الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تورغينيف وعصره/ القسم الثالث

دلور ميقري

2018 / 11 / 12
الادب والفن


4
" كان تورغينيف ابناً للطبيعة البكر، فلم يصمّ سمعه منذ الطفولة هديرُ المدينة الكبيرة "ـ على حدّ تعبير صديقه، الأديب الفرنسيّ الفريد دي موسيه. المفارقة، أنّ الريف هوَ بيئة معظم رواياته، التي تجري أحداثها في روسيا؛ بينما رواياته، المصورة مواطنيه سواءً المقيمين في أوروبا أو السائحين، كانت مدينية تماماً. مع ذلك، فقد كانت تلك مدناً صغيرة؛ وألمانية غالباً. من المستغرب حقاً، أنه وعلى الرغم من عشقه لباريس وإقامته الطويلة فيها بمختلف مراحل عمره، لم يجعلها مكاناً لأيّ من أعماله، روايةً أو قصة. التفسير الوحيد للمفارقتين المذكورتين، أن تورغينيف ظل عاجزاً عن التأقلم في حياة المدينة الكبيرة، والأهم، كونها لم تقدم له التجربة العميقة، الضرورية لكل مبدع أدبيّ.
بصرف الطرف عن تأكيد النقد الحديث، بأنّ الرواية الأصيلة هيَ ابنة المدينة، فإننا هنا أمام كاتب كبير جعل القارئ على مر الأجيال مشدوداً إلى أعماله السردية الرائعة. ولأننا نوهنا منذ البداية بموضوع نشأة تورغينيف الريفية، في الوسع أيضاً التشديد على فرادته في تصوير الطبيعة ليسَ في الأدب الروسيّ حَسْب، بل والعالميّ أيضاً. لم تكن مشاهد الريف الأخاذة، بمثابة خلفيات مجتزأة لرواياته وقصصه ـ شأن الكثير من الكتّاب ـ وإنما كانت روحها وموسيقاها الداخلية في آنٍ معاً. ولقد فهمَ بنفس العُمق إنسان الريف، وقدّمه لنا في مختلف أوضاعه الطبقية إن كان إقطاعياً أو مزارعاً، سيّداً أو قناً.
عطفاً على مبتدأ حديثنا، المتعلق بطفولته وعلاقته بوالدته، سنجد تورغينيف وبمجرد أن توفيت هذه عام 1850 يقرر إعتاق كافة الأقنان في مزرعتها الكبيرة وكان يقدر عددهم بألف وخمسمائة نفس. إلا أنه تدبيرٌ رمزيّ أكثر منه تغييراً حقيقياً في حياة أولئك البائسين، ولن يطول الأمر بالقيصر ليجعله قانوناً عاماً. إذ بقيَ المالك هو صاحب الأرض، والقن السابق أضحى فلاحاً لديه يدفع الجزية عن محصوله أو حتى يتناصفه معه. ولكن، كيف ظهرَ هذا القن/ الفلاح المتحرر، ثمة في أعمال تورغينيف الأدبية؟ وهذا سؤال ملح، كون الريف هو بيئة أغلب تلك الأعمال كما نوهنا دائماً. والجواب، أن القن/ الفلاح المتحرر، ظل عند تورجينيف إنساناً مسكيناً، خانعاً، بليد الفكر ساذجاً مع شيء من المكر والخبث. " ملك لير السهبي "، لعلها الرواية التورغينيفية المثالية في إجادة تصوير هذا الإنسان، وأيضاً، كل من يسودونه بدءاً بالمالك الإقطاعي ونزولاً إلى مساعديه وموظفي المنطقة ورجال الجندرمة على اختلاف رتبهم. من ناحية أخرى، يُمكن القول أن تورغينيف في هذه الرواية الفريدة، فتحَ أعين أدباء العصر الحديث على أهمية أعمال شكسبير الدرامية وخلود مواضيعها. وأعتقد أن الكاتب الكولومبي، غابرييل غارسيا ماركيز، كان ممن استلهموا أحد تلك الأعمال.
نعود إلى موضوع الريف أدبياً، لنجد سؤالاً آخر يعترض سبيلنا: من هوَ البطل/ الشخصية الرئيسية، في أعمال تورغينيف الروائية والقصصية؟ يبدو سؤالنا ظاهرياً أنه ملتبس، وذلك لكون كلّ من تلك الأعمال له خصوصيته. إلا أن الأمر ليسَ كذلك في حقيقة الحال، طالما نتحدث عن الأعمال المستمدة من البيئة الروسية الصميمة. ولدينا على الأقل مثال ساطع في شأن ثيمة البطل، متمثل في الرواية الكبرى، " الآباء والبنون "، المنشورة عام 1861. هذه الرواية، لا تنتمي لتلك البيئة فقط، بل وأيضاً تحتوي على أشياء كثيرة من السيرة الذاتية لمؤلفها. إن بطلها الرئيس، " بازاروف "، الطالب في كلية الطب، ينتمي لطبقة مالكي الأراضي الصغار. بينما صديقه ومضيفه، الشخصية الثانية في السرد، كان ابن إقطاعي كبير. " أودينتسوفا "، الشخصية النسائية الموازية، كانت كذلك إقطاعية. كون " بازاروف " يؤمن بالاتجاه العدمي، الذي انتشر آنذاك بين الأوساط الفتية في الانتلجنسيا الروسية، فإننا نراه يعرض أفكاره أمام أولئك الإقطاعيين ويخوض المجادلات معهم. بينما ظلّ سوادُ مواطني المنطقة، أي الفلاحين الأقنان، في الظل ولم يكن عليهم الظهور سوى في مواقف مبتسرة تؤكد سذاجتهم وجهلهم.
بحَسَب ذلك المثال، يتهيأ للقارئ أن أدب تورغينيف كان صوتاً لطبقته هوَ، الإقطاعية. أو في أحسن الأحوال، أن الرجل كان منحازاً للفئة المستنيرة في طبقته ويؤمن بقدرتها على انجاز تغيير في المجتمع الروسيّ عن طريق إصلاح نظام القنانة بشكل رئيس. بيْدَ أنّ هكذا تحليل، على رأيي، فيه الكثير من المساهلة والتبسيط. ذلك أننا أمام كاتب كبير، وأعماله كانت صادقة كونها مستمدة من بيئته وتجاربه. بكلمة أخرى، إن تورغينيف كان كاتباً واقعياً. ربما أهم دليل لدينا على أمانته للواقعية، هوَ خلو أدبه من أي أفكار ميتافيزيقية. كما أنه رفض الدعوة الطوباوية، الهادفة لتكريس الكنيسة الروسية كمنقذة للحضارة العالمية؛ هذه الدعوة، المكشوفة في معظم أعمال دستويفسكي الأخيرة. بل إن تورغينيف، وهذه حالة فريدة مدهشة، لم يكن يعبأ بالدين لا في أعماله ولا في حياته الشخصية. ذلك أنّ التدين العميق كان سمة عصره، لدرجة قرر فيها مصيرَ أدباء آخرين أيضاً، كغوغول وتولستوي، اللذين انحدرا إلى مبالغ التنسك والتصوف.
>للبحث صلة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع