الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرة إلى دواعي التغيّر المطّرد في الفكر الاجتماعي

خالد المطلوب

2018 / 10 / 8
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



إن نظرة سريعة إلى بعض الاتجاهات الفلسفية والتقلبات التي أصابتها على مر عصورها، تكشف عن أن العقل البشري لا يمكن له أن يستريح من سيادة مذهب واحد محدد، برغم ما تحمله عقيدة اليقين Dogmatism من راحة وطمأنينة متأتية من استقرار القناعات وثبوتها، ولكن على ما يبدو أن تغيرات الواقع الاجتماعي المطردة والبحث الدائم عن الجديد، تدعم رجحان كفة القلق الذي يعتري العقل فيستفزه لمواصلة التفكير. ومن ذلك يبدو مفيدا الإشارة إلى التحولات المزمنة التي شهدها تاريخ الفكر الفلسفي بين مذهبي الشك واليقين؛ كان السوفسطائيون دعاة شك ونكران إمكان المعرفة، فجاء من بعدهم فلاسفة اليونان الكبار (سقراط، أفلاطون، أرسطو بموقف داعم لمذهب اليقين. وكان شك فرنسا في القرن السادس عشر قد أعقبه يقين ديني عند "شارون" وتجريبي عند "بيكون" واتباعه، وعقلي عند "ديكارت" ومدرسته، وشك "هيوم" قد دحضه "كانط" بمذهبه النقدي). (توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص237).
وقد تنامت الفلسفة المادية في العصر الحديث كرد فعل على الفلسفة المثالية التي سيطرت على أوربا حولي ألف سنة، وتدخلت في حياة الناس بصغيرها وكبيرها، وكشفت عن الوجه البشع للمؤسسة الكهنوتية التي حاربت أي فكر مخالف للشائع الذي تدين به. وكان للتقدم العلمي الذي تحقق في عصر النهضة من خلال الاعتماد على استخدام الآلة وطرق القياس والاستناد إلى التجربة والمشاهدة، كان له الأثر الكبير في تحفيز الفلاسفة لاحقا لتطوير المنهج الطبيعي في الفلسفة واصطناع المادية والوضعية، والتي نهضت بالفكر البشري على أساس الاستفادة من المنجز العلمي وإفادته، وكان لها أثرا مهما في الخروج من قوقعة مثالية العصر الأوربي الوسيط بعد أن استنفدت هذه إمكانياتها في تقديم الجديد، ولكن: هل كان اندحار المثالية مطلقا وأكيدا ونهائيا؟
يبدو أن من غير الممكن القول بذلك، فلنأخذ ومضة من ومضات الدفاع عن المذهب المثالي في العصر الحديث؛ فقد تصدى باركلي "ت 1753" للدعوة إلى العودة بالفلسفة نحو المثالية والروحية، وكان أصل دعوته تلك مبنيا على عاملين، الأول هو أن باركلي كان رجل دين مسيحي يؤمن بأن ديانته بمقدورها أن تقود البشر إلى بر الأمان، والسبب الثاني في ظهور مثالية باركلي هو شيوع المادية وتفشي الإلحاد والتمرد على الدين ومبادئه في عصره. ومن جملة أعماله الفلسفية (كتابه "المحلل أو مقال موجه إلى رياضي كافر" يهاجم فيه نظرية "نيوتن" عن الانصهارات، ويبرهن على أنه لو كانت هناك أسرار غامضة في الرياضيات، فليس من المعقول أن نتوقع وجودها في الدين)، وقد أنكر باركلي وجود المادة نكرانا مدهشا لدرجة تعرضه للسخرية جرّائها، بقوله: "لا يوجد سوى الله، وأرواح متناهية، وأفكار الأرواح". (فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، مج5، ص262)
أن النقد الموجه للمذاهب والاتجاهات والتيارات الفكرية المختلفة، يتعلق إلى حد بعيد بمسألتين أساسيتين هما؛ تغيّر الظروف والأوضاع التي قادت لظهور المذاهب المنتَقَدة، وحلول أحوال مستحدثة تستدعي فهما اجتماعيا جديدا، بينما تدور المسألة الأساسية الثانية حول رؤية الناقد "المفكر" وقاعدته الفلسفية التي ينطلق منها للنظر للعالم، والذي يحتمل غالبا أكثر من زاوية لفهم الأزمات وبالتالي ابتداع تفكيكها، فمنذ أواسط القرن التاسع عشر -على سبيل المثال- ونضوج الفلسفة الماركسية بموازاة النمو الصناعي الكبير الذي حققته دول أوربا الغربية "بريطانيا، ألمانيا، فرنسا" في أعقاب الثورة الصناعية، تتناطح الرؤية الاشتراكية والرؤية الرأسمالية وتدّعي كل منهما امتلاكها للحلول الجذرية لمشاكل البشر، وبرغم انهيار الاتحاد السوفيتي الدولة التي تدين باشتراكية ماركس، إلا أن العالم لم يصفُ للنهج الرأسمالي كسبيل وحيد لعيش آمن مستقر.
وفي الولايات المتحدة سادت الفلسفة البرجماتية في التفكير الأمريكي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وطُرحت فكرة النجاح كمعيار حاسم لصحة الحلول المقترحة، بل تمادت البرجماتية في ذلك وبحثت في "القيمة المنصرفة" أو الفورية للأفكار Cash Value، ولا تبدو هذه المعايير غريبة عن المجتمع الأمريكي في عصر الإقبال على الصناعة وإنتاج المشروعات الضخمة، على أن البرجماتية لم تلاق رواجا بيّناً حتى في دول أوربا الرأسمالية. وبالمثل كانت الفلسفة الماركسية تشرح واقع حال دول أوربا الغربية في القرن التاسع عشر وتحمل رؤية لمستقبل تلك الدول وللعالم أجمع، وهي –أي الماركسية- لم تجد لها فرصة التطبيق حيث نشأت، بل قام الحزب الشيوعي الروسي بفرضها في بلاده –بعد نجاح ثورته على القيصرية عام 1917- علّ ذلك يسهم في انتشارها عالميا، إلا أن النتائج خيبت آمال معتنقي ذلك الفكر لأن الدولة السوفيتية بماركسيتها ولينينيتها لم تكن أكثر من ديكتاتورية الحزب القائد الأوحد.
أما الفلسفة الوجودية فقد تحددت معالمها بظهور كتابين؛ أولهما لمارتن هيدجر "الوجود والزمان" والآخر لسارتر عن الوجود والزمان، وقد ابتعدت هذه الفلسفة عن المذهبية الفلسفية التي اهتمت بالوجود الكوني أكثر من اهتمامها بالإنسان، وأنكرت الوجودية كذلك اتجاه الفلسفات إلى الحركات الجماعية التي تطمح لصب البشر في قوالب معينة. وعلى نقيض هذا قالت الوجودية بأن ماهية الإنسان تكمن في وجوده في العالم، وبعبارة أخرى أن الوجود سابق على الماهية "أي أنك توجد أولا ثم تتحدد ماهيتك بعد ذلك عن طرق أفعالك"، وسخّرت مفاهيمها للاعتناء بالإنسان الفرد دون الجموع. ولم تخرج هذه الفلسفة أيام نضجها عن محددات المعطيات المرحلية التي عاصرتها، فقد عايش سارتر وغيره الظروف التي مرت على أوربا بخوضها حربين عالميتين مدمرتين، حوّلت البشر إلى أعداد مجردة مهمتها القتال دون أي شيء آخر، ومن هنا تأمّل الوجوديون في القلق والفناء الذي سببته الحروب، واهتموا بتركيز الجهود على قيمة الذات الفردية لتخليصها من العوائق التي تحدّ من حريتها وإنسانيتها، الأمر الذي يكشف عن إن مذاهب الفلسفة لم تزل ثمرة جهود فردية مطبوعة عند كل فيلسوف بطابعه الخاص. وباختصار يمكن القول أن الفلسفات المعاصرة قد اختزلت مجال التفلسف من دراسة الوجود بعلله البعيدة ومبادئه الأولى، إلى البحث في وجود الإنسان وتيسير حياته، وقد أقرت بهذا الوضع اتجاهات الفلسفة المعاصرة- من الوجودية إلى المادية الجدلية إلى البرجماتية. (توفيق الطويل، مصدر سابق، ص40)
يجتهد معتنقو الفكر العلماني وفصل الدين عن الدولة في المنطقة العربية، إلى التذكير بمساوئ الحكم الديني وما آل إليه حالنا من خراب بسبب ذلك. ومن الجدير بالذكر إن أنظمة الحكم العربية لا تحمل صفة الدولة الدينية –بالمعنى الثيوقراطي- إذا استثنينا السعودية التي يقوم نظامها السياسي على تقاسم للسلطة بين عائلة مالكة ومشيخة دينية (وتوسعا يجوز إضافة إيران كدولة دينية غير مستقرة في الشرق الأدنى)، أما باقي دول المنطقة فهي ديكتاتوريات عسكرية تستخدم الدين بالمقدار الذي يسهم بتثبيت سلطانها، وهي فكرة كان "ميكافللي" قد طرح شبيهها في بدايات العصر الأوربي الحديث. ومن الضروري التذكير بأن الكنائس الغربية لم تكفّ عن التأثير في مريديها حتى بعد انحسار دورها السياسي، كما لم تتوقف تلك الكنائس عن حضورها التبشيري في أنحاء العالم، على أساس أن المسيحية هي أعلى الديانات شأنا وأرفعها مقاما –وهو اعتقاد تحتكره معظم الديانات لنفسها-، كما أن العالم الغربي لم يحدث له أن ألغى الدين من حياة الناس، لأنه يدرك أن أمرا كهذا يكاد يكون مستحيلا، على أن الإيمان بدور الدين في ضبط سلوك البشر لا يشكل عائقا أمام نقده؛ فكرا ونصا وممارسة.
إن تقلّب الأحوال التي عاشتها الفلسفة الغربية يتطلب التعمق في بحث الضرورات التاريخية التي قادت لتلك التحولات، لعل فهم التحولات والتغيرات يسهم في التخفيف من غلواء معتنقي فكر بعينه بالدفاع عنه حَدّ التعصب الأعمى، على أن دعوة التعرّف إلى سيرورة الوقائع والظروف المكانية الخاصة التي أنضجت الفلسفات الغربية على اختلاف مناهجها، لا يحمل في طياته الدفع إلى الإنكار المطلق لتلك الفلسفات ولا إلى القبول النهائي بكل حرف نطق به صانعوها، وفي مقابل ذلك يحق لنا أن نسأل؛ هل هناك فلسفة عربية واضحة المعالم أم هي في طريقها لأن تكون كذلك، فتأخذ بنظر الاعتبار المكونات الثقافية العامة التي تميّز المنطقة عن غيرها وتطبعها بطابع يُعَرّف بشخصيتها؟ هل يحتاج نطاقنا الحضاري إلى صياغات فكرية عامة "إطارية" في المفاهيم والمبادئ والأطروحات...، تترفع ما أمكن عن جلد الذات وما يفضي إليه من عقدة الدونية، وفي نفس الوقت لا تهرب من يومها إلى "ماض تليد" كآلية دفاعية ضد ضحالة الحاضر؟ وقد يبدو مهما القول بأنْ تنبع تلك الصياغات من التشريح الموضوعي لواقع الحال وحاجته للتجديد والتحديث والتأصيل الفكري، وأن تُراجِع مجموع الأفكار التي ابتكرها العقل البشري في شتى عصوره، بصفتها خزين تجارب كبير دالت فيه الانتكاسات والنجاحات بتواصل مطّرد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا