الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات فلسفية - 10 -

شادي كسحو

2018 / 11 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



1- القيامة:
في معرض الجثث تتراكم الجثث بحثاً عن قيامة تعرف أنها لن تأتي. لا تعرف الجثث أن الكارثة هي التاريخ ذاته. وأن ما نسميه قيامة ليس أكثر من كارثة تختلف عن سابقاتها في الدرجة وفي شكل السقوط والتفكك فقط.

2- المنبهر والغاوي:
علينا أن نسأل أنفسنا، نحن المنتمون تاريخياً إلى حقبة أو لعبة الما بعدات: ما الفرق بين الانبهار وبين الإغواء؟. ألا يتعلق الأمر في الحالتين بأشكال التلقي التي بحوزتنا؟. أو بأنماط ردود الفعل والتفاعل التي تخص شخصيتنا وطرائق عيشنا؟. من يتفحص هذين المفهومين جيداً يستطيع أن يضع يده على الطابع الكاريكاتوري للجموع التي لم تعد تفهم من فن العيش سوى ممارسة الانبهار. لقد سحب المنبهر الما بعد حداثي الكرسي من تحت شخصية الداندي الحداثية، وشخصية المتلقي المسرحية، وشخصية الغاوي الدون جوانية الكلاسيكية، وحولها إلى شخصية المستهلك السعيد. المفتون بحمقه وانبهاره الخاص أو بلادته المعممة. إن الانبهار هو بله عدمي. نموذج نموذجي للمستهلك في عصر الشاشات والمسطحات الكريستالية. وحده الذي يستقبل صور الأشياء دون أن يفهم معناها يمكن أن يسمى منبهراً أو مبهوراً. المنبهر علاقة بلا ذات. سطح للاستقبال وليس منصة للإرسال. إنه ستاند متحرك لا ليرى الأشياء، بل ليعكس عبره صور الأشياء. إنه فرجة محضة. انفعال عدمي بامتياز أو شغف خاص بنمط الزوال والحجب والاختفاء.

3- الكآبة كـ أقنوم:
يمكن اعتبار الكآبة هي الشكل الانطولوجي الأكثر بروزاً في نمط وجودنا ما بعد الحديث. ليست الكآبة سوى هذا الانكماش الذاتي لبشرية وجدت نفسها محاطة بأنظمة سبرانية وديجتالية لا يمكن اختراقها أو التأثير فيها أبداً. إن الكآبة هي الإسم الثاني لقصور الذات. لشعورها المتنامي بإلتغاء دورها التام. ما الذي يتبقى للذات فعله في عصر ذكاء الموضوع؟.
ثمة علاقة لا يمكن التغافل عنها بين الكآبة واللا مبالاة. لا يمكن للكئيب أن يبالي أو يكترث بالأشياء مهما كانت أهميتها. إن الكئيب يشهد عبر كآبته على الطريقة التي يتم من خلالها ذاك الطرد الجذري للذات إلى خارج النظام الكلي للبشرية الراهنة. لقد بلغ النظام المؤتمت والمقنّن مرحلة من الهيمنة والشطط بحيث حولنا إلى كائنات كئيبة على مد النظر. كائنات خرساء تحتاج كل مرة إلى من يذكرها بأنفسها. ها نحن نعيش في شعيرة الوجود المؤتمت لذلك فنحن مطالبون بأن يكون كل ما ينتمي إلينا مؤتمتاً، بما في ذلك حقنا في التعاطف أو الاكتراث. إننا كئيبون وسنبقى كذلك، طالما أننا مطرودون من ذواتنا، أو طالما أننا متساوون في لا وجودنا إزاء الوجود الأعظم. الميديا. النظام. الصورة. الشاشة صاحبة الغبطة والسعادة.
لا شيء يملأ فراغ الذات مثل عمق الكآبة. عَرض سايكو - انطولوجي جديد ينضاف إلى قائمة أعراض ومتلازمات إنسان ما بعد الحداثة. كثيرون جداً هم الكئيبيون والقلقون والعدميون الذين باشروا ظهورهم مع إطلالة ما بعد الحداثة بكل أشكالها وتعيناتها وتلويناتها. إنها نغمة حزينة وخاملة ولاشك، لكنها نغمة كآبة متعلقة بالنظام نفسه على حد تعبير الكاتب الفرنسي جان بودريار. ثمة حزن فلسفي عميق يخيم على أرجاء العالم. ربما هو حزن الجموع الأخيرة. الجموع المعتكفة أو المنكسرة حول ذواتها بلا حول ولا قوة.
على أن الكآبة في زمن الديجتال هي أقنوم وليست مجرد عارض حضاري. إنها تعادل أقنوم الفروسية في عصر اللوردات، أو أقنوم التقدم في عصر التنوير. لكن أقنوم الكآبة هذا يعبر عن نفسه، في انكسار الذات، لا في انعكاسها. في تداخلها، لا في تخارجها. في انكفائها وانعقافها حول أوهامها ووساوسها الذاتية، لا في تجليها. ثمة ما يشبه عطالة انطولوجية مزمنة، أو نرسيسية حزينة وخاملة تمثل الشكل الجنائزي لعالم تحول إلى مرايا طاردة في كل الاتجاهات. هذا هو قدر الذات في عصر الكآبة. فبعد شغف مفهوم الصراع الكلاسيكي، وحنين مفهوم الديالكتيك التنويري، ووردية مفهوم التقدم الطوباوي، ها نحن شهود على نغمة الكآبة المعممة. هنا حيث يغرق البشر في الكآبة بلا سبب وجيه سوى قوة النظام وتماسكه العنيف.

4- الطور المأتمي للفكر:
لم يعد هناك مسرح لظهور الأشياء، فلم يبق من لعبة الظهور غير شكلها الافتراضي الفاحش والفارغ والشديد الذكاء. ما الافتراضي والديجتالي؟. سوى ذاك الفضاء الذي تتوالد وتنزلق عليه كل الأشياء والأحداث بلا طائل. كان هيدغر لماحاً جداً عندما قال: اللا مكان هو مستقبل العالم. نعم، لم يعد للفكر أي موطن، وكل أشكاله وتعيناته السابقة باتت بلا معنى. هكذا نحن شهود على فكر يمكن القول بلا خوف ولا وجل: إنها فكر فقد ظله عندما هجر أو هرب من الشمس. إنه الطور الساخري للفكر، أو الطور المأتمي والضريحي والجنائزي للانسان. تابوت بلا جثة. شبح. أليس الشبح كينونة بلا ظلال؟. لكن الفرق الوحيد هنا، أن الفكر في العالم الافتراضي لم يستسلم لغواية عالم سفلي كما تقول الأسطورة، بل راح يتوارى في فخامة مأتمية لعالم افتراضي وصنعي بلا مرجعية. الفكر في العالم الافتراضي كما البحر بدون ملح. بحر الطحالب الفاسدة. جثث الأنهار أو جثث الفكر. يكمن الخطر هنا، في تلك اللحظة التي يغدو فيها الواقع بلا فائدة أو الغبار هو الأصل. ما الذي يتبقى للانسان في هذا العالم الذي تتكسر أو تتكثف أو تتوه فيه الذات على جدران الكترونية ولم تعد تعرف كيف تعود إلى الواقع؟. إن وضع الفكر في " هذا العالم الآثاري " يشبه إلى حد بعيد وضعية اليتيم الذي فقد أمه/أصله وراح يحكي للناس قصته معها علّه يبعث الحياة فيها من جديد.

5- اسمعوني جيداً أيها الفلاسفة الشبان:
في عالم فارغ. عالم ممحو بضعفه الليزري. عالم ما زال يبحلق فيه دولوز ودريدا في أحذية فان كوخ. عالم ما زال أغامبين يشيده على المعسكر. عالم لا يستحق ولا يملك حتى إمكانية التسمية لشدة ابتعاده وتواريه عن ذاته يستمد الفكر إهابه من أرومة مختلفة عن تلك التي كان يعمل تبعا لها في الحقبة الوردية للواقع أو الموضوعية أو المعنى. هكذا على الفكر دائماً أن يجيد اللعب مع كل حركات العالم، أو هكذا على الفكر أن يسهم مع العالم في وصول الوهم إلى أقصى حالاته ودرجاته. إلى إبادته النهائية. إذا كان العالم مريضاً فلنكن أكثر مرضاً منه، وإذا كان العالم سريعاً فلنكن أكثر سرعة منه، وإذا كان العالم سرابياً فلنكن أكثر سرابية منه. عند هذه النقطة يباشر الفكر عمله الحاسم. أن يزيد: لا فهم العالم، بل وهمه. لا حقيقة العالم، بل لا يقينه التام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا