الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحم الله إيفان شيرفاكوف

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2018 / 10 / 12
الادب والفن


كان يجلس في الصف الثاني من مقاعد الصَّالة يُشاهد إحدى العروض المسرحية المموسقة, وكان يستشعر لذلك سعادة غامرة بل ويعتبر نفسه أسعد مخلوق على وجه الأرض. وفجأة –لا يستطيع الكتاب أن يكفوا عن استعمال كلمة فجأة مادامت الحياة مليئة بالمفارقات والمدهشات - فجأة عطس, والكل يعطس, كل إنسان يعطس, كل إنسان, ما المشكلة في ذلك؟ حتى جدي عثمان دحنون-رحمه الله- كان يعطس في الدقيقة سبع عطسات متتاليات وننتظره حتى ينتهي من عطساته لنقول له: يرحمكم الله يا جدي. ولكن هذا الموظف الروسي البسيط بعد أن عطس أصبح أتعس مخلوق على وجه الأرض. كيف ذلك؟.
كان يجلس يا سادتي في الصف الأول من المسرح أمام موظفنا تماماً أحد الجنرالات في لباس عسكري أنيق حيث كان يخدم في إدارة مدنية هي إدارة الهجرة والجوازات. شاهد وسمع موظفنا صاحب السعادة الجنرال يمسح صلعته وقفاه ويُتمتم بكلمات غامضة غير مفهومة ثمَّ يستأنف العرض المسرحي.
وبدأ عذاب موظفنا, أكل الندم قلبه, نعم, يا لتلك العطسة اللعينة التي تفلَّتت منه وغيَّرت حاله من الفرح إلى الترح. و راح يُطارد الجنرال باعتذاره. طارده في الصالة: إني عطست عليكم لم أقصد أن أُبللكم كما تعلمون يا سيدي. ثمَّ طارده في الاستراحة : لقد عطست عليكم يا صاحب السعادة فاغفر لي, أنتَ تعلم أنني لم أقصد. ثمَّ واصل الاعتذار بتأثير تصاعدي دفع الجنرال إلى ضيق تصاعدي. وعاد موظفنا إلى بيته مهموماً تعباً منهكاً وأخبر زوجته بما حدث فشجَّعته على الذهاب إلى الجنرال حتى لا يظنه رجلاً غير مهذب لا يُحسن التصرف. وفعلاً ذهب في اليوم التالي ليطارد الجنرال باعتذاره وزعق الجنرال: إنك تضحك مني يا سيدي. وأغلق الباب في وجهه. قال في نفسه: أضحك؟ ليس في الأمر ما يُضحك, ألا يفهم وهو جنرال! سوف أكتب له رسالة اعتذار ولن أذهب إليه مرة أخرى, سوف لا أذهب. لم يكتب الرسالة, و ظلَّ يُفكر ويُقلّب الأمر على أوجهه كافة ولكنه لم يستطع كتابة كلمة واحدة. لذلك كان لا بد أن يذهب إلى الجنرال من جديد لاستجلاء كنه هذه العطسة المستعصية على الفهم. وذهب إليه في إدارة الهجرة والجوازات. فصاح الجنرال من قحف رأسه و هو يهتزُّ من الغضب عند رؤيته إيفان شيرفاكوف: اخرج من هُنا. وأخذ موظفنا يُتمتم وهو يرتعد رُعباً: أطلب من سعادتكم المغفرة. وكرر الجنرال وهو يضرب الأرض بقدمه: اخرج. وأحسَّ موظفنا كأن شيئاً قد تهشَّم في داخله وظلَّ يتراجع وهو لا يسمع أو يرى شيئاً, ومشى في الشارع كالسائر في نومه يترنح بحركة آلية حتى وصل إلى المنزل وألقى بنفسه على الأريكة كما هو بمعطفه الجديد ومات.
مات؟ أجل مات. ولكن لماذا؟ ما السبب؟ لقد حيَّر إيفان شيرفاكوف النُقاد بهذا الموت البسيط, فذهبوا مذاهب شتى. واصطنعوا له أسباباً من كل حدب وصوب. تقول لهم: يا سادتي هكذا رسم مؤلف القصَّة أنطون تشيخوف طريق موت موظفنا إيفان شيرفاكوف. ولكن هل مات خوفاً ورعباً من البدلة العسكرية؟ مع أن الجنرال ليس رئيسه. لا أعتقد ذلك. هل تهشمت روحه كآنية من فخار, فمات؟ هل دُهشت الروح فتكسرت؟ هل فقد القدرة على الحياة فمات؟ هل قتله شعوره بالذنب كما ذهب إلى ذلك شاعرنا الجميل نجيب سرور؟ ما هذا الذنب الذي يقتل صاحبه؟ عطس. ومتى كانت العطسة تقتل صاحبها؟ ما السبب الحقيقي لموته؟ هل حبكة القصَّة لا تستقيم إلا بموت هذا الموظف المسكين؟ نعم, هذه هي "الطعنة المخفيَّة" في القصَّة. وإلا كيف برأيكم ستنتهي القصَّة بغير هذا الموت الصاعق البسيط؟ وصل إلى المنزل وألقى بنفسه على الأريكة كما هو بمعطفه الجديد ومات.
موته جعل من هذه القصَّة القصيرة تحفة فنية خالدة. كيف ذلك؟ الموت قدرنا يا سادتي. قدر البشرية على مرِّ العصور, جرحها الذي لا يندمل. كم تعذَّب جلجامش كي يحصل على الخلود فما استطاع إلى ذلك سبيلا, فرفع البشر الفكرة إلى الإله الحيِّ الذي لا يموت.
والشاعر يقول: من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الاسباب والموت واحد. وها هو أكاكي بطل قصة "المعطف" المشهورة لكاتبها نيقولاي غوغول يموت بسبب معطف:
أكاكي مثل إيفان شيرفاكوف كان موظفاً بسيطاً, وكانت غاية غاياته أن يشتري معطفاً. ويستطيع أكاكي بكثير من الجهد والصبر والمُثابرة والدأب والاصرار أن يُخيط معطفاً جديداً بعد شهور من التقتير والتوفير, فيرتديه ويُحسّ لأول مرة في حياته أنه كائن ذو أهمية. ولأول مرة يُعجب به زملاؤه ورؤساؤه ويُقدرونه. ويُقيم أحد الزملاء له حفلاً احتفالاً بالمعطف الجديد. ولكن أثناء عودة أكاكي من الحفل متأخراً ينقضَّ عليه لصان ويضربانه ويسلبانه المعطف. أعزَّ ما يملك في الوجود. بل الشيء الوحيد الذي يملكه. بل سلباه وجوده. وهكذا يجرجر أكاكي قدميه حزناً وغمَّاً على المعطف. يصل إلى المنزل وعلى الأريكة بلا معطف جديد يموت . فهل مات إيفان شيرفاكوف هو الأخر حزناً وكمداً على نفسه المسلوبة المعذَّبة؟ على قلبه المأكول؟ أم مات لأنه كان موظفاً بسيطاً نقيَّ النفس صافي السريرة. ما رأيكَ أنت يا صاحبي؟ رحم الله إيفان شيرفاكوف وعظَّم الله أجركم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو


.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا




.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر


.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق




.. خناقة الدخان.. مشهد حصري من فيلم #شقو ??