الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفسير التاريخي لعلاقة الجيش بالسياسة في الجزائر(2)

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2018 / 12 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


تناولنا في الحلقة السابقة فترة ما قبل ثورة أول نوفمبر1954، وبيننا مدى تأثير الجانب العسكري على حساب السياسي في كل المقاومات ضد الإستعمار الفرنسي خاصة في القرن 19م، وكيف فشلت المقاومة السياسية في النصف الأول من القرن 20م وظهور المنظمة الخاصة شبه العسكرية وعدائها للسياسيين التي رأت فيهم مجرد إنتهازيين، وقد كانت هذه المنظمة الخاصة وراء إشعال فتيل الثورة التحريرية في 1954، لكن علينا الإشارة أنه رغم هذه النظرة فإنه لم يكن في بدايات الثورة المسلحة، أي تمييز بين العسكري والسياسي، فكان القادة عسكريون وسياسيون في نفس الوقت، وبدأت المسألة تطرح بعد مؤتمر الصومام عام1956، عندما وضع مبدأ أولوية السياسي على العسكري، بالإضافة إلى مبدأ أولوية الداخل على الخارج، ويبدو أن عبان رمضان صاحب هذه المباديء، لم يكن يستهدف إبعاد العسكريين عن القرار، بل كان هدفه هو إعطاء صبغة سياسية للثورة إنطلاقا من فكرة كلاوزفيتز أن الحرب هدفها سياسي، ولهذا السبب لم يعارض القادة العسكريون الذين حضروا المؤتمر هذا المبدأ، وحتى عبان رمضان ذاته فهو عسكري وسياسي في نفس الوقت .
ونعتقد أن بعض القراءات التي أعطيت فيما بعد لقرارات مؤتمر الصومام متجنية وغير بريئة، لأن علينا أن نضع أمرين هامين عند العودة إلى هذه القرارات، وما أنجر حولها من خلافات ، أولها أن الخطاب الذي جاء في وثيقة الصومام كان موجها إلى الرأي العام العالمى، وبشكل أخص الرأي العام الفرنسي، أما ما أنجر عنه من انتقادات واتهامات باطلة لعبان رمضان، خاصة من بن بلة، فهو يتعلق أكثر بصراع حول السلطة بين الرجلين، وليس حول المباديء كما يدعي بن بلة .
لكن ما آخذه العسكريون فيما بعد على عبان رمضان، هو إدخاله عناصر من السياسيين الذين ينتمون إلى البرجوازية المدينية، والذين كانوا في صراع مع الحركة الإستقلالية ذات الطابع الريفي والثوري، ومنها بالأخص أعضاء المنظمة الخاصة، فعاد من جديد ذلك الصراع الذي كان موجودا قبل إندلاع الثورة المسلحة، والذي سبق أن أشرنا إليه، وقمنا بتحليله، كما اختلط كل هذا بصراع حول السلطة والزعامة بين العناصر القوية داخل جبهة وجيش التحرير الوطنيين، والتي كانت تنتمي إلى الحركة الإستقلالية الريفية والثورية، ويمكن أن نذكر ضمن هؤلاء عبان رمضان وأحمد بن بلة، اللذان دخلا في صراع انتهى بإختطاف طائرة الزعماء الأربعة في أكتوبر1956، وهم أحمد بن بلة ومحمد بوضياف وحسين آيت أحمد ومحمد خيدر، لينشب فيما بعد صراعا آخر بين كل من عبان رمضان وكريم بلقاسم اللذان ينحدران كلاهما من منطقة القبائل، فكان الأول مدعما بمجموعة من السياسيين المدينيين، الذين أدخلهم إلى صفوف الثورة، بعد ما كان ينظر إليهم بأنهم كانوا ضد العمل الثوري المسلح قبل عام1954، وأنهم ما ألتحقوا بالثورة إلا لتحقيق مكاسب ومحو مواقفهم السياسية السابقة، دون أن ننسى الإشارة إلى الشك والريبة التي أحاطت بهؤلاء منذ فترة طويلة، أما كريم بلقاسم فكان وراءه لخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف، والذين شكلوا فيما بعد ما يعرف في تاريخ الثورة الجزائرية ب"الباءات الثلاث"، بالإضافة إلى قادة عسكريين آخرين كعمر أوعمران ومحمود الشريف الذين كانوا يؤاخذون عبان على إعطائه نفوذا كبيرا لهؤلاء السياسيين المدينيين الذين لم يكونو يؤمنون حتى بإستقلال الجزائر -في نظر هؤلاء العسكريين-، فكان هؤلاء العقداء الخمس وراء قرار التخلص من عبان رمضان ثم تصفيته غدرا في المغرب الأقصى، فظهر بعد ذلك صراعا آخر بين الباءات الثلاث أي كريم بلقاسم قائد جيش التحرير الوطني وعبد الحفيظ بوصوف المسؤول على الإتصالات العامة وهي شبيهة بمخابرات الثورة ولخضر بن طوبال الذي كان منصبه شبيه بمنصب وزير الداخلية، لكن المفارقة أن العلاقة بين هؤلاء الثلاثة هي علاقة صراع حول السلطة، وفي نفس الوقت يشكلون تحالفا مقدسا ضد السياسيين الذين ألتحقوا بالثورة فيما بعد.
إن هذا الصراع المتداخل بين الباءات الثلاث من جهة، وبين هؤلاء ومجموعة من السياسيين من جهة أخرى، أدخل الثورة في أزمات حادة بلغت أوجها في صيف 1959، ولم يكن بمقدور هؤلاء إلا العودة إلى العسكريين لتحكيمهم في هذه الصراعات الحادة، فأعطى هذا اللجوء قوة للقادة العسكريين الممثلين في العقداء العشر الذين أصبح في أيديهم تعيين المجلس الوطني للثورة الجزائرية، الذي سيعطي شرعية فقط للحكومة الجديدة التي سيتم تعيينها، فأصبح العسكريون في موقع أقوى، حيث أصبحوا يتحكمون في زمام الأمور كلها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان من نتائج إجتماع العقداء العشر الذي دام أكثر من مئة يوم، هو تراجع قوة الباءات الثلاث، وبروز قوة جديدة، تتمثل في قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني بقيادة هواري بومدين، وقد دخلت هذه القيادة بدورها في صراع ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تتشكل من سياسيين ومن الباءات الثلاث، فكان هدف قيادة الأركان هو إضعاف الباءات الثلاث، الذين كانوا يتحكمون في السياسيين، مما أدى إلى إضعاف أكبر لمجموعة السياسيين .
وعندما وضعت الحرب التحريرية أوزارها كانت قيادة أركان الجيش في موقع قوة بحكم سيطرتها على جيش الحدود المقدر بأكثر من23 ألف جندي كانوا بعيدين تماما عن ساحة المعارك، ويمتلكون عتادا أقوى، مقارنة بجيش الداخل الذي أنهكته الحرب مع الجيش الفرنسي، فكانت الظروف كلها مهيأة لإستيلاء بومدين وجماعته في قيادة الأركان على السلطة، متسترين في بداية الأمر وراء أحد القادة التاريخيين للثورة وهو أحمد بن بلة .
فتكرس بهذا الشكل نفوذ الجيش بعد إسترجاع الجزائر إستقلالها، ومادامت أن المجموعة التي استولت على السلطة، لم تكن تحظى لا بشرعية شعبية ولا تاريخية ولا حتى ثورية، لأنه يمكن لنا القول، إنها لم تطلق ولا رصاصة واحدة في وجه الجيش الفرنسي، لأنها كانت متمركزة في الخارج، وتناور للإستيلاء على السلطة بعد استرجاع الإستقلال، فمن الطبيعي أن تستند على القوة لبقاء الدولة تحت سيطرتها، مما يؤدي حتما إلى تزايد نفوذ الجيش، وبشكل أخص أجهزة الأمن والمخابرات.
لم يكتف هذا النظام الجديد بذلك، بل عمد إلى تشويه التاريخ بطمس تاريخ أبطال الثورة الحقيقيين، وركز في نفس الوقت على فكرة أن الجيش هو الذي حرر البلاد، دون أي تمييز بين جيش الداخل الذي أكتوى بنار الحرب ودفع الثمن غاليا، وجيش الحدود الذي كانت قياداته تناور للإستفادة من تضحيات جيش الداخل. ولكي تعطى لقيادات هذا الجيش شرعية السلطة، رسخ النظام في ذهن الجزائريين عموما، بأن هذا الجيش هو سليل جيش التحرير الوطني، وأنه حرر البلاد بالعمل المسلح، دون أن يميز بين الدور الكبير وتضحيات مجاهدي الداخل من أجل تحرير البلاد -والذين أستبعد أغلبيتهم وتعرض بعضهم للتنكيل بعد إسترجاع الإستقلال- وجيش الحدود الذي لم يعرف الكثير من أعضائه حرب التحرير في الداخل ومعاناتها، وأصبح يشكل النسبة الكبيرة جدا من الجيش الجزائري بقيادة بومدين في السنوات الأولى للإستقلال، كما ركز الإعلام والنظام التربوي في تدريس تاريخ الثورة على العمل المسلح، مع إهمال تام لأي دور للعمل السياسي والدبلومسي وغيره، فوصل ذلك إلى درجة إن أي جزائري بسيط تسأله عن مفهوم أو معنى الثورة، إلا وأجاب أنه العمل المسلح، وحتى تاريخ البلاد يبدأ من تاريخ بداية الثورة المسلحة، والهدف من ذلك كله هو إعطاء المؤسسة العسكرية الشرعية التاريخية والثورية، إن لم نقل القداسة، وهو ما سيؤدي في آخر المطاف إلى شعور الشعب بأنه يدين في وجوده لهذا الجيش الذي كان وراء تحرير البلاد دون تمييز بين جيش الحدود في الخارج ومجاهدي الداخل، فلا يحق للشعب أن يحاسبه، مادام أنه يدين له بوجوده واستقلاله ورفاهيته إن وجدت.
كما أنه من الطبيعي، أن يكون القرار في يد الجيش مادام أنه كان وراء النظام الجديد الذي تشكل غداة إسترجاع الجزائر إستقلالها، فهذا الأمر يحدث في كل الثورات، فالقوى التي تكون وراء الثورة هي التي تحتكر السلطة، ولا تثق في أية قوة أخرى، بل تتحول هذه القوى في أغلب الأحيان إلى وصية على البلاد، فلو كان علماء الدين مثلا هم الذين كانوا وراء الثورة لاحتكروا السلطة، كما فعل آيات الله في إيران على سبيل المثال لا الحصر .
لكن هذا الإحتكار للسلطة والتدخل في الحقل السياسي، كان كله في العقود الأولى للإستقلال، لكن كلما تقاعد ضباط الثورة، وصعد جيل الإستقلال إلى دفة قيادة المؤسسة العسكرية، تراجع دور الجيش في التدخل في الشؤون السياسية، كما سبق لنا أن أشرنا إلى ذلك من قبل .

تبين لنا من خلال كل ما سبق أن الظروف التاريحية التي نشأت فيها الدولة الوطنية الجزائرية عام 1962، هي التي اعطت لمؤسسة الجيش دورا كبيرا في صناعة القرار السياسي الجزائري، ويعود ذلك إلى الدور الأساسي الذي لعبه الجيش في عملية تحرير الجزائر من الإحتلال الفرنسي، كما تبين لنا أيضا أن هذا الدور الكبير للجيش، لم يكن قدرا محتوما على البلاد، بل ظهر هذا النفوذ في العقود الأولى للدولة الوطنية فقط، وبدأ في التراجع مع مرور الزمن، خاصة بعد تقاعد قادة الجيش الذين شاركوا في الثورة التحريرية المسلحة سواء في الخارج أو في الداخل، وصعود جيل جديد من القادة العسكريين ينتمون إلى جيل الإستقلال إلى دفة قيادة المؤسسة العسكرية الجزائرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة