الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثمن الباهظ

حنان محمد السعيد
كاتبة ومترجمة وأخصائية مختبرات وراثية

(Hanan Hikal)

2018 / 11 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


منذ أن تفتحت عيني على الدنيا وأنا لا اسمع الا عن أهمية الصدق وكيف أن الصدق منجاة هذا ما كان يؤكده أبي خريج الأزهر، وهذا ما كنت اتلقاه في مدرستي التي كانت تديرها الأم اليساباص الراهبة والتي كانت تدير مدرستي بكفاءة متناهية وكانت التربية لديها تسبق التعليم، وحتى الحكايات التي كانت تقصها أمي علينا كانت نهايتها مكافئة للصادقين.
إذا هذه هي طريقة الحياة المثلى التي ستوفر عليك الكثير من الجهد المهدر، عليك ان تستقيم ولا تفعل شيئا تخجل من أن يعرفه الأخرون أو يجعلك منكس الرأس غير قادر على احترام نفسك.
وظللت على هذا المبدأ في حياتي وحتى تخرجي من الجامعة بدون مشكلة تذكر فالأمر سهل للغاية، التزمي .. اجتهدي .. كوني صادقة .. ليس هناك ما هو اسهل من ذلك.
ولكن وبعد التحاقي بسوق العمل وتفتح مداركي على ما يدور في بلدي من أحداث لم يعد الأمر سهلا الى هذه الدرجة، فالحياة البسيطة التي كانت تتراوح بين المذاكرة ومساعدة امي في شؤون المنزل والقراءة والرسم وعزف الكمان والتحدث الى الصديقات وحضور فاعليات الجامعة ومحاضراتها وانشطتها المختلفة لم تعد كذلك، لقد اتسع العالم فجأة من حولي ولم يعد محكوما بهذه القواعد البسيطة المستقيمة.
فعندما صرخت رافضة لبيع الغاز المصري لاسرائيل بأقل من تكلفة خروجه من الأرض تعرضت للأذى، وعندما رفضت قيام طبيب شهير بتزوير نتائج عينات أطفال مصابين بالسرطان تعرضت للأذى.
وعندما اعترضت على غرور طبيب اخر يعتقد انه بامكانه تعيين ابن اخته خريج المعهد التجاري لادارة معمله ليس فقط المعمل الخاص ولكن معمل الجامعة ايضا حيث يناديه الجميع بالدكتور فلان ويقدم له الأطباء فروض الولاء والطاعة رغبا أو رهبا من خاله، وهو نفس الغرور الذي جعله يصنع من فراش مكتبه "دكتور" اخر .. أيضا تعرضت للأذى.
حتى عندما سافرت الى الخارج واعترضت على التنكيل بالمعارضة في احد البلدان والاستيلاء على حقوق طائفة لصالح طائفة اخرى تعرضت للمزيد من الأذى.
والأن لا يمكنني الصمت على التخلي عن حق بلادي في ماء النيل وتخريب الزراعة المصرية والتخلي عن حقول الغاز وثروات مصر من بترول وذهب واراضي وخامات اخرى واغراقها في الديون وسجن افضل شبابها، ولكن ما اتعرض له يوميا من اذى يفوق احتمال اي انسان!
لم اكن أدرك ان ثمن الصدق فادح الى هذه الدرجة، لم اكن اصدق ان الشر لديه كل هذه الجيوش المجيشة وكل هذه الامكانيات وانه قادر على فعل ما شاء له من جرائم امنا من المحاسبة.
كنت اتصور ان الحقيقة اقصر الطرق للوصول ولكن على ما يبدو انها في بلادي والمنطقة العربية ككل اقصر الطرق للهلاك فكل من ينطق بالحقيقة في هذا البلد يتم التنكيل به بصور لا تخطر على بال الشياطين انفسهم.
كنت اعتقد أنه لا يهم ماذا يقول احد الكارهين عنك طالما كنت مستقيما ففي نهاية الأمر الناس لديها عقول وعيون ويمكنها أن تحكم بنفسها على حقيقتك، ولكن هذا لم يحدث مع الأسف، فالناس تعشق الشائعات وتصدق كل ما هو سيء.
وأكثر ما يدهشني في الامر أن المجرمين يستغلون ضحاياهم في التنكيل بمن يرفض جرائمهم، اي أنهم ينكلون بك بواسطة من تدافع انت عن حقهم في بلادهم وفي عيش حياة كريمة أدمية تليق بالبشر.
إن الصدق في بلادي يوغر صدور الطبقة المتحكمة عليك حتى انهم لن يتركوك تعيش لحظة بدون ايذاء أو تنكيل، هم لا يجرؤون على مواجهتك أو قول الحقيقة مثلك ولكن لديهم من النفوذ والامكانيات ما يمكنهم من احالة حياتك الى جحيم مقيم بدون ان يحركوا اصبعا فالكل في خدمتهم.
إن هذا هو بالضبط ما عبر عنه ببلاغة شديدة الكاتب الكبير نجيب محفوظ في رائعته اولاد حاراتنا حيث قال:
“ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أياً كان المنتصر، ويهللون للقوي أياً كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. غموس اللقمة في حارتنا الهوان. لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته.”








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطاولة المستديرة | الشرق الأوسط : صراع الهيمنة والتنافس أي


.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية




.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ


.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع




.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص