الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس المتسولة ! ‏

فريد العليبي

2018 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


‏ روجت مؤسسة خيرية قطرية مؤخرا اعلانا بعنوان كبير : تحت الصفر ، متضمنا الدعوة الى التبرع ‏بمائة ‏ريال قطري لمنح تونس الدفء . وفي خلفيته صورة امرأة بثياب الفقراء ، وهى ‏تسير تحت الثلوج ‏المتساقطة ، بخطى متثاقلة ، ‏تمريرا لرسالة مفادها طلب تونس الصدقة . ‏
وهو ما أثار لدى أغلب التونسيين الاستهجان والغضب ، لانتهاكه كرامتهم فهو يرسخ صورة تونس ‏المتسولة ، التي تمد يدها للمحسنين ، وبدا أن ذلك العنوان لا يشير الى درجة الحرارة بقدر ما يشير الى ‏وضع تونس الاقتصادي الاجتماعي ، وربما السياسي والأخلاقي أيضا ، فهي تحت الصفر.‏
وفرضت موجة الغضب التونسية على وزير الخارجية الاتصال بنظيره القطري، الذي رد معتذرا ، ‏واصفا الاعلان بالخطأ ، بينما قامت المؤسسة الخيرية بسحبه على الفور .‏
‏ ويبدو أن صورة تونس الكرامة والعزة والثورة أضحت مزعجة ، مما تطلب محوها وطردها من الذاكرة ‏وتعويضها بأخرى زائفة ، فأصحاب الاعلان يبتغون تثبيت صورة في الأذهان عن تونس المتسولة ، ‏مدركين أن للصورة سلطتها ، ويكفي امتلاك المال لنشرها ، وهو ما ‏يفصح عن نية خبيثة بإحالة ‏التونسيين الى الندم ، إنها ‏تونس النادمة ، الباكية ، الشاكية ، المتهالكة ، التي قادها انتفاضها وتمردها الى ‏ذلك المصير البائس فاستحقت الصدقة ، ‏فمن وراء تلطيخ صورتها بالسواد معاقبة شعبها على ما قام به ‏، فقد انتفض طلبا للشغل والحرية لكنه تحول الى شحاذ على عتبات الجمعيات الخيرية !! ومن ثمة تحذير ‏غيره من مصير شبيه بمصيره . ‏
وبين تونس " البطاقة البريدية " زمن بن على ، حيث الخضرة والشمس والبحر والواحة والفنادق ‏السياحية الفخمة ‏والرمال الذهبية و " تونس المتسولة " زمن ورثته غير الشرعيين ، هناك تونس الواقعية ‏، حيث شعب ‏يقتلع خبزه من بين الصخور، مفتخرا بكرامته وعزة نفسه وعلمه وفنه ومعرفته . ‏
‏ وبالنظر الى موقعها في تاريخ الانتفاض العربي تمثل تونس مجالا مثاليا لتجار " الخير " الذين غالبا ‏ما ينسلخون من انسانيهم لتحصيل أرباحهم التي قد تكون موجهة في جزء منها لملء صندوق جبر ‏ضرر هنا ، وجيب حزب هناك ، فهى تسرق من طرف من يجمعون المال بإسمها ، ومن هنا فإن ذلك ‏الاعلان غير منفصل عن ايديولوجيا مضمرة، تتوسل قيما أخلاقية نبيلة ، مثل الخير والفضيلة ، لبلوغ ‏مآرب سياسية مشينة ‏. ومن وراء الخير يغرز الشر مخالبه .‏
‏ ويبدو أن الأمر يتجاوز تونس الى اعادة صياغة الوطن العربي برمته ، حيث هناك متسولون ‏ومتصدقون، مانحون وممنوحون ، مراكز وهوامش ، والمحدد في العلاقة بين هؤلاء وأولئك هو المال ولا ‏شئ سواه ، فمن يمتلك المال يمتلك الصور.‏
وفي عصرنا تلعب الصورة دورا بارزا في ‏تشكيل الذهنية العامة للبشر ، أفراد وجماعات ،غير أن ‏الصورة لا تؤدي ‏وظيفتها إلا في صلة بجسد يتقبلها ، وقد يكون ذلك الجسد شعب ‏بأكمله ، فينظر الى ‏الصورة التي يشكلها الآخرون عنه كما لو ‏كانت هى هو ، فمن خلالها ينتج تصوره لنفسه . وإذا كان ‏الدين هو تصور ‏الشعب عن نفسه كما قال هيجل ، فإن الاعلام الرائج اليوم يقدم تلك الصورة للشعب ‏‏فيستبطنها فتصبح هى إياه ، ولكن شعبا واع بذاته لا يقبل تلك الصورة وإنما يقلبها الى ضدها بحثا عن ‏حقيقته ، متحررا مما يريده أعداؤه أن يراه . ‏
والمهم هنا أن لا يتحول التونسيون الى عميان كما في رواية جوزيه ساراماغو العمى ‏، ‏وأن يروا صورتهم ‏في مرآة أنفسهم ‏لا في مرآة تجار الخير، الذين يصورونهم وهم يتهافتون على الصدقات هنا وهناك ، ‏‏وأن يدركوا ما يقبع وراء الخير فالصدقات والهبات والمساعدات تصنع أملا زائفا بقدر ما تقتل عملا ‏شريفا منتجا ، وقد تخفي بشاعة لم تر العين التونسية حتى الآن إلا البعض منها.‏

‏ .
‏ ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هجم النفط علينا
مواطن بسيط ( 2018 / 12 / 30 - 04:26 )
ألا بالنفط بعد السيف اغتصب البدو هويات الشعوب وداسوا كراماتها

اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات