الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعرفة فن إنتاج المعاني

حسن عجمي

2018 / 12 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المعرفة فن إنتاج المعاني. بذلك المعرفة ليست صفة بعض المعتقدات دون أخرى بل المعرفة مجموع آليات صياغة المعاني التي يشترك في إنتاجها كل البشر فكل إنسان مُنتِج لمعاني حياته و تجاربه. هكذا تحليل المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني تحليل إنسانوي بامتياز لأنه يجعل الناس جميعاً شركاء في صناعة المعرفة ما يُحتِّم أن لا نتعصب لمعارف أفراد دون معارف أفراد آخرين. من هنا المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني فلسفة إحلال السلام الفكري و السلوكي بين أتباع المعارف المختلفة و المتصارعة لأنها تؤكِّد على أنَّ كل البشر متساوون في المشاركة في إنتاج المعرفة.

المعرفة فن صياغة المعاني. لكن المعاني مختلفة (كاختلاف معنى العقل كأن يكون معناه أنه كينونة مجرّدة مفارقة للمادة أو أنه دماغ مادي أو دماغ مادي و جهاز عصبي أيضاً إلخ). من هنا , هذا التحليل لا يسجن المعرفة في قالب مُحدَّد ما يسمح للبشر جميعاً في المشاركة في صناعة المعارف. فبما أنَّ المعرفة فن إنتاج المعاني , و المعاني مختلفة و تختلف آليات إنتاجها , إذن المعارف مختلفة ما يحرِّر المعرفة و لا يسجنها في معتقدات مُحدَّدة. فالمعارف تختلف باختلاف معاني المفهوم نفسه و باختلاف آليات إنتاج معان ٍ متنوّعة للمفهوم نفسه. عدم سجن المعرفة في قالب مُحدَّد فضيلة كبرى لهذا التحليل لأنه يُحرِّر المعرفة من أية مسلّمات مُسبَقة و يجعلها منفتحة على قبول كل ما يُنتَج من معان ٍ مختلفة و متنافسة.

أما التحليل التقليدي للمعرفة فيسجن المعرفة في قوالب و شروط مُحدَّدة كأن تكون المعرفة معتقدات مُسبَّبة من قِبَل الواقع أو تكون المعرفة معتقدات لديها براهين قوية على صدقها. و هذا يعارض معارف عديدة منها معرفتنا بالرياضيات المجرّدة التي لا تملك قدرات سببية من جراء مجرديتها و معرفتنا بأنَّ نظرية الأوتار العلمية تشكِّل معرفة ً حقة رغم عدم وجود براهين علمية اختبارية على صدقها. لكن المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني تنجح في التعبير عن أنَّ تلك المعارف هي حقاً معارف بفضل عدم سجن المعرفة في قالب مُحدَّد أو في شروط مُحدَّدة ما يجعلها متفوّقة على النظريات التقليدية. فمثلاً , معارفنا بالرياضيات هي معارف حقة (رغم مجردية الرياضيات فعدم امتلاكها لقدرات سببية لكونها مجرّدة) بما أنها مُنتِجة لمعان ٍ هي مضامين الرياضيات نفسها. و نظرية الأوتار العلمية تشكِّل معرفة ً رغم أنها فاقدة لبراهين معتمدة على اختبار الواقع لأنها مُنتِجة لمعان ٍ كمعنى أنَّ الكون أوتار و أنغامها.

كما أنَّ هذا التحليل للمعرفة ينجح في التعبير عن أنَّ المعرفة تتغيّر و تتطوّر. و في هذا فضيلة إضافية كبرى. إن كانت المعرفة فن إنتاج المعاني , و علما ً بأنَّ المعاني تتغيّر و تتطوّر , إذن المعرفة تتغيّر و تتطوّر أيضاً. هكذا ينجح هذا التحليل للمعرفة في التعبير عن تغيّر المعرفة و تطوّرها ما يدلّ على مصداقية تحليل المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني. تتعدد الأمثلة على أنَّ المعاني تتغيّر و تتطوّر منها أنَّ معنى العقل قد تغيّر من معنى أنه كينونة مجرّدة مفارقة للجسد الحي إلى معنى أنه الدماغ المادي البشري أو الدماغ و الجهاز العصبي أو الدماغ و الجهاز العصبي و المحيط الطبيعي للوجود الإنساني معاً. مثل آخر هو أنَّ معنى الوجود قد تغيّر و تتطوّر من معنى أنه عالَمنا الواقعي إلى معنى أنه مجموع كل الأكوان المتوازية الممكنة و العديدة و المختلفة بحقائقها و قوانينها الطبيعية. من هنا , بتغيّر المعاني و تطوّرها تتغيّر المعارف و تتطوّر (كتغيّر و تطوّر معرفتنا بالوجود من كونه عالَمنا الواقعي إلى كونه كل الأكوان المتوازية الممكنة و المختلفة). و هذا متوقع من جراء أنَّ المعرفة فن صياغة المعاني المتنوّعة ما يتضمن تغيّر و تطوّر المعرفة بتغيّر و تطوّر المعاني و العكس صحيح.

المعرفة فن إنتاج المعاني و لذلك الشعراء و الأدباء و الفلاسفة و العلماء و الفنانون أيضاً يتشاركون في بناء المعرفة علماً بأنهم يُنتِجون معان ٍ فيما يُبدِعون. هكذا تحليل المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني لا يرفض أي حقل إبداعي بل يقبل كل الحقول الإبداعية و يعتبرها مصادر حقة للمعارف. بذلك يكتسب هذا التحليل هذه الفضيلة الأساسية الكامنة في قبول الميادين الإبداعية المتنوّعة كافة كالفن و الأدب و الفلسفة و العلوم و اعتبارها أدوات متعددة لإنتاج المعرفة. فالفنان يُنتِج معرفة ً حين يرسم مثلاً الواقع كما هو أو يرسم ما يتخيّل فنحصل على معرفة الواقع أو معرفة ما يتخيّله الإنسان. و الفيلسوف يُنتِج معرفة ً عندما يبني نموذجه الفكري الحائز على قدرات تفسيرية معينة كتفسير هذه الظواهر أو تلك فنحصل بذلك على معرفة ما من الممكن أن يكون صادقاً كما على معرفة كيف من الممكن أن يفكّر الإنسان. أما العالِم فيصوغ معرفة ً من خلال نظرياته العلمية الناجحة في تفسير الكون و وصفه ما يمكّننا من الحصول على معرفة ما من المحتمل أن يكون صادقاً. أما الأديب أو الشاعر فيبني معرفة ً بما يصوّره من واقع أو خيال فنمتلك حينها معرفة الواقع المعاش أو الواقع المُتخيَّل. هكذا كل حقول الإبداع متساوية في قيمتها لكونها كلها مصادر متنوّعة لحصولنا على معارف متعددة تشترك معاً في تشكيل المعرفة الإنسانية.

بالإضافة إلى ذلك , بما أنَّ المعرفة فن إنتاج المعاني , و النماذج الفكرية المختلفة و المتنافسة تُنتِج معان ٍ متنوّعة , إذن النماذج الفكرية المختلفة مصادر للمعارف الحقة. و بذلك تحليل المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني لا يرفض أي نموذج فكري منسجم ذاتياً. هنا تكمن فضيلة أخرى لهذا التحليل. بالنسبة إلى هذه النظرية في المعرفة , النماذج الفكرية المتنوّعة متساوية في قيمتها و مقبوليتها (لأنها مُنتِجة لمعان ٍ و المعرفة ليست سوى إنتاج معان ٍ) ما يؤدي إلى عدم التعصب لنموذج فكري دون آخر فيحتِّم زوال المسلّمات اليقينية حول أفضلية نموذج فكري أو آخر فيدفعنا ذلك نحو التحرّر من يقينياتنا المُسبَقة كافة ما يضمن بدوره استمرارية البحث الفكري و المعرفي بدلاً من إيقافه على ضفاف يقينياتنا المُحدَّدة مُسبَقاً. في كل هذا فضائل عديدة تدعم مقبولية تحليل المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني.

مثل ذلك أنَّ الفلسفة المثالية القائلة بأنَّ الكون مثالي لا مادي مقبولة كما وَرَدَت مثلاً في العِلم المعاصر الذي يصف الكون على أنه بناءات رياضية مجرّدة فمثالية غير مادية. كما أنَّ الفلسفة المادية القائلة بأنَّ الكون مادي مقبولة أيضاً كما وَرَدَت في العلم المعاصر أيضاً الذي يصف الكون على أنه يتكوّن من ذرات مادية. النموذجان الفلسفيان المثالي و المادي مقبولان معاً من منطلق التحليل السابق للمعرفة لأنَّ النموذج الفلسفي المثالي يُقدِّم معان ٍ منها معنى أنَّ العالَم مثالي تماماً كما أنَّ النموذج الفلسفي المادي أيضاً يُقدِّم معان ٍ أخرى منها أنَّ العالَم مادي و بذلك يتساويان في إنتاج معان ٍ رغم اختلاف معانيهما ما يجعلهما مصدريْن للمعرفة بما أنَّ المعرفة فن إنتاج المعاني. هكذا تحليل المعرفة على أنها فن إنتاج المعاني يُوحِّد بين النظريات المختلفة و النماذج الفكرية المتنافسة بقبولها جمعاء فيحلّ الخلاف فيما بينها و بذلك يكتسب هذه الفضيلة الكبرى.

المعرفة كفنون و آليات إنتاج المعاني المختلفة و المتغيّرة تُحرِّر المعرفة من سجون قوالب فكرية مُحدَّدة سلفاً فتُحرِّر الإنسان. هكذا تحليل المعرفة على أنها فن صياغة المعاني تحليل إنسانوي قائم على قبول كل النماذج الفكرية و الإنجازات الإبداعية المختلفة و المتنافسة و اعتبارها مصادر حقة للمعارف الإنسانية ما يجعل هذه المعرفة معرفة قبول الآخرين فآلية أساسية لإحلال السلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم