الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النص والتأويل

ياسين إدريس معيزو

2018 / 10 / 31
الادب والفن


منذ زمن ليس بالطويل، أصبح الانشغال بالجمهور و القراء ديدن النقاد و النقد المعاصرين، نظرا للمكانة التي أمسى الطرف الثالث في عملية التواصل يحظى بها داخل الممارسة النقدية و التنظيرية على حد سواء. وقد اهتمت الممارسة النقدية -في أعمق أبعادها- بالدور الذي يمثله القارئ أمام هذا الكم الهائل من الإنتاجات الأدبية و المعرفية و التاريخية، وبمدى قدرة القارئ على ملائمة و استيعاب مجمل هذه الإنتاجات بوصفها رموزا لغوية تتجه نحو جمهور ما بشكل ضمني أو بشكل صريح. وفي هذا الصدد -كان لزاما علي- أن أطرح بعض الأسئلة للوقوف على التعالق الحاصل بين النص و الفعل التأويلي في بعديهما العلائقي في بناء وإنتاج دلالات جديدة تلتقي في ما يسميه غادامير بانصهار الآفاق. وبناء على ذلك:
- ما الذي يتستر عليه النص حتى يثير القارئ للكشف عن ذاك المضمر خلف النص، والذي يستعصى على الفهم العادي و القراءة المبتذلة؟
- ما الذي يدعو للقول إنه يمكن استجلاء حقائق النصوص؟ وهل هذا القول يصدق على جل النصوص أم أنه يستهدف نصا بعينه؟ (النصوص المقدسة)
- ما الذي يجعل من إمكانية القبض على قصدية النص فعلا مستحيلا؟
يعد النص نقطة تلاقي العديد من المجالات المعرفية، بل يكاد لا يخلو مجال من وجود نص، ولعل ذلك راجع لكونه مفهوما زئبقيا تجاذبت حول تحديده مجموعة من التيارات والمباحث الإبستيمية التي حاولت استيعابه وتبنيه. يقول عبد الرحيم جيران –في هذا الصدد- :" ولمن البين أنه تعرض-النص- طيلة تاريخ استعماله إلى استنباتات عدة (...) منها ما يتصل باللسانيات ومنها ما يتصل بالأدب(...) ولا يتأتى الاختلاف في تحديد مفهوم النص من جهة تعدد وجهات النظر التي قاربته بغاية فهمه وحسب، بل من جهة عمليات التحديد التي طالته.."
ويمكن ان نقدم هذا الاختلاف في تحديد مفهوم النص تبعا للتوجهات المعرفية كالآتي :
يرى لوري لوثمان أن النص يعتمد في تحديده على التعبير (الجانب اللغوي) والتحديد أي أن للنص دلالة لا تقبل التجزئة، فهو يحمل دلالة ثقافية محددة وينقلها الكاملة.
وقد أكد هاليداي ورقية حسن في كتابهما "الاتساق في الانجليزية" أن النص وحدة لغوية في طور الاستعمال وهو لا يتعلق بالجمل وحسب، وإنما يتحقق بواسطتها.
كما يعد رولان بارت من النقاد الذين ساهموا في تحديد مفهوم للنص، حيث ميز في كتابه " من العمل إلى الفعل" بين العمل الأدبي و النص الأدبي؛ وعد الأول "شيئا محددا ماديا يحمل باليد، بينما الثاني تحمله اللغة وله وجود منهجي « . وترى جوليا كريستيفا أن النص يتجاوز الخطاب أو القول فهو في نظرها "موضوع العديد من الممارسات السيميولوجية التي تشكل ظواهر غير لغوية ». وفي كتابه "من النص إلى الفعل" يشير بول ريكور إلى كون النص هو "كل خطاب تم تثبيته بالكتابة ».
ولمفهوم التأويل في إشكاليتنا مكانة رئيسة بوصفه آلية من آليات استنطاق النص. ومن جانبه قد عرف مفهوم التأويل تحديدات عديدة اختلفت باختلاف التوجهات المعرفية، حيث حدده بول ريكور بكونه "أن تقول شيئا عن شيء آخر "أي أن تكون الأصوات التي تلفظها الحنجرة ذات دلالة »؛ أي أن نسند محمولا إلى موضوع. والتأويل عند أرسطو يقوم على المنطق مما جعله ينشد المعنى الأحادي، وقد أعطى دالتاي للتأويل توجها منهجيا مطبقا في مختلف العلوم الروحية بالاعتماد على منهج الفهم ،أما مع غادامير أصبح للتأويل بعدا فلسفيا وتفكيرا نقديا يقوم على التأملات المرتبطة بالوجود الإنساني.
منذ أن وجد الإنسان على وجه البسيطة وهو في صراع دائم مع الذات/الآخر/الغير/الطبيعة، بحثا عن الحقيقة الثاوية للوجود، فهو يبحث في كل ما يمكن أن يكون سندا له في هذا البحث المضني. والنص بما هو خطاب تم تثبيته بالكتابة عبر حقب مختلفة، يصدق عنه الفهم و التفسير، ذلك أن النص بوصفه تأويلا لمعنى الوجود والعالم، وتجسيرا بين عالمين أو زمانين، فهو حامل لهوية غير مكتملة المعالم. ويمكن القول في هذا الصدد إن كل نص ينطوي على حقيقة في ذاته أن مجمل هذه الحقائق هي تركيبات بالنسبة للهوية الإنسانية، ومن هنا كان لزاما على النص كي يستمر أطول زمن ممكن، أن يطرح نفسه موضوعا في العملية التداولية التي لا تأتي أكلها إلا من خلال استدعاء القراء. وقد لخص ذلك غادامير في كتابه "الحقيقة و المنهج" بالقول إنه :"بفضل الطبيعة اللغوية لكل تفسير فإن كل تفسير يستدعي الربط بينه وبين المخاطب". ومن تم يصير فهم النص ليس غاية في ذاته بل بوصفه وسيطا بين المرء وذاته. وقد يذهب البعض إلى أن النص بكونه فهما و تفسيرا للوجود – من صيغته المعقدة إلى صيغة مبسطة- لا يستدعي أدنى فهم، ذلك أنه نقل هجين للمعرفة العالمة بقوانين الوجود إلى عالمنا الواضح السهل. ومن ثمة لا يستعصى على القارئ/المؤول فهمه وتأويله. والواضح أن هذا الطرح يتسم بالنزعة الاختزالية، ذلك أنه يختزل جوهر النص داخل النص، والعكس كذلك، إذ أن المرء لا يعرف إلا ماهو مؤهل لمعرفته- حسب هيدجير- أي أن تفسير نص ما وكشف المضمر فيه يختلف من مؤول لآخر بحسب الأحكام المسبقة التي يواجه بها النصوص و المواقف التي تملأ ما يسميه غادامر بالدائرة الهرمينوطيقية ويجعل منها دائرة مغلقة.
وفي معرض تفسيره لهدجير، يتناول غادامر في "الحقيقة والمنهج" مسألة المعرفة المسبقة في مواجهتها مع النصوص، يقول : "لا نملك أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة"، أي بتحيز مسبق؛ مع ضرورة مراجعة التحيزات المسبقة باستمرار في ضوء ما يتمثل لنا، "إن بإمكان كل إسقاط مسبق أن يبرز أمامه إسقاط جديد من المعنى، ومن الممكن أن تبرز الإسقاطات المتنافسة جنبا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحا". هذه العملية السجالية بين الإسقاطات المسبقة و بين المراجعة الدائمة و المستمرة لهذه الإسقاطات/ التحيزات هي بوتقة الفهم وتأويل المسكوت عنه –داخل النص- والكشف عن هويته. لكن تظل هوية هذا المسكوت عنه مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتحيزات التي تشكل السبيل الوحيد للفهم و التفسير.
إذن هذه التشكلات تفرض علينا طرح إشكالية أساس: إلى أي حد يعد المعنى- الكامن خلف النص- حقيقة يستطيع المؤول استجلاءها؟
يلح هذا التساؤل على العودة –في فهمه- إلى السياق الإبستيمي لنشأة الهرمينوطيقا، فقد ارتبط هذا المفهوم بالحاجة الملحة إلى فهم النص المقدس، وقد تكفل رجال الدين بذلك وأولوا لأنفسهم مهمة فهمه و تفسيره. لكن سرعان ما كسرت مطرقة نيتشه كل هذه الأنساق والعقول- ومعها العقل الكنسي. هذا الانكسار/ السقوط هو سقوط طبيعي كان لابد له، نظرا لانتفاء وظيفته وتعطلها؛ ذلك أن سؤال علاقة الفرد بالكتاب المقدس أصبح سؤالا شخصيا ذاتيا غير مرتبط بالوسيط الذي كان يمثله الكهنوت، عندها انخرط الكل في فهم النص المقدس وكذا البحث في كيفية تأويله انطلاقا من كونه –نصا- يحمل أهمية بالغة بالنسبة للفرد .فإذا كان التأويل الكنسي يسعى وراء حقيقة تكون النصوص الدينية وجهته الأثيرة من أجلها، لا يعني بالمطلق أن للنص حقيقة واحدة، ،وإن كان للنص المقدس خصوصيته بحكم قداسة مصدره، فإنه في حالة النص الأدبي يستحيل الرهان حول مقصدية النص؛ لكونه لا يتلائم و الفلسفة التأويلية القائمة على التعدد و الاختلاف و التحيزات و الانفلات من أي نسق يحكم عملية التأويل، ذلك أن التحولات التي طرأت على الهرمينوطيقا المعاصرة جعلتها تكتسي طابع التعدد بالمقارنة مع فكرة إمكانية القبض على مقصدية النص خاصة في الأدبيات التأويلية القديمة. وقد أشار غادامير إلى استحالة التوصل إلى قصد معين بقوله: "إن الإختزال التأملي لمعنى ما غير ملائم، كعدم اختزال الأحداث التاريخية إلى مقاصد أبطالها". إذن ما الذي يجعل من إمكانية التوصل إلى معنى ما –محدد- صعب المنال؟
يجيبنا إمبرتو إيكو بكونه "الانفتاح" على الاستعارة، بوصفها "علامة سيميائية تدخل في سيرورة تأويلية غير متناهية ". فالاستعارة تنفتح على سلسلة من التأويلات تختلف وتتعدد بتعدد السياقات الواردة فيها، ويتم فيها مراعاة الشروط الثقافية و النفسية ... وبهذا يكون انبثاق تأويل الإستعارة من خلال التفاعل بين المؤول والنص، حيث تكون "الموسوعة" حاضرة بشكل مفروض وهو ما يجعل التأويل يختلف باختلاف الثقافات. هذا التعدد في التأويل –الذي تمنحه الاستعارة- هو ما يشكل لدى إيكو العالم الممكن، بعده عالما متخيلا يفترضه القارئ أثناء تأويله للنصوص.
وتأسيسا على كل ما سبق، يمكن القول بأن النص إذا كانت له نقطة انطلاق هي "الكائن" فإن نقاط وصوله متعددة و"ممكنة" بتعدد القراء وتعدد أزمنتهم وسياقاتهم الفكرية و المعرفية التي لا يمكن حصرها أو توقعها أو تصنيفها، وهذا يعني أن النص يتحرر باستمرار من سياق إنتاجه لكي يندرج ضمن سياقات أخرى. وهذا هو جوهر عملية التأويل، والتأويل في أبسط صوره قراءة، و المؤول بوصفه قارئا يتعامل مع النص تعاملا ينسجم و تحيزاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع