الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطابٌ مفتوح إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2018 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


الموضوع:

( ذات ليلية...الطائراتُ المروحيَّة أسْقَطَتْ حواجز اسمنتيَّة على إدلب)

الواقع أغرب من الخيال يا سيدي, وهذا واقعنا, والواقع يقول بأنها أول عملية أسقاط حواجز اسمنتيَّة من الجو على البشر في التاريخ. هل هي "مُنصِّفات الشوارع" تلك الحواجز الاسمنتيَّة التي تشطر الشارع إلى حارتين متساويتين حارة للذاهب يساراً و حارة للذاهب يميناً؟ نعم يا سيدي تلك هي. أف ...كيف تَسْقُطُ هذه الحواجز الاسمنتية من الجو "مو معقول"؟ ها أنا أكتب لك عمَّا حدث تلك الليالي يا سيدي:
1
بعد "تحرير" مدينة إدلب ظهر يوم السبت 29/3/2015 تحت راية "جيش الفتح" أصبح نصف مليون إنسان مثل طيور حمام أضاعت اتجاهها, ترتجف خوفاً وتموت رعباً من صوت هدير الطائرات الحربيَّة, والقذائف الصاروخيَّة, وتساقط شبابيك الجيران على شبابيك الجيران.
ما عُدنا نُطيق خلع أبواب قلوبنا ونوافذ منازلنا وهشيم البلور في حدائقنا وبكاء الشُهداء في مقابرنا والمُصابين في مشافينا. فحملتُ أبي وأمي و اتجهنا إلى مزرعة أخي المهجورة المنهوبة في وادي "حاج خالد" غرب مدينة إدلب. تركنا بسُقُوف بيوتنا بصلاً, وبامية, ورماناً, وتيناً يابساً, وثوم الشتاء, وتركنا يمام دورنا بلا ماء, و تركنا الطائرات الحربية تُحلّق في الأجواء ثمَّ عبرنا جسر الموت إلى الحياة في البراري الشاسعة حول المدينة. أغار الطيران الحربي أول مرة مستهدفاً بعد منتصف ليلة الأحد 30 /3/2015 مشفى الهلال الأحمر في قلب المدينة بصاروخين أحرقا المشفى بمن فيه.
2
في الصباح ذهبتُ كي أرى منظر مشفى الهلال الأحمر وسط المدينة, كان المشهد مُرعباً حقاً. في الأسبوع الأول من شهر نيسان عام 2015 أحصيتُ أكثر من خمسين غارة جوية بصواريخ مختلفة منها الحارق والخارق والمارق وكنتُ أذهب لموقع الاستهداف الليلي في الصباح الباكر لرؤية هول الدمار, ثمَّ تركتُ العدَّ. وتساءلت حينها بماذا كان يفكر القائد العام للجيش والقوات المسلحة عندما أمر الطيران الحربي بقصف المشافي والمراكز الطبيَّة في مدينة إدلب؟
هرول الناس من المدينة إلى القرى والمزارع والبساتين حول المدينة حاملين ما تيسَّر من حاجيات ضرورية وافترشوا الأمكنة التي وصلوا إليها, أرض جدك أرض جدي لا فرق. وكان الربيع في أول تنفسه ما يزال, وبراري إدلب خالية لا فيها حياة ولا ما يؤكل. وبدأت المجزرة, كانت الطائرات الحربية تصبُّ حمم صواريخها على المدينة, ثم تبعها الطيران السمتي ببراميله وصهاريجه وحاوياته المتفجرة. ثم تبع هذا الكلّ الطيران الحربي الروسي وصواريخه الارتجاجية. وحين تجتمع كل أنواع الطائرات بكل أنواع الطائرات في سماء مدينة إدلب تكون المجزرة مضاعفة و أشلاء البشر على مدّ النظر.
3
من سيغمض له جفن يا سيدي في تلك البراري المهجور. بعد منتصف الليل في ملجئ تحت الدرج نسمع هدير الطائرة المروحيَّة على علو شاهق تأتينا على مهل من فوقنا. يا الله إلى أين نروح؟ نتسمَّر في أماكننا, نُراقب من سطح البيت طريق سير المروحيَّة, ها قد وصلت فوق المدينة, وها هي تُلقي حمولتها فنسمع هديراً يشقُّ الهواء الساكن شقاً, تشطره شطراً, نسمع صفيراً كصوت عاصفة من ريح صرصر, على من ستسقط هذه الكتلة المتفجرة الهوجاء العمياء؟ وكم ثانية من الوقت حتى تصل الأرض؟ من يعرف ذلك في ليل المدينة البهيم.
4
وحين ترتطم بالأرض يا سيدي ترى ما لا يُرى-الله لا يرويك - كُنا نراقبها حين سقطت كتل الاسمنت تلك التي تزن أكثر من طنين, لا نراها حين سقوطها في الليل بل نسمع صوتها, ومن سمع ليس كمن رأى: كتلة اسمنتيَّة ساقطة من طائرة سمتيَّة حربيَّة تُحلِّق في سماء المدينة على علو أكثر من خمسة كيلو مترات, وأنت تحتها, يُلقيها صاحب ذلك الخيال الباذخ, فتهمد الأبنية همداً بمن فيها.
ونقول نحن من شفاه ابيضَّت من الرعب: كيف تحتمل قلوب البشر هذا التسونامي من الخيال المُرعب؟ و من اخترع هذه الفكرة الجهنميَّة؟ هل كان يشرب وسكي اسكتلنديَّة, أم هذه خيالات حشيش؟ هل نحن في محششة, في غرزة عسكريِّة؟ هل يُعقل أن جنرالاً في الجيش يقول لعناصره: استعملوا هذه الكتل الاسمنتية ضد "الارهاب" بعد أن نفذت ذخيرته من البراميل المتفجرة. كيف تفتق خياله عن هذه الفكرة الخياليَّة؟ كتل اسمنتيَّة يُسقطها على البشر, ليقتل "الارهاب" فكرة عصريِّة لم تحصل في التاريخ الحديث.
5
لي ملحوظة أخيرة:
لا بد من شرح ما نعنيه بالبراميل المتفجرة -لمن لا يعرف- وهي فعلاً تحتاج إلى شرح لأنها غير الألغام البحرية التي تُسقطها الطائرات المروحية فوق رؤوس الخلق و قد انفجر أحدها في الجو قبل وصوله للأرض في منطقة "الضبيط" عند جامع الفرقان في مدينة إدلب و استُشهد بشظية منه صديقنا "حنا حكيم" بعد عصر يوم الثلاثاء 11/8/2015.
تعال أحكي لك كمثال يا سيدي عن ثلاثة أنواع من هذه البراميل ومواقع سقوطها في مدينة إدلب:
6
أخطرها الصهريج المتفجرة. خزَّان الماء؟ نعم يا سيدي, هو ذاك الذي يجره التركتور الزراعي ويتسع لخمسة لآلاف ليتر. يُعدَّل ويُحشا بما تيسر من متفجرات و تحمله المروحية ربطاً بالحبال وتتجه صوب هدفها في اللامكان. يقول المثل عندنا في إدلب "يا حجرة ربي وين ما طبيتي طبي" وكذلك الأمر مع هذه الصهايج التي تحمل قوة تدميرية هائلة. سقط أحدها فوق بناية "أم الياس" من أربعة طوابق فأزالها من شروشها مع جيرانها وأهلك نصف الزقاق في حي الثورة عند مكتب وردان بدلة. أما الصهريج الذي وقع في حارة بستان " آل الرَّنة" إلى الشمال من "بن الأحلام" فكان حُلُماً بقوة "سبعة" على مقياس ريختر للزلازل.
7
النوع الآخر برميل مصفَّح أكبر من برميل النفط بقليل يُعمل له أربع عجلات معدنية ثمَّ "يُدكُّ" بأنواع المتفجرات وبفتيل اشعال ظاهر ويُحمل في بطن المروحيَّة وقد تحمل أكثر من واحد وتتجه صوب مسرح العمليات لتولد هُناك. سقط أحدها على الرصيف الشرقي بين القصر العدلي والمحافظة ولم ينفجر ولكنه تمزق وبانت أحشاؤه. وقد كان موجوداً في المكان حين غادرتُ المدينة في رحلة الرحيل إلى شاطئ بحر إيجة آخر شهر تشرين الثاني عام 2016.
8
النوع الثالث حاويات الزبالة – يعرفها الجميع- تُصفَّح الحاوية المعدنيَّة من جديد بالحديد وتُحشا بالمتفجرات حتى تُغشى, ثمَّ تُحمل ربطاً بالحبال إلى مكان التنفيذ وترمى هُناك على الخلق. سقطت أحداها على كتف حارة بيت "آل عبيد" خلف المصرف المركزي في الحارة القبليَّة فأهلكتها. وكنا نشاهد من سطوح بنايات مدينة إدلب سقوط الحاويات المعلقة بالحبال في المروحيات الحربية على أختنا مدينة أريحا التي تبعد عنا عشرة كيلومترات...كيف حالك أنت وأسرتك و "الارهاب" يا سيدي هذه الأيام؟
9
ملحوظة ما بعد الأخيرة:
لولا الرجال الأشاوس من شباب محافظة إدلب أصحاب "الخوذ البيضاء" الدفاع المدني وأطقم الاسعاف التي كانت دائماُ أول الواصلين إلى مكان "الخراب" المقصوف بالبراميل أو الصهاريج أو الحاويات أو صواريخ الطائرات الحربيَّة, لكنَّا في عداد الأموات الآن و لم نكتب لك -يا سيدي- هذه الكلمات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف