواه ولهذا فان كامو يستذكر تلك المعالم على الرغم من ان وهران ليست اكثر من صحراء وحجر وبحر ، إذ يقول " إنني لأذكر تلك المتع فما يأخذني الاسى عليها ، ولكنني أعترف بأنها كانت حلوة عذبة 0 والآن وقد مرت سنوات عديدة عليها ، فأن ذكرياتها لاتزال باقية في ناحية من نواحي هذا القلب الذي يحس بصعوبة الوفاء رغم كل شيء" 0 ولا نجد جديداً مع ( دليلِ صغير الى مدائن بغير ماضِ ) و ( الرجوع الى تيبازا) و( البحر عن كثب ) ، إذ يعاود كامو الحديث عن بيئته وذكرياته عنها حين يقارنها في أول هذه المقالات مع البلدان الاوربية التي زارها ، والتي لم تكن على الرغم من تمدنها بمستوى الجزائر وجمال طبيعتها وسكانها ، فكامو يرى في الجزائر غير ما يراه الاخرون لذلك فأنه يكثر الحديث عنها ولايستطيع انتزاعها من ذاكرته مهما مرت سنوات بعده عنها ومهما زار من مدن اخرى ، إذ يقول " كلما حلا لي الحديث عن الجزائر أحسست بالخشية من أن أعتمد في حديثي على شعوري بذلك الخيط الداخلي الذي يربطني اليها ، وانا العالم باللحن الآسر الذي يعلو على كل لحن" 0 إلا أن ما يبدو واضحاً هو أن كامو لم يستطع التخلص من ذلك الشعور ، إذ أنه يؤكد دائماً " أن بوسعي من كل قلبي أن أقول على الاقل ، أن الجزائر هي وطني الحقيقي00 وأن ما أحبه في المدن الجزائرية لاينفصم عن الناس الذين يسكنونها" 0 ويقول في ( الرجوع الى تيبازا ) " ليس في طريق تيبازا كيلو متر واحد ألا وتغشاه الذكريات والمشاعر ، الطفولة العابثة والمراهقة الحالمة ، الفتيات النضيرات، والشواطئ والعضلات الفتية في ذروة اشتدادها ، والقلق الهين الذي يجلبه المساء على قلب أبن السادسة عشرة ، والرغبة في العيش والنصر ، دائماً نفس السماء ترافق كل السنين وتوحي بالقوة والضياء" 0 لقد كان فرح كامو بذكرياته تلك عزاءً له على عصره القائم على الموت والحرب ، لقد خلقت فيه تلك الذكريات شجاعةً وتحدياً 0 وهذا هو شعوره عندما يغادر تيبازا عائداً الى أوربا ، حاملاً معه ذكرى رحلته التي تعينه على متابعة تقلبات الحياة " بنفس القلب وذات العزيمة" 0 فكامو لا يعرف اليأس ابداً مهما حلكت الظروف من حوله ، لأن الحياة تبقى " فضيلته الوحيدة التي يعتبرها أشرف ما في العالم" ، وما يعكسه لنا هذا المقال هو توق كامو ورغبته الشديدة في العودة الى الوطن بعد تلك الرحلات العديدة في البلدان الاوربية0 لقد ظل كامو وفياً لذكرياته ، فمشاعره أزاء بيئته وموطنه الاول لم تتغير قط ، ولكنه في الوقت نفسه لم يعش بعيداً عن عصره فيكتفي بماضيه فقط ، ولطالما اكد على اللحظة الحاضرة بكل ما تحويه ، ولأن كانت لحظته أنذاك هي لحظة عصره الذي يعيشه فانه قد أصبح لزاماً عليه أن يحياها على الرغم من سلبياتها التي يرفضها وأن يرسم له موقفاً خاصاً به يكون وبلا شك وسط بين تلك المتناقضات القائمة بين الخير والشر أو بين الحق والباطل وهو يقول " في هذه الفترة العصيبة التي نعيشها، بماذا تراني أرغب اكثر من عدم التذمر ، ومن أن أتعلم كيف أجدل من خيط أسود وأخر أبيض حبلاً أمده لتسلق الدروب العسيرة 0وفي كل ما فعلت أو قلت يبدو لي أنني عرفت دائما هاتين القوتين حتى عندما تتعارضان ، أنني لم أستطع أنكار الضياء حيث ولدت وفي نفس الوقت لم أرد التنكر لمنجزات هذا العصر" 0 ويخطو خط السير نفسه ايضاً في (البحر عن كثب ) إذ يوحي عنوان المقال ، بمعنى المقال نفسه ، إذ إنه لايخرج عن وصف البحر والمرافيء والسفن والبحارة والامواج وغيرها من صور البيئة البحرية التي رآها كامو وتأملها في اثناء أحدى رحلاته البحرية" أننا نبحر في فضاء كثير الرحابة لدرجة أنه يخيل ألينا أننا لن نبلغ الهدف قط ، شمس وقمر يتناوبان الطلوع والهبوط على نفس خط الضياء والظلمة ، والايام على البحر شديدة التشابه كالسعادة 000 وانها لحياة عصية على النسيان ، عصية على الذكرى" 0
العوامل والمؤثرات الرئيسة في تشكيل أسلوب الكتابة عند كامو ج 2
أما مع مقالات الكتاب الاخرى ( أشجار اللوز ) ، ( بروميثوس في الجحيم ) ، ( منفى هيلانه ) و ( اللغز ) فأننا نشهد تحولاً ملموساً في أسلوب كامو سواء من ناحية المادة ، أو من ناحية الشكل ، فالموضوعات اكثر جدة واكثر أتصالاً بشؤون العصر ومتطلباته ، إذ يحل الانسان محل الطبيعة ويصبح العصر ومتناقضاته وحروبه اساس الاشكالية التي يبحثها كامو ، كما أن الافكار تبدأ بالوضوح إذ تتخذ لنفسها خط سير محدد المعالم نستطيع من خلاله الوقوف على ما أراد كامو أن يقوله بصورة متكاملة ، فتأملاته وأفكاره التي كانت متوزعة بين صفحات ( الوجه والقفا ) و( اعراس ) تصبح اكثر استقراراً حين يبدأ بأختيار مايريد ولا يعلق اختياراته أو يحاول أرجاءها الى اوقات لاحقة ، ومن ناحية اخرى فأنه يبتعد بعض الشيء عن التزويق اللفظي والغنائي في هذه المقالات0 في (أشجار اللوز ) يتحدث كامو عن عصره وعن دور العقل الذي تلاشى وفقد هيبته أزاء القوة التي حلت محله ، فالحرب قد جعلت العالم واقعاً في التناقض والقلق واليأس ، ولكن على الانسان – كونه مسؤولاً في هذا العالم – أن لايخضع لكل ذلك البؤس " علينا أن نرفض ماهو ممزق ونعيد العدالة المتخيلة الى عالم يسحقه الظلم ، والسعادة المبتغاة الى شعوب فتك فيها شقاء هذا العصر" 0 وذلك كله لن يكون الا أذا عرفنا ما نريد ، وصمدنا في مناصرتنا للعقل ، فأذا كان هذا العالم مذعناً لبؤسه ومستسلماً لشقائه ، فعلينا أن نمد له يدنا ، لأن من العبث أن نبكي على العقل ، والمهم أن نبذل جهداً من اجله ، وهذه هي دعوة كامو المعروفة لتجاوز الياس وتحمل عبْ الحياة وعبثها0 أما في ( بروميثوس في الجحيم ) فيستعير كامو الاسطورة اليونانية القديمة تدور الاسطورة اليونانية هذه عن بروميثيوس الذي أحب الناس كثيراً لدرجة أنه منحهم النار والحرية عندما تمرد على الاله زيوس آله النار ، إلا أن الالهة قد حكمت عليه فصلبته الى صخرته بأسم العدالة وبأسم الانسانية لأنه تمرد على الالهة ولم يذعن لهم مثل الاخرين فبقي وحده يدفع ثمن تمرده ذاك من دون أن يشاركه أي أحد من الذين حاول انقاذهم ، ولكنه مع ذلك بقي اكثر صموداً من صخرته لايمانه الراسخ بالانسان0 وقد كان بروميثوس رمزاً للانسان المتمرد عند كامو ، إذ تناول الاسطورة نفسها في ( الانسان المتمرد) عاداً اياه أحد نماذج التمرد الميتافيزيقي ، إلا أنه ليس تمرداً أصيلاً كون برومثيوس لايثور ضد الخلق كله بل ضد الاله زيوس فقط وهو ليس سوى اله من الهة عدة ، وبذلك بدت المسألة وكأنها تصفية حسابات خاصة ، مسألة نزاع على الخير لاصراع يدور بين الخير والشر 0 ليبني عليها وضع الانسان المعاصر عندما يقارنه ببروميثوس الصامد في وجه الالهة من أجل الاخرين ، فهو يرى أن في عصره رجالاً مثل بروميثوس هم أبناء للعدالة ، يتالمون لألم الناس جميعاً ويتمردون على وضعهم لانهم يعرفون حق المعرفة انه ليس من العدالة أن يسير التاريخ مغمض العينين ، وعلينا أن نجعل العدالة على قدر الامكان تسير مجراه من جديد وذلك ما يناسب العقل 0 ولكن حتى لو حدث لهؤلاء الرجال مثل الذي حصل لبروميثوس من آلهة عصره عندما صلب الى صخرته بأسم الانسانية التي كان هو نفسه رمزها الاول 0 فعلينا مع هذا أن لانياس من أمكانية الخلاص وانقاذ الانسان على يد مثل هؤلاء الرجال الذين يتوجب عليهم لكي يحموا مبادئهم ، أن يتعلموا كيفية الحفاظ عليها فيكون هدفهم التمرد على كل أشكال اليأس والعبث بأصرار وعناد حتى لو أدانهم الناس باسم مبادئهم ، إذ يجد كامو " أنه من الافضل بالنسبة لنا ذلك الاصرار العنيد على المبدأ ، من ثورة في وجه الالهة 00 والعمل على عدم الوقوف عثرة في وجه اولئك الذين أخذوا على انفسهم دمل جراح القلب الانساني وبعث ربيع الحياة" 0 ولايخرج الحديث في ( منفى هيلانه ) عن نطاق العصر نفسه ، حينما يقارن كامو بين الحضارة الاغريقية القديمة ووجه العصر الحديث ممثلاً بأوربا ، فهو يجد في حضارة اليونان المثل الاعلى الذي يجب أن يقتدى به " إن الاغريق ما أعتورهم اليأس أبداً ألا عبر الجمال أما عصرنا فعلى العكس ، لقد غذى يأسه بالقبح والقسوة" 0 لقد تغنى كامو بالجمال والاعتدال والتوازن الذي أمتاز به الفكر اليوناني ، وندد بالمغالاة المفرطة التي أتسمت بها أوربا ، فهي قد أنكرت الجمال ، وتنكرت لكل ما لاتقيم له وزناً ، ولو أنها على كل حال لاتقيم وزناً الا لشيء واحد هو ما يكون أمبراطورية العقل في المستقبل 0 أن تمجيد كامو للحضارة اليونانية مرده بلا شك الى تأثره الواضح وحبه الكبير لليونان كونها قريبة الشبه بموطنه الاول حيث البحر والنور والجمال والتوازن0 ولذا نراه ساخطاً على أوربا لأنه لم يجد فيها الا الوجه المظلم الكئيب الذي يتجاهل كل نور وكل جمال ، ولكن أوربا تمثل العصر ولان العصر مثلما يقول كامو " هو عصرنا شئنا ذلك أم أبينا ، فليس بوسعنا العيش فيه ونحن نكرهه ، ولان هذا العصر لم يولد على ماهو عليه الا بجدة فضائله ،وبعظمة أخطائه ، فأننا سنناضل في سبيل ماله من فضائل عصية على التحقيق" 0 وبالتأكيد فأن تلك الفضائل لن تتحقق من دون رفض التعصب والجهل ، والدفاع عن الانسان والجمال ، وبعدها الحفاظ على التوازن والاعتدال وتلك هي صور الحضارة اليونانية0 أما في ( اللغز ) فقد تحدث كامو عن موضوع الكاتب ومسؤولية الكتابة وعن الابداع وضرورة انتقاء الكاتب لموضوعات تناسب عصره وتتماشى مع ظروفه وهو يؤاخذ الذين يمزجون بين الكاتب وموضوعه مشيراً الى تجربته مع العبث ، وكيف أن الموضوع قد لاصقه حتى أصبح سمته البارزة ، في حين أنه لم يفعل اكثر من تناوله لتلك الفكرة التي كانت سائدة في عصره، فهو يقول " لقد غدوت وكأنني رسول للعبث، وماذا تراني فعلت في الحقيقة اكثر من أنني عللت فكرة كنت وجدتها في شوارع عصري ؟ وانني غذيت هذه الفكرة بكل الجيل الذي أنتمي أليه 000 وذلك شيء لم يكن ليعوزه القول وكل ما في الامر أنني سرت معها مسافة كافية لكي أمحصها وأقرر المنطق الضروري لها لكي أبرزها للاخرين" 0 لقد لاحظنا على طول خط سير المجموعات الثلاث ( الوجه والقفا ) ، ( اعراس ) واخيراً ( الصيف ) مراوحة كامو في المكان نفسه تقريباً ، عدا بعض الانتقالات الحاصلة في عددِ من المقالات ، فهو لم يستطع الخروج من أفكاره أو أسلوبه بشكل عام ، ألا ما حصل من تدرج ونضوج في بعض الافكار عنده تماشياً مع الظروف التي حتمت عليه مثل ذلك التغيير0 وعلى أي حال فقد كان المقال عند كامو فناً له أسلوبه ، وشكلاً مميزاً من أشكال التعبير التي أستطاع كاتبنا بواسطتها قول ما يشاء ، ومقالات كامو جميعها سواء ما كان منها قريباً الى الغنائية ، أو ما كان قريباً الى القضايا الفكرية ، قد خدمت غرضاً محدداً ، فقد كان المقال لدى كامو – كلما أزداد أنخراطه في ضجيج عصره وأضطرابه – وسيلة للتوضيح والتحديد النفسيين ، ومن ثم وسيلة للتحرر 0 فأذا كانت مقالاته الاولى التي تغنت بالجمال والشمس والنور قد حررت روحه وعبرت عن كوامن نفسه ، فأن مقالاته اللاحقة قد حررت فكره وعبرت عن كوامن عقله0 ولان كامو بطبيعته ليس فكراً خالصاً ، وليس أدباً خالصاً ، فأننا لن نستطيع أن نفصل عنده بين الفكر والفن ، ولذا فان ما وجدناه في مقالاته تلك لايخلو من أدبِ امتزج بالفكر ، أو فكرِ تزين بالادب0 فكامو أنسان الفكر والعمل عنده شيء واحد ، ورجل أرتفعت اعماله الى مستوى أفكاره فنتج عن هذا الاتساق الرائع في شخصه ذلك الانسان المتوحد الذي لايمكننا أن نفصل فيه بين المفكر والفنان ، بين الشاعر والمكافح ، بين رجل السياسة وفيلسوف الاخلاق 0
المصادر
- بري ، جرمين ، البير كامو ، ص34-35 0
- الحفني ، عبد المنعم ، البير كامى ، ص86 0
- مكاوي ، د0عبد الغفار ، البلد البعيد ، ص248
- كاظم ، صافنياز ، قراءة في دفتر ملاحظات كامو، مجلة الهلال ، العدد 4 ، 1969، ص56 0
- كروكشانك ، جون ، البير كامى وادب التمرد، ص37 0
- كامو ، البير ، الصيف ، ص93-94 0
- بري ، جرمين بري ، البير كامو ، ص101 0
- كامو ، البير ، وجها الحياة ، ترجمة د0سامي الجندي ، دار الطليعة ، بيروت ، ط1 ، 1962 ، ص47 0
- الحفني، عبد المنعم ، البير كامى ، ص101 0
- مكاوي ، د0عبد الغفار ، البير كامى محاولة لدراسة فكره الفلسفي ، ص65 0
- السمرة ، د0محمود ، ادباء معاصرون من الغرب ، دار الثقافة ، بيروت –لبنان ، بدون سنة ، ص75








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى