الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشبح (5)

جميل حسين عبدالله

2018 / 10 / 9
سيرة ذاتية


الشبح
(5)
يتبع
وإذا كان الراهب، وهو قد نجس الدم من جهة كونه منفصلا عن الجسد، وقدسه من جهة كونه متصلا بالروح، فإنه قد رحب بالعقل حين يكون قادرا على تأليف معاني الاجتماع، وغدر به حين يكون دالا على الألم الذاتي، لأن محفزات الراهب على صياغة تدبيرات البشر، وترتيبات النظام، وتقويمات التنظيم، جعلته ينسى ما للفرد من حريات الاختيار، ومدارات الاختبار، فرأى أن كل شيء لا يعود إلى ما يصنعه من مهاد للمدن المقدسة، لا يجوز له أن يكون علامة على السير إلى عالم السماء، ولا طريقا مهيأ للجلوس مع المتعالي المطلق. لكن، أليس الدم في بدايته روحا، فيكون على هذا مصونا في كل إنسان.؟ أليس الخمر دليلا على الانزياح في اللاعقل، وهو المرغوب للراهب حين يطالب مقلديه بالفناء عن المادي، والبقاء في الروحي.؟ أليست الإرادة هي الحرية؛ وهي كونك كما أنت، وكما تريد، ولا يد لأحد على مبدئك، وقرارك.؟ أليس الاختيار، هو أن تبني سلم رقيك، ولو خالفت نظر غيرك.؟ كل هذا، لن نجيب عن اختباره سائلا، ما دمنا لم نضع أعيننا على أصل الإنسان، ولم نصل إلى بؤرة الزمان والمكان التي انطلق منها إلى عالم الأرض، ولم ندرك هل كان كائنا سماويا، ثم هبط إلى ضجيج الكون، وحضيض الكائنات المفترسة لسكونها، أم كان كما هو في حاله، تولد بين مهاد هذا الكوكب، ونشأ تحت سطوحها، وراهق فوق وهادها، ولم يفارقها إلا في أوهام الراهب، وأراجيفه التي همس بها في آذان الذاهلين، والغافلين، وكيف انتقل في تاريخه من مرحلة إلى مرحلة، ومن طور إلى طور، وكيف تركبت فيه أوهام الجماعة، وأخلاقها النفعية، وأعرافها البليدة، وتقاليدها المتهافتة، وكيف حارب ذاته بذاته، وفارق باطنه لبهرجة خارجه، لكي يقدم روحه لفداء آلهته، وحمايتها من طلاب عظمتها، ومجدها، وكيف أطفأ سرج كونه، وأوقد فتيل الحروب في الصحراء، ليطلب قبس نور من العماء السادر فوق أفقه، وكيف صار عبدا لما سماه نظاما، أو تنظيما، ثم خادما مطيعا له بلا رغبة في حمايته، وكيف انقطع حبل وده بالأشياء المغرية، وصارت مع وجودها بلا شهية، ولا نداوة، وكيف غازل الموت بنحر ذاته، لئلا يرى هوانه في عالم يقوده النفاق، لأن أجل ما توحي به دراسة تاريخ البشرية، وتحليل ما انطوى عليه من تجارب، وخبرات، يؤكد على أن المعاني الظاهرية، ما هي إلا استنساخ محض للمعاني الباطنية، وانعكاس للذات الكلية على مرآة الذات الجزئية، وهما من يدبران الكرة الأرضية، ويقتسمان حدودها الجغرافية، والمناخية، ويفرقان بين ألوانها، وأطيافها، ويفصلان بين أشكالها، ودوائرها، إلا أن الأولى بقيت مهجورة في أقبية الحكماء، والثانية تداولها الناس في تناقض المصير بما تنزف به من أعبائها، وأوضارها، لارتباطها بصورة الراهب الذي صنع إلهه من عجينة التمر الممزوجة بخمرة الألم، فعبده مرهقا، ومتعبا، وحين جاع، واهتاج، وافتقر إليه في صولة المحتاج، التهمه بعجل، فلم يشبع مما أكله اختلاسا، وارتكاسا، وأنى له أن يشبع جوفه مما صنعته يده الملطخة بدمه، وهو لا يطالب بجشع سغبه، وعطشه، إلا الاستحواذ على إيالة الأرض، واستعباد أهلها، واستغلال ما فيها من خيرات، وكائنات. لكنَّ ما أضاف شحنة الكراهية إلى علاقتهما المتشابكة، وبدد ما فيهما من اتصال، وفجر ما بينهما من انفصال، هو ما صنعه الراهب من مفاهيم الشبح، وكياناته المتعددة، ومظاهره التي لا تحدها مادة، ولا لغة، ولا كون، لكي يحكم العالم بالخوف المدمر، ويدبر أمره، ونهيه، فلا يرى أحد قدرة له على مجابهته، ومقارعته.
وحقا، إذا كانت كثير من اللغات التي أحدثت النزاع في دنيا الناس، وقوضت أسس الاتفاق، ومعالم الائتلاف على المعاني المشتركة، لها صلة بالعقل المطلق، وارتباط بنظيره المجرد، وهو ذلك العضو المحدد للتكليف في إدراك الراهب، وفهمه لمدار الأحكام في الأزل، ومصاديقها في الأجل، فإن له قدسية، وللإرادة الخيرة قدسية، وللحرية المطلقة قدسية، وللإنسان الكوني قدسية، إذ كل واحد من هذه المعاني، لا يرى ذاته إلا بذاته، ولا يشهد ظله إلا في ظله، ولا يتحرك إلا بما نفخ في عمقه من وسائل التحصيل، وأساليب التعبير عما تجمَّع للتجربة من معايير، ومقاييس، لأن العقل في الظلال، هو اللاعقل في المثال، وهكذا الإرادة، والحرية، والإنسان، إذ الإرادة، لا تكون ذاتية إلا إذا تناست ذاتها في ذاتها، وكانت لا إرادة، والحرية، لا تكون ذاتها إلا إذا عكست ذاتها، وصارت لا حرية، والإنسان، لا يكون ذاته، إلا إذا سكن ذاته، وصار لا إنسانا بالمعنى الوجودي الذي تتآلف عليه الأذواق في مسرح العشاق، لأن المعاني لا تحقق إلا في ماهيتها، ولا تكون حقيقة إلا في حقيقتها، ولا تنطق بذاتها إلا إذا خرجت عن قوالب اللغة الجامدة، وأحكام العقل الفرد، وتدبيرات الراهب المتعالي، وترويعات الشبح المخيف بقصي الأوهام، لكي تصير هي، كما هي، في فطرتها، وسذاجتها، وفي عنفوانها، ونشاطها، وتتحرك بحركتها، وتفعل بفعلها، فلا يقيدها قيد يرهقها، ولا مانع يسجنها، إذ أغلى شيء في الوجود، هو أن تكون وجودا حقيقيا، لا تربك القيود مسيرتك الإنسانية. وإلا، فإن ما طرأ على قشرتنا من تحسين، وخالط لبدتنا من تزيين، لم يجعلنا إلا نحن كما نحن اليوم، متطبعين بما يؤلم ذواتنا من فزع، ويعذب عقولنا من فجع، ومتحيرين بما نعيشه بلا ملامح، ونشهده صاعدا في أفقنا بلا معالم، وننتظره أن يكون نهاية لآمالنا في الحرية، إذ ما حاوله العقل حين تصلف بالاغترار، وزعم أنه الأقوى على تدبير الكون، وتحديد مسالكه، وموارد الخير والنفع فيه، لم يخرجنا إلا عن ذواتنا، ولم يدخلنا إلا إلى جب الكهنوت، وكهف العقلانية، وهما، قد تواءما على تدنيس الأرض، ومسخ أهلها، وتشويه صورة الوجود، وتمريغ الآلهة في بحار الدم المسفوحة من الجثث المغتالة ظلما، وغدرا، وكراهية.
وعلى مرمى البصر، والقذى يلف بعض العيون، ويغشى نظرها، ويستر بصرها، أقيمت ملحمة خيانة الآلهة، وخذلان معابدها، وتنجيس معالمها، وتدنيس مراقدها، لأن الذين حرموا الدم، والخمر، وطالبوا بعنصريةٍ أن تحدد الأفعال البشرية بما قعدوه من ضوابط للإرادة، والاختيار، لم ينل أحد منهم ما اكتسبه من منة، وما لبسه من نعمة، إلا حين شرب خمرة الشهوات، ونجس الكوكب الأرضي بالنيات العاجزة، ومرغ الهامات الفارعة في رماد المذلة، والمهانة، ودس الهمم المتوقدة في جنون غلمته الداعرة، إذ لم يعش العالم عقله الصناعي إلا حين دمر لاعقله الطبعي، ما دام ما تولد من رحمه، وما تبدى من فكره، قد أباح له أن يجعل الدم قذارة حين يكون تعبيرا على الروح الخالدة، ويصيره نقيا حين يكون دليلا على الطين الأعجف، وأجاز له أن يحرم الخمرة حين تكون برهانا على الانفلات من قيود العقل المتصلد، والنظام المتصلب، وأن يحلها حين يشرب غولها في قداس عهره، ومراسيم شبقه، لأن ما يبثه على خوانه من فكرة أثيمة، وما ينشره على بساطه من رغبة أليمة، لم يكن إلا خدعة تنسي الإنسان آلام واقعه، وتسعفه بحيلة يسرق بهجتها من بؤس هذا الكوكب، ولؤمه، وشؤمه، إذ العقل في مرتبة الخاصة، هو اللاعقل عند العامة، وهكذا العكس، لأنه في مقام التعبير عن ذاته، يظهر الأسرار المكتومة في الأعماق، ويفجر ما فيها من مكنون الأذواق. ولكل واحد منهما قانون في الإدراك، ومسار في التعبير، وسياق في السلوك، إذ هما معا موجودان في الإنسان، ومحدودان بما يفتعل في باطنه من مكبوتات، ومقيدان بما ينفعل به في خارجه من موضوعات، لكن التعبير عن أحدهما يختلف باختلاف النظر، والمنهج، والبيان، وسبل صياغة المعنى في كل مسلك إدراكي، يتطلب معجما خاصا، وقاموسا من المعاني المتنوعة.
ولذا يكون ما يحاول العالم أن يخفيه من أزمات الإنسان، ونكباته، ومصائبه، ويجعل صمته عليه دليلا على الاستواء، والتوازن، هو ما ينطق به المعذب في داخله، ويعترك لفظه في خارجه، ويصطرع كسبه في محمول طاقاته، وقدراته، إذ منطق اللعبة على رقعة شطرنج هذا الكون المادي، قد تطلبت أن يتحدث اللاعقل بتسويغ الأوضاع المأساوية، والتخفيف من حدة آثارها، ومآسيها، لئلا تفترض لها حلا آخر، يكون مقلقا للعقل الفذ، ومشوشا لسيره المتطاول على كاهل الفقراء، وهاماتهم المندسة في طين الكراهية، والاستعباد، إذ مناداة الإنسان المتألم بالديمقراطية، ومطالبته بحقه في الحرية، والعدالة، ليس إلا صدى لاعقله الحقيقي، ولغته التي يعبر بها عن إحساسه، ورغباته، وهو الهمس الذي يردده عقله حين يغيب الشبح، وتختفي عينه، وينتهي خوفه.
وهكذا، فإن علة التحريم للخمرة، لو كانت هي التخدير الذي يسوح بالإنسان بين واحات لاعقله، فأي تخدير أعظم من خوف الإنسان من شبح يطارده في كل الدروب المبلطة بالسواد، ويضايقه في أحلام نومه، ويقظته، ويحاصره في فكره، وسلوكه، ويحاربه في رزقه، واستقراره.؟ ربما، يكون هذا السكر أضر بالكائن البشري من سكر يزيل عقله لضرورة الانزياح عن عالمه، والانسياب في أوهام وخيالات تسبل على ذاته بعضا من السكون، والطمأنينة، وتلفه في نسيان يريح عقله الصاخب ببلايين الأفكار الممزقة الأحشاء، والمفتتة الأوصال، والمقطعة المقاطع، والألحان، والمقامات، إذ هذا السكر الذي تشرَّبه الإنسان من صديد المعاناة أذهب لعقله ولاعقله من سكر الراقص بين ثريات التكايا، ونمناات لوحاتها، وسريالية أشكالها، لكي يكون متماهيا بين خيارين اثنين؛ إما أن يحول المحدود إلى اللامحدود، فيتخيل ما يسمعه من سماع، هو المفتاح الذي يفتح به عالم الصحراء، حيث الانطلاق نحو اللامتناهي، وإما أن يتعالى على أوجاعه، وأورامه، فيخرج من قاعه شحنتة السلبية، ويحس بأنه تحفف من أعباء العيش، وأوزاره الفاتكة، لأن الأول نال السكر من نبعه، وهو واقعه الذي يواجه لعنته، ويصارع شؤمه، وهو الذي يحكيه بحدة ملامح وجهه، وغضبها، وسخطها، وتذمرها مما تراه في يومها من يأس، وإحباط، وما تنتظره في غدها من تعاسة، وشقاء. فهو على هذا يحاكي لاعقله بعقله، لأنه لا يشهد انفصاما بين رغبته الباطنية، والظاهرية. والثاني قد تعب من إكراه شغله، وإرهاق عمله، فاختار أن يخصص بعض سويعاته للتخفيف من نصبه، ورتابته. فهما ينجدان الذات بشيء من التناسي، وإن كان الأول أحس بعدم جدوى وجوده، فتساءل: هل وجدت لأكون آلة في يد لئيمة، تسلب منك قوتك، لكي تمنحك رزقك.؟
وإذا كان الرقص مرتبطا بالخمرة، فإن يقوم به حين يكون مقصودا للتقليل من حدة الوعي بألم المأساة، ليس هو دوره حين يكون دورانا مع الزمان، والمكان، لكي يحصل الرقي إلى عالم اللامحدود، إذ ولو بدا غير مادي في التصديق، والتصور، لا يكون تعاليا متكلفا لزوال معنى الحسية، وفقدانها في الذات للخفة، والحيوية، لأن ما يفضي إليه من رقة المشاعر، ورهافة الأحاسيس، وسكينة الوجدان، ينقل الذات من كثافة الجسد إلى عالم البساطة المطلقة، ويصعد به إلى لحظة الحرية من ثقل المادة، وقيودها الصلدة. ولذا، فإن الرقص إذا كان ممتزجا بالخمرة، يكون له تعبيران؛ إما ما تبنيه حضارة الجسد للجسد، وأقفاصه الممتلئة بالألغاز، والأحاجي، وإما ما تعنيه رسائل العشق من تأملات في طاقة الكون، وحومان حول قبته التي تذوب فيها كل الصراعات، والاختلافات، ويتحد حولها المتعدد في معنى الوحدة. وعلى هذا، إذا كان الرقص يحتضن كل الأفكار البشرية، وثقافاتها، وحضاراتها، فإن تجرعه للخمرة، هو الذي يغذيه باللاعقل، لكي تلتئم المعاني في معنى الخروج عن الجسد، وأعاصيره الفاتكة بالإنسان، والقاضية على إحساسه بلحظة الصفاء، إذ هي التي ترمز إلى اللامحدود، على اعتبارها انتقالا من سياق في العقل إلى سياق آخر، وكلاهما يبينان ما في الإنسان من معاني الحقيقة، لأن القرينة التي تجمع بين كليات الرقص، والخمرة، هي ما يحصل بهما من استلذاذ، وانتشاء، وهما معنيان للمتعة المادية، والروحية، إذ الرقص أبى إلا أن يكون جمالا، والخمرة أبت إلا أن تكون كمالا.
لكن، ومهما غالي الراهب في التحريم، فإن ما يذهب إليه من أحكام، لا يتأسس إلا على مقتضى الذوق العام، والحاسة الاجتماعية، لأنها حددت الحدود بين الأشياء المتقابلة، فمالت إلى المعاني المرتبطة بالعامة، على اعتبارهم عصب النظام، ومكونه الوجودي، وحاربت المعاني المتماهية في الوجدان، على اعتبارها انفلاتا من السياق، وانحرافها عن مقتضى العبودية التي تشربت في عقل الراهب معاني الاستعباد. ولهذا استحال الراهب إلى مدافع عن حضارة الجسد، ومحارب عما تفرزه من دوافع اللحن في قراءة الأفكار على لوحة الكون، لأن التضييق على مدار المعاني، وحصرها في قوالب مقيدة بمفاهيم العقل الفرد، لن يبرز إلا أضدادها المهجورة في كتمان الخفاء، إذ يتحول الممنوع إلى مطلوب، والمحظور إلى مرغوب، وحينئذ اضطر الراهب إلى وضع حدود أخرى للطهارة، والنجاسة، فجعل للطاهر باحة المعبد، وللنجس قبو الحانة، ثم حصل التصارع بين الكائن الخفي والجلي في الإنسان، وحضر الشبح في تدبير المناطق، والحكم عليها بمقتضى رغبة الأكثرية، وغايات القوي المستولي على الحشد، والمنظم لعقله، والمربي لأخلاقه، وسلوكه.
وإذا كنا قد حاولنا أن نفرق بين بعض الحقائق التي ارتبطت بالشبح، فإن ما يتشابك في الموضوع من معاني المحدود، واللامحدود، يستحيل فك لغزه إلا إذا راهنا على وجود مسارين في الأشياء، أحدهما ما ينظمه الراهب، وهو الذي يضبطه قانون الشبح، والآخر، هو الذي تغيب فيه المعاني المادية، والحسية، وينطق بلغة الإشارة، والرموز، ولا يحده ضابط الراهب، ولا يحصره هلع الشبح، وبينهما تعيش الكائنات أفجع مآسيها، وأسوأ أوضاعها، إذ استحالت الخمرة خلا، فلا تشرب إلا في ملهى غض بالغيد الحسان، لا يرتادها ضجر، إلا وأحس بأن جدران الحانة لا وجود لها إلا لحصر الأجساد، وضبطها، وتقنين حركتها في النظام الاجتماعي، ولا يرتادها خائف إلا واختبأ خلف أضوائها الصاخبة، لئلا تعريه الدقائق التي تتناهى بسرعة، وكأنها تصر على أن تخرجه من جبها، لكي يفترسه وحش واقعه الذي يغازله لنسيان أزماته، وإخفاقاته.
وهنا نكون بين عقلين، نشأ منهما لاعقلان، وكلاهما يعبران عن الصيرورة البشرية، ومفرداتها في جلب الإحساس الممتع بالحياة الباذخة، لأن ما حاوله الراهب حين التحف بلحاف الشبح، واختبأ من وراء سواد السماء، لم يكن إلا تحويرا للمعاني، وتحريفا لها عن حقيقتها، إذ ما علل به أحكامه الجائرة، لو نظر إلى بؤرة معناها، ومنتهى دلالتها، لأدرك يقينا أننا في الخمرة، لا نرى السكر في الغيبوبة التي هي انعكاس للاعقل في عقله، وإنما نشهد دبيبه في تخديره للإلهاء، وصرفه عن مكانته بالحقائق المزيفة، والوعود الكاذبة، إذ تغييبه لفتور واسترخاء يحصل به تفاعل مع لاعقله الملازم له خلقة، وجبلة، ليس هو تخديره المربك لفعله الوجودي، ومكسبه الكوني، لأنه كما يكون عند شارب الخمرة بنية نسيان أحزانه، فإنه يكون عند ندمان دير الشبح لتعطيل الكيان بسموم الأوهام، واستعماله فيما يخرب العالم، ويدمر الكون، ويهدم الطبيعة، ويشل الحياة، ويقسي الوجود، واستغلاله في محاربة الفضيلة، والعزة، والكرامة البشرية. وعلى هذا، فإن تخديره بهذه الوسائل الحقيرة، أخبث من تخديره لتناسي همومه، وغمومه، إذ لا صحو يرجى من ورائه، ولو طال الزمن، وانبرى الفعل إلى البحث عما يحقق تمدن القرى المنكوبة بسعار الأحقاد، والكراهية، وينجز حياض المدينة المقدسة، وبساتينها التي يمرح الإنسان بين سلمها، وسلامها.
ومن هنا، فإن الراهب؛ وهو الذي وأد إلهه، وبنى عليه ضريحا، وقبة، وديرا، وأمر الناس بتقديسه، وتأميره، وتأليهه، لم يكن مخلصا لبشريته، فيعاملها بما يحق لها من احترام لرغباتها، وميولاتها، ولا وفيا لإنسانيته، فيكتسب بها سمو القصد في الفعل، والنبل في السلوك، وينال منها ما يسعد العالم، ويجعله مراحا للأمن، والأمان، إذ حين زلزل عرش الدم، ولم يبق فيه إلا ما يدل على الجسد، وحرم الخمرة، لأنها تخفي العقل الصناعي، وهو أساس كل شقاء، وأصل كل تعب، وكلل، وضجر، ومهد لبيع الأنثى، وشراء فتنتها، ودلعها، لم يكن يستهدي في فعله إلا نهاية عهد اللاعقل، وبروز العقلانية اللعينة، وظهور مسمى الجماعة المقيدة باحتمال من احتمالات التفسير، وبدو ما يدبر الواقع من نظم وسياقات متفاعلة في تنظيم الفعل البشري. لكن ما تولد من هذا التدبير للحدث الواقع موقع الإنتاج والربح من تطلب الفعل للحرية، لئلا يحصل الاستعباد، والاستغلال، والاستيلاب، قد افترض افتراضا آخر، وهو تنظيم القول؛ على اعتباره مبينا عما يضمره الإنسان من أفكار، وآراء، ومواقف، جمعت في مرحلة من مراحل التاريخ البشري، وسميت اللاهوت، أو العقائد، وهي ليست إلا قيما فكرية تؤسس لمبدأ الفعل والسلوك الإنساني.
إن ذلك التقصي لكل ملكات الإنسان، ومواهبه، وإحجامها بضوابط كابحة، تعبر عن سياق في التقنين، والتقعيد، قد أفرغ الوجود من محتواه، وأذاب ما فيه من حيوية التفاعل، والتواصل، وجعل العقل الفذ في منتهاه، هو القائم بأمر الكون، والحريص على توازنه، واستقراره، وما عداه من مكونات الفضاء الوجودي، فهو غير مؤهل لأن يمتلك قواعد النظر، ومناهج التفكير، إذ سقطت قيمة العقل، وحركيته، إذ في تعدده، وتنوعه، واختلاف أفكاره، وأنظاره، تنمو كل العلاقات الاجتماعية، والروابط الكونية، وتسمو كل القيم الاجتماعية، والمثل الإنسانية. وتلك هي سبة الراهب الذي تكلم باسم الإله، وحشر الناس إلى سفاح جماعي، لكي يستلهم الجسد طقوس نشوته من مبغى الحقيقة، لأنه كان سببا يوطد قوة الأقوياء، ويهدم كل الحصون التي اختبأ الفقراء خلفها، لئلا يروا قرص الشمس، فيأملوا أن تحمل إليهم طلعة الحرية، إذ استئساد القوي بمنطق العقل الواحد، على اعتباره جامعا لكل الآليات التي يحصل بها سمو التفكير، ومانعا لما سواه من الاشتراك في كسب جمال السعادة، لا يعني إلا الانتحار، والموت البطيء، لأن فقد الأمل في تراص الأكتاف على خط الحياة الناعمة، واصطفافها في طابور المساواة، والعدالة، لا يخدم إلا مشروع الشر، والأشرار، ولا يقدم أملا للإنسان في المدن المقدسة.
وهنا تحولت المدينة المقدسة، وهي الكون كله، إلى مدن متنافرة، ومتناثرة، لا يجمعها نظام، ولا يضبطها مرام، بل تصارعت، وتقاتلت، وصارت توأمتها أقرب من الخيال إلى الحقيقة، إذ تغول العقل، وتقوى بالعقلانية، وتمدد بالقوة المستعلية، فصارت العظمة فضيلة، والغزو مكرمة، والسرقة اتجاها لدى كل شاطر يسعى إلى الاستعباد، والاسترقاق، لكي تجبى إليه خيرات الأرض، وما تجرحه أكمامها من ثمار، وفواكه، وشهوات طازجة، لأن ما آل إليه وضع القوة من عنف، واستمساك بمظاهر الهيبة المتنامية كالسرطان بين أحشاء المستكبرين، والمتجبرين، ليس مقصودا لاستظهارُ الضعف، والإجهاز على مكونات أوضاعه، ومركبات واقعه، بل هو إمعان في ترسيخ مبادئ الطغيان، وتوطيد مكامن الفساد، وتثبيت معالم الظلم، لكي يكون القوي هو الأولى بحيازة أجمل النساء، والخيول، والأقرب إلى امتلاك أكمل الأماكن نزهة، وتسلية، إذ ذلك الاستحقاق المتصل بالقوي، هو الذي قعد لقاعدة الارتباط بالأنثى في بدايات اتصاله بها، على اعتبارها يحتفظ عليها لجمالها، وإغرائها، لأن وهْبها كهبة ثمينة للصياد الماهر، أو للفارس المغوار، قد أدى مع الاستحواذ على موارد المال ومجالب الوجاهة إلى أن توهب لمالك الضيعات الخصيبة، والمتصرف في قطعان من العبيد، والخدم، والحشم، إذ تحول وضع الإنسان من الاهتمام بالخصوصيات الذاتية إلى الاستهداء بالعوارض الخارجية، وما تزرعه مظاهر رياشها من فخر، وخيلاء، لأن منطق الربح قائم في كل شيء طلبه الإنسان، أو حارب من أجله، أو وصل إليه بحيلة، أو كسبه بكد اليمين، وخشي أن يفوته، ويفر من بين يديه، ولا يعود إليها إلا بحرق قواه، وجبرها على ذل الكسب، وقبح الاستغلال، بل حتى الأديان ربطت الجهد في تحصيل المقامات الإلهية بمنطق الربح، والخسارة، لأن ما زرعه الراهب من صراع بين الذات ومكوناتها، وما بينها وبين إلهها، لم يكن إلا محرقة هلكت كثيرا من الخلق في حرب النفس، والشيطان، والهوى، والمال، إذ ذلك لم يوجد عبثا، وإنما خلق كل شيء لدور، ووظيفة، وهل حمايته ووقايته في أن نعطله، لكي نسعد بالحياة.؟ أم سعادته في أن يسلك مسلكه الذي منع منه بفعل فاعل، ويسير سويا بما كمن فيه من طاقات حصرها المفسدون للأرض بين رغبات الجسد، وأغلاله المتهرئة.؟
وهنا، وفي غابر الزمن، كان الراهب سببا في تجاوز الخمرة التي هي روح الآلهة، وشراب الأصفياء، وترياق الصفاء، وتخطي الرقص الذي كان طعام الحكماء، وغداء الأولياء، ولذة النقاء، لأنه كان يوطد لدعامة فكر الجماعة التي يستولي عليها بأمره، ونهيه؛ وهي ليست إلا قطيعا تائها في صحراء قاحلة، وهائما يساق بذلة إلى المدينة المقدسة، فتوقد به نيران القرابين المقدمة للآلهة العاشقة للدم، والجالسة على أريكتها المنحوتة من جماجم البشر، وأشلاء الحيوانات المقتولة بغضب الطبيعة، والناظرة بزهو إلى الحشود المحدقة بعينها في قداس التضحية، والفداء، والمنتشية بجسامة المشهد، وما فيه من حرائق عظيمة. فالغرابة هنا، ليست في تجسيد صورة اللامجسد، ما دام التعبير عنها مرتبطا بلغاتنا التي نتداول ألفاظها، ومعانيها، بل في تحويل اللامحدود إلى صورة نمطية، وتقديم قناعاته إلى الذهن على أنها النهاية التي لا يجوز لأحد أن يتخطى خطها، ولا أن يتعدى رسوم معالمها، ولا أن يتجاوز المنقول فيها، لأن تخدير العقل البشري، وما تعرض له من مآس رهيبة، وما ناله من عار بسبب تواطؤ الراهب والآلهة على جعله خادما للخفاء، وسادنا لسره الذي لا كنه له إلا ما قيل من أقاويل كثيرة، بدأ تدوينها التاريخي منذ أن استنطق الإنسان الطبيعة عن سر الرعد، والبرق، واستفهم عن حقيقتها المخزونة في غيايات الكون، والطبيعة، لم يجعله يفكر في حدود هذه الملحمة، ويتأمل تضاريس أفكارها، وجغرافية أحلامها، ويبحث عن تلاحم مكونات مشاهدها، وتناسق مداراتها، وقدرة أدوارها على استعياب اللامتناهي، واستيهام اللامتخيل، بل أرغمه ذلك على أن لا يرى في لوحة الكون إلا هذا اللون، وأن لا يقرب في مائدة إلا هذا الطعام، وأن لا يفترش على مهاد الأرض إلا هذا البساط.
وإلا، كان سيف السجان مغروزا في نحره، ومغروسا في غلصمته، إذ لو أحس بزمن يهدي إليه أملا في أن يتدبر قليلا، وينزاح إلى لاعقله في هدوء الأماكن، وصفاء الآفاق، وغفلة عين الرقيب عن صوته المكتوم، ورأيه المزموم، لأدرك أن هذه الصورة التي نقشت على ملامح وجوه الرهبان، ونحتت على ألواحهم التي كتبوها بالدماء البشرية، ليست إلا تصورا لشيء متماه في سديم العماء، لا ماهية لذاته، ولا هوية لكنهه، إذ لو كان تصور الإله كما صوروه للقطيع، لما احتاج العقل إلى الاختلاف في درك صورته، لأن ما حددته اللغة بقوالبها، هو محدود للعقل أولا في تصوراته الذهنية، (على اعتبار العقل أداة متوسطة بين الذهن، والواقع) وما هو ثابت عنده، وواقع موقع الموضوع الذي له ماهية، لا يحتاج إلى عناء في كسبه، أو في التعبير عنه، ما دام هو المحرك للمعاني التي تفصح عنها الذوات بحركة الحواس، وتصور المآلات، إذ المعنى جلي، وغير غريب في الإدراك. وإلا، فلم الاختلاف في صورة محددة لها أبعادها، وظلالها.؟ لو قلنا بأن العقل لم تطاوعه اللغة في التفكير عن تصوره الذهني، فإن ما كتبوه عن الآلهة المتعددة، وأجبروا الناس على حده، والوقوف عند نصه، لم يكن إلا هذيانا، وخرافا، لأن ما كتب، ودون، لا أثر للعقل في إنجاز حقيقة واقعية له، لأنه لا يمكن له أن يتحراه إلا بلحاظ المفهوم الذي وضع لشيء لا يصدق عليه شيء في الماصدق، ولا أن يؤسس عليه نظرية في التفكير الوجودي، والتعبير عن المعلوم الماهوي، إذ اللغة سابقة على العقل بهذا الاعتبار، وهو تابع لها، لأنه مطالب بأن يخضع لما قالته، أو لما دونته، ولو لم يتسق مع منهج حصوله على التصديق، والتصور.
وهنا فُتحت لنا أبواب معضلة أخرى في الفكر البشري، وإشكالية تحتاج في طي حيرتها إلى تعقل اللغة، وعقلانية العقل، إذ ما نتجادل حوله، إما أن يكون قابلا للتصور، وإما أن يكون غير قابل له، فإن قبله، كانت اللغة معبرة عنه، وإن لم يقبله، فإن كل تعبير عنه، ما هو إلا تصور لتصور لا ماهية له، فيكون على ذلك غير قابل للتحقق في الإدراك، ولا قادر على التجسد في الواقع. إلا أن اللغة كما تعبر عن المحسوس، فهي تعبر عن الأشياء غير المحسوسة، وهي غير قابلة للماهية الوجودية، لأن تصورها ليس لذاتها غير الموجودة، وإنما لمعناها الذي نتخيل وجوده، ونزعم من باب جريان العادة به أنه حقيقة، إذ لو ربطنا اللغة بتعبيرها عن الموجود فقط، فإننا لن نطيق أن نعبر عن أحاسيسنا، ومشاعرنا، وهي الجزء المكتشف في أعماقنا بلغاتنا التي نطق بها الحكماء، والشعراء. لكن ذلك، يبقى ولو مع المواطأة عليه، لا يستدعي القول بإطلاقه، واعتباره دالا بدلالته على الحقيقة، لأننا تجاوزنا كثيرا من التعريفات التي عرفنا بها النفس، والعقل، والقلب، والوجدان، واللغة، وغيرها، وأثبتنا أن تصورها محدود بما تبدى لنا من عوالم للإدراك، وبرز للحصول الماهوي، وإن كان ذلك، يتطلب منا أن نقول: إننا ما زلنا نكتشف لغة الوجود، والكون، والطبيعة، ولن تنتهي مفرداتها إلا بانتهاء هذا الإنسان الحريص على العلم، والمعرفة.
وعلى هذا، فإن تحريمهم للاعقل، يجعل ما قالوه بمقتضى التصور العقلي حمقا، وجنونا.! فأين الآلهة التي حشروا الناس إلى معبدها.؟ ألم يكن من عار الراهب أنه ومنذ قرون طويلة، لم يستطع أن يقطع دابر الخلاف الذي أفضى إلى إزهاق الأرواح بلا ذنب، ولا خطيئة، وهو قد حرم الدم، ودنس لونه، وصار مع غباء الإنسان لا يقبل إلا التضحية.؟ أليس من غبن هذا العقل، وبلهه، وبلادته، أنه أراد أن يحصر اللامحدود في المحدود، ويدعي أنه بطفرة ما، قد استطاع أن يكسب بابا إلى السماء، لا يدخله فتي بصبابته، إلا ونعم بمرافقة الجواري الحسان، ومغازلتهن على سرير البقاء.؟ شيء تافه، لو قال به قائل في مكان يقدس اللاعقل، (على اعتباره عقلا) ويحترم اللامحدود، (على اعتباره محدودا) ويقدر المعاني التي لا نهاية لها في الزمان، والمكان، (على اعتبارهما شيئان متوهمان) لكان كلامه مثيرا للضحك، والسخرية، لأن الآلهة التي عبدها الإنسان، ما هي إلا عقله الذي تفجر من لاعقله، أو العكس، لأن نزوله منذ بدايات تفكيره في الإله من الكواكب والأجرام إلى الأوثان، والأصنام، لم يكن إلا دليلا على أنه أراد أن يقدس المرئي، أو المشاهد، ويعانقه، ويقلبه، لئلا يتوه في تحقيق معنى اللامتناهي، إذ مقتضى النزول أن يعبد إلها يتصوره، ويدرك حدوده، ويعرف ماهيته، ومقتضى الصعود، هو أن يتجاوز ما تبين له أنه منفعل إلى ما هو فاعل، ويجعله نهاية للكبد في تصور الآلهة. وذلك ما ألزم بالقول بالإله الواحد، ولو اختلفت حقيقته في الديانات التوحيدية، وتعددت ما بين مجسم له في الذات، والصفة، ومنزه له عن العلية، والسببية، وإن اقتضى مفهوم التنزيه التعطيل بنوعيه، لأنه إثبات للمعاني الذاتية المشابهة لما في الإنسان، ولكن مع لزوم الاستدراك، لئلا يتشابه الإله بخلقه. ومن هنا، كان للصعود والنزول أثر في الفلسفات القديمة، وما زالت وإلى يومنا هذا تخط معالم التفكير البشري بنظر أفلاطون إلى السماء، ونظر أرسطو إلى الأرض، إذ كلاهما يعبران عن سياق تفاعل الحقائق الوجودية واللاهوتية والطبيعية في الكون الإنساني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست