الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأدب فن إخفاء المعنى

حسن عجمي

2018 / 12 / 24
الادب والفن


الحياة فن إنتاج المعنى لِما لا معنى له. و الأدب فن تشكيل كل الحيوات الممكنة الواقعية منها و المتخيَّلة بينما العِلم فن تفسير كل الأكوان الممكنة التي نحيا فيها و بها واقعياً أو خيالياً أو واقعياً و خيالياً معاً. الأدب فن إخفاء المعنى بينما العِلم فن إظهاره.

تتعدد الأمثلة على أنَّ الأدب فن إخفاء المعنى. فمثلاً , يخفي الشاعر الكبير نزار قباني معاني و دلالات قصيدته "التصوير في الزمن الرمادي" حين يقول : "أحاول منذ الطفولة / أن أتصوّر شكلَ الوطن . رسمتُ بلاداً , تُسمَّى مجازاً , / بلادَ العرب...". المعنى هنا هو التالي : بلاد العرب ليست حقيقة واقعية بل هي مجرّد مجاز و بذلك بلاد العرب غير موجودة بالفعل و لذا يحاول الشاعر أن يتصوّر شكل وطنه أي شكل بلاد العرب و أن يرسمها. و هو يحاول أن يتصوّر شكل الوطن بدلاً من أن يتصوّره بالفعل لأنَّ الحقيقة هي أنه لا يوجد وطن عربي واقعي و حقيقي و لذا هي مجرّد محاولة تصوّر و ليست تصوّراً فعلياً. هكذا يغيب التصوّر الفعلي لبلاد العرب لأنها غير موجودة. أخفى الشاعر هذه المعاني في أبياته الشِعرية لأنَّ الأدب و من ضمنه الشِعر فن إخفاء المعنى. فلو أنه أظهر معنى أو معاني قصيدته لأصبحت حينها خطاباً سياسياً بدلاً من شِعر رفيع و أدبٍ راق ٍ.

يُكمِل قباني في القصيدة نفسها قائلاً : "أحاول منذ الطفولة / رسم بلادٍ / تسامحني إن كسرتُ زجاجَ القمر..". بهذه الكلمات يخفي الشاعر معان ٍ منها أنه بريء كطفلٍ يتخيّل أنَّ للقمر زجاجاً و أنه يكسره أحياناً لشدة براءته. لكنه يحاول أن يرسم بلاداً تسامحه إن كسر زجاج القمر ما يتضمن أنَّ بلاده لا تسامحه على كونه طفلاً بريئاً. فهي محاولة رسم تلك البلاد المسامحة لبراءة أبنائها و ليست رسماً فعلياً لها ما يعني أنَّ بلادنا لا تسامحنا لأننا أبرياء و بذلك لا تريد سوى الأشقياء و المذنبين حقاً فتمارس الظلم و إنعدام الأخلاقية الإنسانية لأنها ترحِّب بالظالمين و المعتدين و لا ترحِّب بالأبرياء. كل هذه المعاني مخفية في هذه المقاطع الشِعرية ما يؤكِّد على أنَّ الأدب فن إخفاء المعاني.

في آخر قصيدته يقول قباني : " و واعدتُ آخر أنثى / و لكنني .. جئتُ بعد مرور الزمن...". هنا مواعدته لآخر أنثى دلالة على موت كل إنسان و إلا ما كانت مواعدة لآخر أنثى. و هذا متوقع لأنَّ الأوطان التي تمارس القهر و الظلم تقتل إنسانية كل إنسان ما يحتِّم زوال الإنسانية فموت كل إنسان. و مجيء الشاعر هو مجيء بعد مرور الزمن لأنَّ بموت الإنسان يموت الزمن فالزمن صناعة الإنسان. لذلك من المتوقع أيضاً أنه لم ينجح في لقاء آخر أنثى بسبب مجيئه بعد مرور الزمن أي بعد مرور الوجود الإنساني فزوال كل إنسان حقيقي بزوال أوطانه. كل هذه المعاني العميقة و الدقيقة يخفيها الشاعر قباني لأنه يكتب أدباً و شِعراً بدلاً من خطاب سياسي فلسفي. هكذا الشِعر هو أيضاً خطاب فكري بأبعاده السياسية و الاجتماعية و الفلسفية المتنوّعة لكنه خطاب فكري مخفي لكونه إخفاء للمعاني و الأفكار السياسية و الاجتماعية و الفلسفية.

يصدق هذا التحليل على النثر أيضاً. فمثلاً , أخفى الروائي الكبير حسن داوود في روايته "فيزيك" أنَّ مهابيل القرية الثلاثة هُم فقط الذين تمكّنوا من اكتساب إنسانيتهم و ذلك من جراء تمايزهم عن بعضهم البعض. فإبراهيم هو الأهبل القوي و حسين هو الأهبل الخواجا بينما محمد وطفا فهو أهبل فقط. و بإختلافهم عن بعضهم يكتسبون إنسانيتهم لأنَّ فقط المختلف عن الآخر لا يتطابق مع الآخرين فيغدو مستقلاً ما يجعله يمتلك هويته الإنسانية الحقة الكامنة في حريته و تحرّره من سجون المجتمع و أكاذيبه. أما الآخرون الذين من المفترض أنهم عقّال فيتشابهون و يتطابقون ما جعلهم يفقدون استقلاليتهم فإنسانيتهم. لذلك يصوّرهم حسن داوود على أنهم يمارسون الإرهاب العقلي ضد بعضهم البعض ليصل بهم إرهابهم إلى السخرية من الجثث و الموتى. نتيجة كل ذلك أن يسيطر عليهم الجهل كالاعتقاد بأنَّ صغر الرأس يدلّ على قلة العقل.

هذا الجهل المسيطر على مَن نظنهم عقلاء يؤدي بهم إلى أن يخسروا عقلانيتهم تماماً كما خسروا أخلاقهم. هكذا يخفي الروائي داوود في روايته معان ٍ عديدة منها أنَّ المهابيل أكثر إنسانية من العقلاء لاستقلالهم و عدم استقلال العقلاء و أنَّ الإنسانية تُكتسَب من خلال استقلالنا و ليس من خلال اعتراف المجتمع بعقلانيتنا و أنَّ العقلانية و الأخلاق صفتا الإنسانية فإن خسرنا إنسانيتنا نخسر العقلانية و الأخلاق معاً و العكس صحيح تماماً كما خسرها مَن يعترف المجتمع بأنهم عقلاء رغم لا عقلانيتهم و لا إنسانيتهم. من هنا يمارس المجتمع أكاذيبه و ضلالاته فيشوّه الحقائق و يغتال إنسانية الفرد. كل هذا مخفي في رواية حسن داوود ما يرينا أنَّ النثر أيضاً يعتمد على مناهج إخفاء المعنى ما يجعله يتصف بتعددية المعاني.

الأدب فن إخفاء المعاني و الدلالات و الأفكار بينما العِلم فن إظهارها. فمثلاً , العلم يُظهِر أنَّ الزمان و المكان يشكِّلان كينونة واحدة لا تنفصل و أنَّ الجاذبية مجرّد إنحناء الزمكان (جمع الزمان و المكان) تماماً كما تقول نظرية النسبية لأينشتاين. و العلم يُظهِر أنَّ الزمن يتسارع أو يتباطأ مع تسارع أو تباطؤ الأجسام ما يجعل الزمن نسبياً كما تؤكِّد أيضاً نظرية أينشتاين النسبية. هكذا العلم تبيان المعاني و الدلالات و الأفكار على نقيض الأدب كإخفاء للفكر و المعنى و الدلالة. بذلك يختلف الأدب عن العلم.

الأدب و العلم يختلفان لكنهما يتواصلان و يتحدان في آن و ذلك بسبب أنَّ كل واحد منهما يستلزم وجود الآخر. فإخفاء المعاني يستلزم إظهارها و تبيانها و إلا بقيت غامضة بلا تفسير و إيضاح كما أنَّ تبيانها يستلزم إخفاءها و إلا بقيت خطاباً حرفياً لا حياة فيه. لذلك لا يوجد أدب متطوّر بإخفاء معانيه بلا علوم متطوّرة بتبيان معانيها. من هنا لا توجد ثقافة متطوّرة بأدبها بلا أن تكون متطوّرة أيضاً بعلومها و العكس صحيح. هكذا الأدب و العلم يشكّلان حقلاً معرفياً و إبداعياً واحداً لا يتجزأ رغم اختلافهما في إخفاء المعاني أو تبيانها. و هذا متوقع لأنَّ أي شِعر أو نثر يستلزم الاعتماد على علوم عصره لوصف أية حالة شعورية أو سلوكية و إلا فقد مصداقيته كما أنَّ أي علم يستلزم التعبير عنه بمفاهيم مرتبطة بخطاب عصره اللغوي فالأدبي لكي يُفهَم و يُقبَل بالإضافة إلى تعابيره الرياضية و العلمية الصِرفة. لا أدب بلا علم و لا علم بلا أدب لأنَّ إخفاء المعاني دعوة إلى تبيانها و تبيان المعاني دعوة أيضاً إلى إخفائها من أجل تبيانها لاحقاً بأشكال و مضامين متنوّعة.

لكن إن كان الأدب إخفاء المعاني فلا بدّ من أن يكون أيضاً تكثيراً للمعاني ما يمكّنه من أن يحتوي على تعددية المعاني لأنَّ من جراء إخفاء المعنى تتعدد تفاسيره و تأويلاته فتتكثر معانيه. من هنا الأدب أيضاً فن تكثير المعنى الواحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى