الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تورغينيف وعصره/ القسم الخامس

دلور ميقري

2018 / 11 / 22
الادب والفن


مع كون " الآباء والبنون "، المنشورة عام 1862، هيَ أكبر أعمال تورغينيف وأرتبط اسمه بها، إلا أننا سنتناول هنا بشيء من البحث رواية أخرى، صدرت بعد ذلك بنحو عشر سنين. " فيوض الربيع "، حققت في الواقع نجاحاً مثيراً في أوان نشرها، وظهرت لها فوراً ترجمات في فرنسا وانكلترا وأمريكا ودول أخرى. كذلك حصلت الرواية على اهتمام نقديّ، يوازي انتشارها الغامر، الأشبه فعلاً بعنوانها. صديق الكاتب، الأديب الفرنسيّ غوستاف فلوبير، أمتدح العمل وعبّر عن مدى تأثره بشخصية البطل ومآل مصيره التراجيدي.
من ناحيته، أكّد تورغينيف على واقعية الرواية حين كتبَ ملاحظاته بخصوصها: " كلها حقيقية، وقد عشتها وعاينتها شخصياً. إنها قصتي الشخصية. والسيدة بولوزوفا هيَ تجسيد للأميرة تروبتسكيا، التي كنت أعرفها بشكل جيد. لم أغير إلا في التفاصيل، وبدلت مواضعها، لأنني لا أستطيع أن أصور تصويراً فوتوغرافياً بطريقة عمياء ". تشديد تورغينيف على الأسلوب في نهاية الجملة، يُحيل إلى ما سبقَ ونوهنا به عن كونه من مجددي الرواية في عصره، وأنه رفض الأساليب البالية في كتابة الرواية، المعتمدة على مواضيع الإثارة والمغامرة ضمن حبكة تقليدية.
بحسَب ملاحظات الكاتب الإضافية، أن الرواية استندت إلى واقعتين من سيرته الذاتية. الأولى، تمثلت في حادثة جرت معه أثناء توقفه في فرانكفورت، بعيد عودته من سياحة بإيطاليا، حيث استنجدت به فتاة في محل حلويات كي يساعد شقيقها الصغير، المستغرق في غيبوبة تامة. اضطرار الشاب ايفان تورغينيف آنذاك للسفر إلى بلاده، جعله يتخلى عن حبه العارم للفتاة. الواقعة الأخرى، المتكئ عليها السرد في القسم الثاني من الرواية، هيَ تلك التي أوردناها آنفاً بشأن الشخصية النسائية الأرستقراطية، " السيدة بولوزوفا "، المجسّدة لإحدى معارف الكاتب.
حبكة الرواية، على بساطة بعدها العاطفي، ستتطور بشكلٍ دراماتيكي حين يلتقي بطلها مع تلك السيّدة الأرستقراطية. " سانين " هذا، كان قد آب من سفرته السياحية في ايطاليا وهوَ مثقل بمرارة التفكير بما سينتظره في وطنه. لقد بدد في سياحته ميراثاً صغيراً آل إليه، وما عليه الآن سوى الاقتناع بتمضية حياته العملية في وظيفةٍ تافهة، محاطاً بمظاهر البيروقراطية والروتين. إلا أن حادثة محل الحلويات، عليها كان أن تبدد مخاوفه المستقبلية، وفي آنٍ واحد، أن تسلمه لمصير غامض. فحبّه لفتاةٍ أجنبية متوسطة الحال، ضحّت لأجله بخطيب غنيّ، دفعه لمحاولة بيع ضيعة يملكها في روسيا لمواطنته " ماريا بولوزوفا "، التي كانت بدَورها تقيم في فرانكفورت على سبيل السياحة وتستعد للمغادرة إلى باريس. زوج هذه السيّدة، البليد المدعو " بولوزوف "، يقدم للقراء في محاكاة ساخرة لأشباهه من الرجال المخصيين، المقترنين بنساء فاسقات من الطبقة الراقية. وكان الشرط الأساس، الصارم، لزواج الرجل بتلك المرأة قد لخصه هوَ بنفسه حين التقى " سانين "، زميله القديم من أيام الدراسة: " أنا لا أتدخل في شؤون زوجتي، ولا في أي شأن.. إنها في حالها، وأنا في حالي ".
" بولوزوفا "، وفق وصفها لنفسها، امرأة تعشق الحرية وتعتبرها شرط وجودها، وذلك كونها تعرضت لنوع من العبودية في طفولتها. إلا أنها بوصفها أيضا سيدة متطلبة، فإن مفهومها للحرية الشخصية فيه الكثير من الشطط. أريحيتها بشأن شراء ضيعة " سانين "، كانت تماثل قذفها لكيس مليء بالقطع النقدية الذهبية لمتسول عجوز، معلّقة على الأمر أمام مواطنها الشاب: " لم أفعل ما فعلت من أجله، بل من أجل نفسي ". وكذا بالنسبة لدافع أريحيتها مع مواطنها، فإن نتيجته كان تدمير حبه لتلك الفتاة الإيطالية، وكانت هذه تنتظر عودته كي يتزوجا. لقد بدا جلياً منذ البدء، أنّ الشاب سيكون أحد ضحايا " السيّدة بولوزوفا "، القوية الشكيمة والمتمتعة بسحر لا يُقاوم. ولكنه انساق إلى مصيره، على الرغم مما مُنحه من معرفة بطبع المرأة ومسلكها، وعلى لسانها هيَ بالذات.
ما يستوقفنا بالنسبة لشخصية " سانين "، تقديمه بعيداً عن أيّ صفة أدبية. هذا مع علمنا، بكون الرواية في حبكتها الرئيسة مبنية على ترجيعات من السيرة الذاتية لمؤلفها. ففي الحالة الأدبية، المفترضة، لبطل الرواية، كان من الممكن أن يؤدي فشل حبه إلى نجاح معنويّ؛ وذلك عن طريق رفده بالتجربة المطلوبة كي يُجسدها في رواية. على أن تورغينيف، لسبب ما، وجيه ولا شك، لم يشأ الإمعان في مماهاة نفسه ببطل روايته، مكتفياً بجوهر الحبكة المأخوذ من سيرته الشخصية في أيام الشباب. وفي رأيي، أن الكاتب قد توفق بصيغته المعتمدة لبطله، كما برهن على ذلك في الخاتمة المبهرة للرواية. وفي آخر المطاف، قدّم لنا تورغينيف في " فيوض الربيع " رواية رائعة، مستمدة فكرتها من موضوع إنسانيّ خالد: الحب الأول.

> للبحث صلة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية