الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير

مريم الحسن

2019 / 1 / 2
الصحافة والاعلام


I. المقدمة
مما لا شك فيه و صار أمراً جلياً لأي مراقبٍ متابع أو أي دارسٍ مُهتم, أن الإعلام بات يحتل حيزاً مهماً في حياتنا اليومية, لا سيما في العقود الأخيرة, بعد أن تطوّر بشكلٍ سريعٍ باهرٍ و ملفتٍ, و ذلك تماهياً مع التطوّر العلمي, و التقدّم التكنولوجي اللذان يُعدّان من أهم الدعائم التي أسّست و ساهمت في تطوّر العمل الإعلامي, و عزّزت حضور وسائطه بين الناس, و سرّعت انتشارها بينهم على اختلاف شرائحهم العمرية و توزع مستوياتهم الاجتماعية.
و هو اليوم, أي الإعلام, بات يُعتبر من قِبل المختصين في مختلف مجالات الدراسات و الأبحاث الأكاديمية, لاعباً بارزاً و عاملاً مؤثراً في مختلف ميادين الحياة, و على كامل أصعدتها, الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و السياسية و حتى الأمنية. و ذلك لما يُمثله الإعلام من أداةِ نشرِ معلوماتٍ ضخمةٍ, تُدار و تُوجّه بحسب مصالح و استراتيجيات تكتلات سياسية و اقتصادية كبرى باتت تُهيمن على السوق الإعلامي و تحتكر عبره مركز الصدارة في عملية تشكيل و إعادة تشكيل الرأي العام, و باتت تلعب فيه أيضاً دور المُوجّه الأول إن لم نقل الأوحد, لا سيما بعد أن اجتاحت وسائط الإعلام, على اختلاف أنواعها و تقنياتها الحديثة, حياة كل فرد في مجتمعاتنا و باتت تنتشر في أغلب الدور على امتداد المعمورة.
و الإعلام, عدى عن دوره الإعلامي المتمثل في عملية نقل الأخبار و المعلومات و التسويق الإعلاني. هو أيضاً يُعد وسيطاً في عملية تواصل ذات قدرات تقنية ضخمة, يتم عبرها إيصال الرسائل على اختلاف أنواعها و أشكالها, و التي غالباً ما تتم باتجاه واحد, رغم وجود إمكانية التفاعل بين أطرافها, إلا أن هذا التفاعل يظل ضعيفاً نسبياً نظراً لهيمنة أحد أطراف العملية التواصلية (المُرسِل) على الآخر (المُتلقي), و ذلك لضخامة حجم و قدرات الأول و إمكانياته (المُرسل) مقارنةً مع ضآلة حجم و قدرات الأخير و إمكاناته (المُتلقي).
إذن, تُؤمن وسائط الإعلام شكلاً من عمليات الاتصال, عبر نقل أو تسويق أو نشر الرسائل الإعلامية, بين أطراف (مُرسلون و مُتلقون) قد تجمعهم علاقات اهتمامات مشتركة, أو قد تتنازعهم تباينات و توجهات مختلفة, فيلعب الإعلام دور الوسيط فيما بينهم, فيأتي إما ناقلاً مُحايداً للرسائل, إن كان وسيطاً مُعلناً فقط, إما مُروجاً مؤيداً إذا كان مملوكاً من قبل الجهة المُرسلة أو إذا كان هو نفسه المُنتج الفعلي لمحتوى هذه الرسائل, إما مبيناً مُفسراً لفحواها أو مُسهلاً لفهمها أو مُقرباً بين مُختلف رؤى أطرافها إن كان مُستقلاً نزيهاً و موضوعياً مُلتزماً بمعايير و بقوانين العمل الوساطي, و مُحترِماً لأخلاقيات العمل الإعلامي.
و بما أن الدور الوساطي الذي تُمثله وسائل الإعلام مُوزّعاً بين عمليات الإعلان و الإعلام و النشر , و أيضاً التواصل الذي غالباً ما يكون باتجاه واحد مع إمكانية تفاعل ضعيفة بين أطراف العملية التواصلية,و ذلك كما بيّنا أعلاه. و لأن في مجال العمل الإعلامي, هامش احترام المعايير التي تُعرّف الوساطة و دورها و تُحدد شروط حضورها الصحيح قد يُعتبر جداً ضيّق, هذا إذا لم نقُل أنه في حالات معينة قد يكون شبه معدوم, نظراً لوجود عدة عوامل لصيقة به ذات صلة بالطبيعة التأسيسية و الإنشائية لعمل هذه الوسائط و متعلقة بالهدف الأَوّل و الرئيس الذي تم إيجادها و تطويرها لأجله, و بما أن وجود هذه العوامل قد يحول دون تحقيق هذه الوسائط الإعلامية للشروط المطلوبة و الضرورية للعب دور الوسيط.
رأينا أنه قد يكون من المُفيد اختيار هذا الموضوع, أي دور الوساطة في المجال الإعلامي, لطرح الإشكالية التي عرضناها أعلاه, حتى نستطيع من خلالها تبيان الحدود التي قد تحول دون تمثيل أداة وساطية ما (كوسائل الإعلام) لدور الوسيط (بالشروط المُتعارف عليها أكاديمياً), ليتحول بذلك دورها, إما عبر الاختزال, إلى مجرد أداة توصيلية لا وساطية إذا ما انتفت شروط الاستقلالية عنها, إما عبر التضخم و الهيمنة, لتتجاوز بذلك دورها كوسيط لا سلطوي و لتفقد حقها في تمثيل دور العمل الوساطي, إما عبر التبعية فتصبح بعدها طرفاً مُروّجاً و مُسوقاً لهيمنة أحد طَرَفَي عملية الاتصال على الآخر.
و لتبيان هذه الإشكالية, رأينا أن نستهل طرحنا بتقديم بعض التعاريف الضرورية التي قد تساعد على فهم بعض المصطلحات المُستخدمة في مجالَي الإعلام و الوساطة, و ذلك لما قد يُحدثه هذا التقارب اللفظي بين هذه المصطلحات من اشتباه لدى المُتلقي, قد يؤدي به ربما إلى سوء فهم المعاني المرادة منها, فيحول دون إدراكه لمعانيها الوظيفية التي وُضِعَت لأجلها, مما قد يُشكل عائقاً أمام قدرته على تمييز بين وظيفة الوسيط (كطرف مُيسِّر مُستقل و محايد) و بين وظيفة الوسيط ( كطرف مُيَسِر مُسَوِّق أو مُرَوِّج), كما هو الحال مثلاً مع مصطلحي مدياسيون (Médiation) و مدياتيزاسيون (Médiatisation) في اللغة الفرنسية.
بعد تقديم التعاريف المُمَيِّزَة بين المصطلحات المتقاربة لفظياً, سنقوم بتقديم تعريف مُفصّل, لمفهوم الإعلام و دوره, و ذلك عبر التعريف بأنواعه و تعداد أشكالها , و تفصيل أهدافها, و تبيان شكل و أبعاد دور الإعلام الوظيفي و الحدود التي قد يقف عندها هذا الدور في تأديته لمهمة الوساطة (كما هو متعارف عليها أكاديمياً), مما قد يسمح للقارئ , بعد أن نكون قد قدمنا له ما يلزم من شروحات, بأن يُميّز الفرق بين الوسيط المُيسِّر و المُحايد و بين الوسيط المُيسِّر و المُسوِّق , لنترك له في نهاية هذا البحث قرار الاستنتاج بمفرده ما إذا كان الإعلام , كما قدمناه و عرّفناه , وسيطاً محايداً و غير تابعاً قادراً على تأدية دور الوساطة, أم أنه وسيطاً مهيمناً و سلطوياً و بالتالي فاقداً لأهلية تمثيل دور الوسيط الوساطي (و دائماً حسب المفهوم العلمي لهذا المصطلح).

II. تعريف المصطلحات

الوسيط الإعلامي Médias
« هو مُعدٌّ تقنيٌ يسمح للناس بتوصيل تعبيرات عن فكرةٍ ما, أياً يكن شكل و غاية هذه التعبيرات".1
من هذا التعريف ,الموجز و المكثف في آن للباحث الاجتماعي فرانسيس بال2, نستطيع أن نستنتج بأن الوسيط الإعلامي هو عبارة عن تقنية ما تسمح لمُستخدمها كطرفٍ أول (مُرسل) بتوصيل تعبيراته عن أفكاره و معتقداته , بشكلٍ غير مباشرٍ و بسهولةٍ يُتيحها له التطور التقني, إلى طرف آخر (عبارة عن مُتلقين) بعيدين عن الأول (المُرسل)جغرافياً أو زمنياً. فيتم توصيل هذه التعبيرات عبر قناة إرسال هي تجهيزات مُستخدمة من قِبلِ طرفَي الاتصال أي مُتاحة لكليهما ( التلفاز أو الإذاعة أو الشبكة الرقمية العنكبوتية,,إلخ) , و ذلك بهدف إيصال فكرة ما مُعبرٌ عنها بأي شكلٍ من أشكال التعابير المُمكنة و المُتعارف عليها بين أفراد المُجتمع الإنساني, و وفقاً لما يختاره الطرف المُرسل من دون ضرورة التحديد المُسبق أو إعلام الطرف الآخر (المتلقين) بالغاية النهائية المنشودة من إرسال هذه الرسالة, لأن محتواها غير خاص, و هي على الأغلب غير موّجهة إلى شخص بعينه كونها رسالة إعلامية, محتواها ذو طابع عام, و هي موجهة للعموم و متاحة لمن يود أو يستطيع الوصول إليها.
« الوسيلة الإعلامية أو الوسيط الإعلامي هو جهازٌ تقني يستخدم نظامَ تمثيلٍ ترميزي "3
« تتمَايّز الوسائط الإعلامية فيما بينها بحسب الأنظمة الترميزية أو أنظمة الإشارة التي يتم تقديم محتوى هذه الوسائط عبرها ".4
في التعريفين المقدمَين أعلاه, يتناول مؤلفو كتاب "ممارسات إعلامية" الجانب التكويني التقني للوسيلة الإعلامية, بحيث أنهم لا يهدفون من خلال هذا التعريف المتعمق إلى تعريفها بشكل عام بل إلى التعريف بأنواعها بشكل خاص. و هم ,على عكس الباحث بال الذي ارتكز في تقديمه لمصطلح ( Média) على تعريف عام يدلل من خلاله على الغاية من هذه الوسائل أو الهدف من استخدامها , يتوسعون في تعريفهم ليتطرقوا إلى البعد التقني المُكَوِن لكل وسيلة إعلامية بما يسمح بالتمييز بينها لاحقاً اعتماداً على خصائصها لا على غاياتها. و من هذا التعريف نستطيع أن نستنتج أن تقنية الترميز المعتمدة في عملية نقل الرسالة الإعلامية, أي طبيعة القناة التي تمر الرسالة عبرها, هي معيارٌ معتمد للتمييز بين الوسائل الإعلامية و لتفاضل واحدتهما على الأخرى.
فمثلا, النظام الترميزي أو نظام الإشارة المستخدم في تقنية الإذاعة ليس هو نفسه المستخدم في تقنية التلفاز. و النظام الترميزي المستخدم في تقنية التصوير ليس نفسه هو المُستخدم في تقنية الكتابة. و هكذا دواليك. فلكل وسيلة نظام إشارة أو نظام ترميز يميّزها عن الأخرى. و بحسب طبيعة هذا الأنظمة يمكننا أن نفاضل بين وسيلة إعلامية و أخرى اعتماداً على مدى التطور التقني للنظام الترميزي المُستخدم في تقنيتها و مدى تقدمه على غيره من أشباهه في سرعة نقل الرسالة الإعلامية و إيصالها بطريقة أوضح و شكل أمثل إلى المعني بها, أي المتلقي.
فما يُميز التلفاز عن الإذاعة هو قدرته على تمثيل الرسالة الإعلامية (الحدث أو الخبر أو المعلومة) في ذهن المتلقي بصورة أمثل, كونه ينقلها صوتاً و صورة, أي أنه في عملية نقله للمعلومة يحفز و يفعّل في جهاز المتلقي العصبي أكثر من حاسة بما يمكّن هذا الأخير من استيعابها و تمثيلها في ذاكرته بشكل أرسخ. و ما يُميز الإذاعة عن التلفاز هو أن تقنية الإذاعة متوفرة بشكل أسهل و أوسع في متناول المتلقي كونها أقل كلفة و أخف عبئًا في التنقل مما قد يمنح مستخدمها فرصة الوصول إلى الرسالة الإعلامية بشكل أسرع مما هي عليه الحال مع تقنية التلفزة. و هكذا دواليك مع كل وسيلة إعلامية و على هذا المنوال من المقارنة. نجد أن لكلِ واحدةٍ منها ما تتمايز به عن الأخرى انطلاقاً من معيار نظام الترميز الخاص بها و مدى اعتماد تقنيتها عليه.

الجمهور Le Public
« الجمهور هو عبارة عن مجموعة من الأفراد, ظاهرياً هم مستقلون و غير مرتبطين, و هم غير متعارفين و لا يرون بعضهم (على عكس حالة الجمهرة أو الحشد), غير أنهم يميلون , رغم الانفصال المكاني و التباعد فيما بينهم, إلى التفكير و التفاعل بنفس الطريقة, و ذلك لأنهم يتواجدون بصورة ثابتة في وسائل الإعلام التي تُعلم حواسَهم و تُخاطب معتقداتهم, بحسب منطق يستند إلى قوانين السوق أكثر منه إلى سياسية تحكّم مباشرة".5
في السطور المتقدمة أعلاه, يقدم لنا المفكر إيف سيتّون6 تعريفاً لمصطلح الجمهور. لنستنتج من هذا التعريف أن الجمهور برأي سيتون هو جمعٌ من الناس غير المتعارفين بالضرورة, و غير المتواجدين بالضرورة في مساحة زمنية أو مكانية واحدة, إلا أنهم رغم التباعد الجغرافي فيما بينهم, و ربما أيضاً الزماني, هم مترابطون بشكل ما, و ذلك بسبب استقطاب وسائل الإعلام لاهتماماتهم و انتباههم , و لأنهم مجتمعين يُشكّلون الكتلة البشرية التي يستهدفها محتوى الرسائل الإعلامية . و يُسهب سيتون في تعريفه للجمهور, ليتناول الجانب الإجتماعي لهذه الفئة , فيُرجع السبب في إطلاق مصطلح "الجمهور" عليها هو تشارك أفرادها بسلوك اجتماعي مُحدد شبه موحد يُميّزهم عن غيرهم من باقي الفئات الاجتماعية, و هذا السلوك المشترك يتجلى في طريقة التفكير المتشابهة و التفاعل المتماثل, و ذلك لأن حواس و إدراكات أفراد هذا الجمهور خاضعة لتحفيز واحد, أهدافه واحدة, و مصدره واحد هو الإعلام.
و المُلفت في هذا التعريف الذي قدّمه لنا سيتون. أنه ميّز بين الجمهور و الجمهرة أو الحشد (La Foule). و هذا التمييز مهم من منظور علم النفس الاجتماعي. حيثُ أن علم نفس الاجتماعي عرّف الحشد أو الجمهرة على أنها مجموعة من الأفراد المجتمعين في مكان واحد, و زمان واحد, و تربطهم أهداف واحدة و اهتمامات مشتركة و هو عكس حال الجمهور الذي هو , حسبما رأينا في الشرحِ المُقدّم أعلاه , غير متعارف بالضرورة و غير متواجد بالضرورة في مكان واحد. و بالرغم من أن الجمهور و الجمهرة يتشابهان من حيث أن أفراد كلا الحالتين تجمعهم اهتمامات واحدة و طرق تفكير متشابهة و تفاعل متماثل, إلا أن السلوك الاجتماعي و طرق التفكير و الشكل التفاعلي مع الحدث و نسبته لا تتطابق في كلا الحالتين. فلكل حالة من الحالتين (أي الجمهور و الجمهرة) صفات و سلوكيات تميز أفرادها عن أفراد المجموعة الأخرى.

الوساطة La Médiation
الوساطة بحسب التعريف الأكاديمي العلمي لها هي تدخّل طرف خارجي ثالث لحل نزاع أو لتسهيل تواصل بين طرفين أو أكثر.
و الوساطة كما تراها الباحثة والكاتبة ميشال غيّوم هوفنِنغ7 , تستفيد من تعريف مُحدّد, و بفضل هذا التعريف تستطيع أن تؤمن جدوَتها و استثنائيتها في أي مجال تتدخل فيه. وهذا التعريف برأيها مبني ارتكازاً على معيارَين اثنَين : أولاً العميلة الوساطية, و ثانياً الوسيط.8

ا) المعيار الأول : العملية الوساطية.
تؤكد الباحثة غيّوم هوفننغ على مصطلح "العملية" في تعريفها لنوع التدخل الوساطي و على ضرورة التمييز بينه و بين مصطلح " الإجراء". فبالنسبة لها الوساطة هي عبارة عن عملية تواصل أخلاقي. و هي تشبّهها مجازاً بعملية الولادة, حيث يلعب الوسيط فيها دور المُوّلد, و هذا المُوّلد هو عنصر أساسي فعّال و حيوي في عملية التوليد لكنه ليس أحد طرفَيها المعنِيَّين مباشرة بها و الذَين هما فعلياً الأم و الأب. فدَور الوسيط في هذه العملية يتمثل بتأمين الجو المناسب الذي يُعزّز لدى الأطراف الأخرى الشعور بالحرية و المسؤولية في خِضَمّ عمليةٍ وساطيةٍ سيتمخّض عنها في النهاية وليدٌ تسوَوي جديد هو اتفاقٌ ما أو إعادة لحمة تواصل ما كان موجوداً و قُطع بسبب الخلافات و تضارب وجهات النظر .
أما بالنسبة لتوصيفها للوساطة على أنها عملية تواصل أخلاقي. فهي تُرجع سبب هذا التوصيف إلى إشكالية عجز فئات المجتمع عن البلوغ بتخاطبهم إلى مستوى متماثل و متعادل من التواصل اللغوي و القدرة على التعبير. فبرأيها, أن مستويات التخاطب بين الناس في مجتمعاتنا ما زالت عاجزة عن الالتقاء و التفاهم حول عملية تواصل متناغمة و محترمة, و ذلك بسبب الحالة الهرمية التي يفرضها الواقع الاجتماعي و الذي ما زال, بالرغم من شيوع مفاهيم المساواة و العدالة الاجتماعية فيه, يعجُّ بفوارق طبقية تفرض خصائصها المتمايزة, و منها اللغوية, على أفراده.
لذا يُلاحظ أن في المجتمعات يوجد المتكلمون أو من يريدون التعبير عن أفكارهم, و يوجد فيها أيضاً من يدّعون الاستماع و الفهم أو يريدون ذلك. لكن فعلياً, لا الكلام المُرسل يبلغ مقاصده دائماً بشكل أمثل و ذلك بسبب تفاوت المستويات اللغوية بين فئات المتكلمين , و لا الكلام المُتلقّى يُفقه كله بسبب العجز عن إدراكه بشكل واضح, و ذلك أيضاً بسبب تفاوت المستويات الإدراكية بين فئات المستمعين.
و بالمحصلة يقع التواصل المحترم أغلب الأحيان ضحية عجز أطرافه عن بلوغ المقاصد منه. و من احتمالية الوقوع في هذا العجز, أو قصور أطراف التواصل عن البلوغ به إلى منتهى تُحفظ فيه حقوقهم في مساواة لغوية و إدراكية عادلة و كرامة متبادلة , تتكشّف أسباب أطلاق الصفة الأخلاقية على العملية الوساطية , إذ أن دورها (أي الوساطة) يأتي لردم هذه الهوة الثقافية المُحتملة بين المتواصلين, و أيضاً لتجنب وقوعهم في فخ الانجراف إلى مستوى أخلاقيٍ متدنٍ قد ينجم ربما عن سوء فهمٍ للمقاصد في عمليةٍ تواصليةٍ ما, أطرافُها ربما غير متماثلين ثقافياً, أو متجانسين اجتماعياً أو متماهين لغوياً.

ب) المعيار الثاني : الوسيط.
في شرحها للمعيار الثاني في سياق تعريفها للوساطة, تؤكد ميشال غيوم ــ هوفننغ على ضرورة توظيف مصطلحي "الشريك" و "الشراكة" عند الحديث عن دور الوسيط أو حين مقاربة مفهوم العملية الوساطية, و على ضرورة تجنب استخدام مصطلحي "طرف" أو "فريق" المتداولَين في الإجراءات القانونية, كون هذان المصطلحان ,أي "طرف" و "فريق", يدلّلان عادةً على حالات عدم الاتفاق و يعزّزان الانطباع بأن إمكانية التفاهم باتت مفقودة, بينما استخدام مصطلح "الشريك" يُعطي الانطباع بأن كل المعنين في العملية الوساطية هم شركاء متعاونون و مسؤولون عن حسن تقدم هذه العملية للبلوغ بها إلى الهدف المنشود منها, أي الاتفاق.
فالوسيط برأيها إذن هو شريك و ليس طرف. و عليه الاتّصاف بخصائص مُحدّدة من دونها لا يكون مؤهلاً للقيام بهكذا دور. و هذه الصفات هي كالتالي :

1. الصفة الأولي هي أن الوسيط طرف خارجي, و هذه الصفة هي ما تمنحه ميزة عدم الخضوع للظروف و الأوضاع السلبية نفسها التي يخضع لها باقي شركاء العملية الوساطية, فهو بهذه الصفة يجسّد دور نافذة التنفّس المفتوحة على خيارات إيجابية أخرى ممكنة في غرفةٍ مغلقةٍ و مشحونةٍ بالتوتر و الخلافات, بعد أن أفسدت أجواءها ضغوط النزاعات المستمرة و المكرّرة .
2. الصفة الثانية و هي مستمدة حكماً في مفهومها من الصفة الأولى (طرف خارجي) و متعلقة بها, و هذه الصفة هي أن الوسيط هو طرف شريك لكنه غير منحاز. و مفهوم عدم الإنحياز هنا متعلق بعلاقته العادلة مع باقي الشركاء من خلال النقاشات و الحوارات الدائرة أثناء عملية الوساطة. أي أن عليه أن يكون غير منحاز في تعاطفه مع الشركاء و أن لا يميّز أحداُ منهم, و أن يظل على مسافة واحدة من جميع الأطراف المعنيين بالعملية الوساطية.
3. الصفة الثالثة هي أن الوسيط طرفٌ مُستقل. و مفهوم الاستقلالية في هذا السياق يعني أن لا تربطه أي علاقة عمل أو تبعية مع أي طرف من شركاء العملية الوساطية, لأن تبعيته لأي طرف تنفي عنه صفة الحيادية و تجعله ممثلاً لطرف أو ناطقاً باسمه, و هذا ما قد يؤدي إلى إخراج العملية الوساطية من شكلها الثلاثي (طرَفَي نزاع و طرف ثالث خارجي ) و إلباسها الشكل الثنائي للعملية الأولى التي استوجبت التدخل الوساطي (طرَفَين في حالة نزاع أو في حالة سوء تواصل).
4. الصفة الرابعة : أن يكون مستقلاً, غير ممثلٍ أو تابع لأي جهة خارجية قد يُشكل تمثيله لها عامل ضغط على الأطراف الشركاء في العملية الوساطية. كأن يكون الوسيط مندوباً عن السلطة القضائية مثلاً.
5. الصفة الخامسة : الحيادية. و هي ليست نفسها صفة عدم الإنحياز, بل هي صفة متعلقة بموقف الوسيط من النتيجة النهائية التي ستصل إليها عملية الوساطة. فالوسيط هو طرف شريك لا يملك سلطة, أي أنه مجرد من أي سلطة ضاغطة أو نافذة قد تؤثر في عملية تشكّل الاتفاق , لأنه طرف مُيسِر و مُسهّل فقط من دون أي سلطة قانونية أو إجرائية يفرض حضورها نفوذاً ما على صيرورة النهائية للاتفاق المنتظر إبرامه . و هذا التجرد من السلطة هو ما يمنح العملية الوساطية قوتها و يؤهلها لكي تكون عملية إصلاحية أخلاقية منزهة عن الصفات الضاغطة التي تتسم بها عادةً العمليات الإجرائية .

III. الإعلام

Médiation أو Médiatisation
هذا القسم من ملف بحثنا يوصلنا إلى مسألة كنا قد أشرنا إليها سابقاً في المقدمة لكن بشكل موجز و هي إشكالية تضارب المعاني و خاصة في اللغة الفرنسية عند استخدامنا لمصطلحي (Médiation) و (Médiatisation). فعدى عن التشابه اللفظي بين هذين المصطلحين و و رغم أنّ كلمة (Médiatisation) تدلل كما شقيقتها (Médiation) على مفهوم الوساطة إلا أنهما تختلفان عن بعضهما البعض من ناحية آلية التطبيق للدور الوساطي و من ناحية المعايير التي تُقيّد وظيفة كلٍ منهما.
و إشكالية تضارب المعاني بين المصطلحين ناجمة في أصلها عن حقيقةِ اشتقاقِهِما معاً من مصدرٍ واحدٍ بعينه و هو (Media) صيغة الجمع اللاتينية لكلمة (Medium) اللاتينية و التي تعني الوسط أو الوسيط. هذا اللفظ اللاتيني اشتُقَ منه في العصر الحديث مصطلح (Médiation) للتدليل به على الوساطة كما عرّفناها و شرحناها في القسم السابق لهذا القسم, و اشتُقَ منه أيضاً مصطلح (Média) للتدليل به على التقنية المسخّرة في عمليات الاتصال المعلوماتية و البث الإعلامي. و مع هذين الاشتقاقين فقدت الكلمة اللاتينية (Media) معناها و استخدامها الأصلي التي وُضعت لأجله, و بتنا نجد القواميس الحديثة تفسّرها على أنها المرادف لوسيلة الإعلام في اللغة العربية. و مع أن اللفظ في أصله هو صيغة جمع, إلا أن الاستخدام الغربي الحديث له يُلحق به (s) الجمع حين يُراد الإشارة إلى أكثر من وسيلة إعلام واحدة
أما بالنسبة لمُفرد معنى اللفظ الأصلي (Medium), فهو ما زال مستخدماً حتى يومنا هذا للتدليل على معناه الحقيقي الذي وُضع لأجله و هو "الوسيط الروحي" أي الشخص الذي يتم عبره تأمين التواصل بين عالمين مختلفين , عالم الغيب و عالم الشهادة, أو عالم الأموات و عالم الأحياء. لذا يمكننا القول أن التوظيف الحديث لهذا اللفظ اللاتيني القديم لم يبتعد كثيراً في استخدامه عن معناه الأصلي في كِلا الاشتقاقين.
ففي الاشتقاق الأول (Médiation), وُظّف المعنى في عين الغاية منه, أي تدخّلُ وسيطٍ مُحايدٍ للوساطة بين طرفين اثنين ساء التواصل بينهما أو قُطع لسبب ما, فباتا في تواصلهما كأن كلاً منهما ينتمي إلى عالم يختلف في مفاهيمه و تصوراته عن عالم مفاهيم و تصوّرات الآخر مما استوجب تدخل طرف ثالث هو الوسيط بهدف تأمين أو إعادة لحم التواصل و الحوار الذي قُطع بينهما .
أما في الاشتقاق الثاني (Médiatisation ), فنجد أيضاً أن المعنى وُظّف في عين غايته, حيث أن وسائل الإعلام اليوم, و خاصة في عصر ما بعد العولمة و تطور الإنترنت, باتت تمثل الوسيط الرابط بين العوالم الثقافية المتنوعة و الحضارات الإنسانية المختلفة, فما كان يُعدُ سابقاً من عالم الغيب بالنسبة لسكان قسمٍ ما من كوكب الأرض بات اليوم, بفضل انتشار الأنترنت و تطور تقنيات البث الإعلامي, يُحسب و يُرى على أنه عالم شهادة و باتت معتقدات و ثقافات و اهتمامات سكان أي قسم من العالم معروفة و مُعاشة من قبل سكان الأقسام الأخرى من الكوكب بحيث أن أحداثها و وقائعها باتت قابلة للمتابعة لحظة بلحظة كأنها تحدث في حيّزهم المكاني عينه.
أيضاً, لم يعد هناك ما يمنع اتصال عالم الأحياء بعالم الأموات, إذ يكفي أن يُسجل أحدهم قبل موته مجموعةً ما من الرسائل, على شكل فيديوهات أو صوتيات, و يُبرمج مواقيت نشرها أو بثّها لتكون في وقت ما بعد رحيله عن الحياة, ليتحقق بذلك فوراً نوعاً من الاتصال غير المباشر بين عالم الأموات و عالم الأحياء و هذا كله بفضل التكنولوجيا. و لما لا؟ فكل شيئ بات ممكناً في عصر الوسيط الروحي التكنولوجي !!!

الإعلام (La Médiatisation) 
ما هو؟
"الإعلام (La Médiatisation ) هو وساطة, الوسيط فيها بالضرورة وسيلة إعلام. » , غيزلين إيزمارد.9
«الميديا (Média) و الميدياتيزاسيون (Médiatisation) هما مصطلحان يُشيران عادةً إلى أجهزة البث الكُبرى, و هما متعلقان بالتقنية الحديثة للمعلومات و الاتصالات و بما تُحدثه هذه الأخيرة من تحوّلات على مختلف مستويات عملية إدراك المعلومة : من وصولٍ إليها و فهمٍ لها و تفاعل معها ».10
من هذين التعرفين نستنتج أن الإعلام هو وجهٌ من أوجه التقنية الحديثة, و وظيفته هي تأدية نوعٍ من أنواع الوساطة,إلا أن هذه الوساطة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً من حيث نشوئها و عملها و ما هيّتها و استمراريتها بالتقدم العلمي و تطور التقنيات الحديثة. كما أن الوسيط فيها و على خلافه في حالة الوساطة التقليدية (La Médiation), لا يمثله حصراً حضور العامل الإنساني فقط ,إذ أن تأدية الوسيط الإعلامي لدوره الوساطي في العملية الإعلامية يستوجب بالضرورة وجود و استخدام مُعَدات و تجهيزات تقنية يستحيل تحقيق و إتمام أهداف العملية الإعلاميةمن دونها.
و نلاحظ في التعريف الثاني المستقطع من كتاب "ممارسات إعلامية"11, أن مؤلفي هذا الكتاب تناولوا في تعريفهم لمفهوم الإعلام الجانب النفسي لوظيفته و علاقة دوره و تأثيره على عملية تطور المفاهيم و التصورات في وعي الإنسان المعاصر , بحيث أنهم ربطوا بين تقنياته و تطورها و بين التحولات التي طرأت على عملية إدراك الإنسان للمعلومة و ما أحدثته هذه التقنية من تطوير و و تغيير و إعادة تشكيل لشبكة مدارك الإنسان العصبية.
فالإنسان في عصر العولمة.التي أوجدها و رسّخ حضورها هذا التطور التقني الهائل في مجالات الاتصالات و نقل المعلومة, ليس نفسه في عصر ما قيل العولمة, فسلوكه بعد هذا الاختراع تطور بشكل سريع و ملحوظ و هو بات يختلف كثيراً عن أسلافه من العصور الماضية و من نواحٍ كثيرة, أهمها : أساليب عيشه و تفاعله الإنساني و طرق تفكيره, و أيضاً تطور وعيه أو جموده أو ضموره ربما !!! و مستويات سلوكياته الإستهلاكية و الثقافية و الأخلاقية إن كان ارتقاءً أو انحداراً !!!
و في رحلة استكشافنا لمفهوم الإعلام, و في سعي بحثنا لإيجاد تعريفٍ أمثلٍ له, نجد أن هناك مِن الباحثين, هربيرت مارشال ماك لوهان على سبيل المثال,12 مَن قارب هذا المفهوم مِن منظورٍ انتروبولوجي رابطاً بين هذا الاختراع الحداثي و بين طبيعة الفطرة الإنسانية الساعية دائماً خلف تطويع بيئتها و محيطها عبر تطوير و تعزيز حضورها الإنساني فيه و ترسيخ هيمنتها عليه , و ذلك من خلال حلقة الابتكارات و الاختراعات المستمرة أبداً, و الناتجة عن هذا التوق الإنساني العريق لاستكشاف و فهم و إخضاع و تفكيك و إعادة تركيب و بناء كلَ ما هو خارج نطاق مجال الهيمنة الإنسانية و سطوتها.
فالباحث ماك لوهان يشرح لنا مفهوم الوسيط الإعلامي كالآتي: «  كل وسيط إعلامي هو تمدّد لمقدرة إنسانية ما فيزيولوجية أو نفسية. فالعجلة هي تمدّد للقَدَم, و الكتاب هو تمدّد للعين" 13 و يتوسع ماك لوهان في شرح وجهة نظره ليُضيف : «الوسيط الإعلامي يدلّل على التمدّد التقني لنظام الإنسان الإدراكي بشكل خاص و لجسمه بشكل عام"14.
نستنتج من تقديم ماك لوهان لمصطلح الوسيط الإعلامي, على أن هذا الأخير هو جزء من مجموعة ابتكارات و اختراعات, أوجدها و طوّرها الإنسان لغاية أساسية , هي تطوير وظائف قدراته الفزيولوجية الحسية, التي بها و عبرها يتم و يتحقق تواصله مع محيطه, و الذي لا يمكن تطويعه و إخضاعه بشكل أمثل ليخدم طموح الإنسان بالهيمنة عليه و أستمرارية بقائه فيه, إلا عبر تحسين وتطوير شروط التواصل معه. و تحسين شروط التواصل مع المحيط لا يمكن أن يتحقق بالشكل الأمثل اعتماداً فقط على قدرات الإنسان الفيزيولوجية البدائية. و هذا ما استدعى و حتّم عمل الإنسان على تطوير هذه القدرات عبر إمدادها بملحقات صناعية هي نتاج اختراعات ميكانيكية و تقنية, مكّنته من تحسين أداء وظائفه الحسية , و عبّدت له الطريق في رحلة استكشافه لما حوله و ما هو خارج نطاق سيطرته المباشرة, فسهّلت عليه أمر بلوغ ما لم يستطع بلوغه سابقاً من دونها .
هكذا و وفقاً لهذه الرؤية, نرى أن الإعلام بشكله الحالي و بما هو قائم عليه الآن, ما هو إلا المرحلة الأخيرة, و ليس بالضرورة النهائية. لعملية تطوير مستمرة للامتدادات الصناعية التي أوجدها الإنسان تطويراً و تعزيزاً منه لوظائفه الحسية الفيزيولوجية التي لطالما خدمته في عملية تطوّره و تواصله و نقله للمعلومة في مجتمعاته البدائية, وصولاً حتى مرحلة زمنية ما من مراحل تطوره الحضاري, حين اكتشف أنها باتت عاجزة عن تلبية طموحاته و حاجاته و سعيه خلف الاستكشاف و التقدم و التحضر و الارتقاء , فكان لا بد له من تحسين شروط عملها بتطويرها صناعياً لتخدم تطلعاته و أهدافه الوجودية.
و عند هذه النقطة من رحلة استكشافنا الانتروبولوجية لماهية الإعلام لا يسعنا إلا أن نطرح السؤال البديهي التالي (و لو على سبيل الترفيه)  : ما كانت أول وسيلة إعلامية استخدمها الإنسان العاقل الأول في عصر ما قبل الاختراعات؟ و نعتقد أن جواب هذا السؤال أيضاً بديهي و لا يحتاج ربما حتى إلى التذكير به , أنه اللسان, ( و ما أدراك ما اللسان).

الإعلام كوسيلة اتصال و تواصل
"الاتصال هو إقامة علاقة مع شخص أو مع مجموعة من الأشخاص بهدف نقل رسالة له أو لهم. المُرسل يستطيع الاتصال بمتلقٍ واحد, و هذا ما نطلق عليه مسمى الاتصال الشخصي أو بين الأشخاص. و عندما يكون الاتصال بين مُرسل و مجموعة من الأشخاص, نتحدث حينها عن اتصال المجموعة أو الاتصال الكمي. لكن حتى لو كان عدد المُتلقين في كِلا الحالتين كبيراً, إلا أن علينا التمييز بين اتصال المجموعة و الاتصال الكمي. لأن الفارق الأول الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في عملية التمييز هذه هو حجم و عديد المتلقين, ففي حالة اتصال المجموعة تعداد المتلقين يكون بسيطاً و أقل كثافة منه في حالة الاتصال الكمي. و ما علينا أيضاً تذكّره في عملية تمييزنا للحالتين, هو أن الاتصال الكمي يتوجه عادةً إلى كل المُتلقين المُتاحين, بينما اتصال المجموعة يتوجه فقط إلى فئة مستهدفة بعينها, بحيث أن خيار تشكيل أفرادها يبنى ارتكازاً إما على خبراتهم أو على ثقافتهم أو على توقعاتهم أو على احتياجاتهم. و باختصار, اتصال المجموعة هو اتصال كمي موجّه بشكل أدق" 15
التعريف المطروح أعلاه يعطينا تصوراً مبدئياً عن أنواع التواصل" الجماعي" و التي ستمكننا لاحقاً, اعتماداً على خصائصها, من التميز أيضاً بين أنواع وسائل الأعلام المُتاحة باعتبار أن هذه الأخيرة واحدة من أدوات الاتصال أو بتعبير آخر أحد أنواع " القنوات التوصيلية", و ذلك انطلاقاً من تطبيق معيارين اثنين : أولاً, حجم و تعداد المتلقين المتوجه إليهم بالرسالة الإعلامية, و ثانياً, الهدف أو الغاية النهائية المنشودة من توجيه هذه الرسالة . أي أننا سنعتمد في عملية تعريف أنواع وسائل الإعلام على ركنين اثنين فقط من أصل ستة أركان أساسية في أي عملية الاتصال. هي : المرسل, المتلقي, القناة التوصيلية, محتوى الرسالة, شكل الرسالة,, و الهدف من الرسالة.16
قبل البدء بتفصيل أنواع وسائل الإعلام و تمييزها بحسب خصائص اثنين من إركان تحقق شروط عملها التواصلي, لا بد لنا أولاً من العودة إلى مسألة تعريف أنواع الاتصال الاجتماعي و تحديداً " الاتصال الكمي" و " اتصال المجموعة" لنتناول مسألة تصنيفهما لكن هذه المرة من منظور علم النفس الاجتماعي. فنحن حين نتطرق إلى مسألة التمييز بينهما اعتماداً على معيار الفارق العددي الذي ميّزنا به واحدهما عن الآخر, نكون تلقائياً بصدد الحديث عن أحد أركان العملية التواصلية الذي هو "المُتلقي" .
و المُتلقي كما بيّنا أعلاه يكون إما فرداً كما في حالة الاتصال الشخصي, إما أكثر كما في حالة الاتصال الجماعي, و من قياس حجم تعدداه في هذه الحالة يتشعب الاتصال الجماعي ليكون إما اتصال بمجموعة عندما يتجاوز عدد المتواصلين الثلاثة أشخاص و هنا يمكننا الحديث من منظور علم النفس الاجتماعي عن الجمهرة أو الحشد, و إما اتصالاً كمي حين يتخطى عدد المتلقين رقماً يستحيل إحصاءه بدقةٍ بسبب انتشار أفراده في أكثر من مكان.و في هذه الحالة يمكننا تصنيف المتلقين على أنهم جمهور. و نحن رأينا سابقاً في القسم الذي تناولنا فيه مسألة تعريف الجمهور. كيف أن علم النفس الاجتماعي ميّز بين حالتي الجمهور و الجمهرة اعتماداً على الفارق السلوكي و التفاعلي بين أفراد كلا المجموعتين.
و ما يعنينا هنا في مسألة التمييز بين أنواع الاتصال الجماعي و تصنيف نوعيه" الاتصال الكمي" و "اتصال المجموعة" على أنهما المكافئَين من منظور علم النفس الاجتماعي لحالتي "الجمهور" و "الجمهرة" , هو التطرق إلى خصائص كلٍ منهما , حتى نستطيع استكمال عملية التمييز بين الجمهور و الجمهرة , و لكن هذه المرة من منظور علم نقل المعلومة و الاتصالات. فالاتصال بالمجموعة و الاتصال الكمي كما في حالتي الجمهرة و الجمهور يتشابهان في عدة خصائص سمحت بجمعهما في تصنيف واحد هو الاتصال الجماعي إلا أنهما لا يلبثا أن يفترقا و ينفصلا بعد هذا التصنيف الموحِد بينهما ليتفرعا إلى نوعين جديدين من أنواع الاتصالات و ذلك بسبب ثلاث خواص سمحت بتمييز واحدهما عن الآخر.

الخاصية الأولى, هي مسألة تعداد المُتلقين و نحن كنا قد تناولنا هذه الخاصية سابقاً بشكل مفصّل لذا لن نذكرها هنا إلا عرضاً, فقط للتذكير بها من دون الحاجة إلى الخوض في تفصيلها مجدداً.
الخاصية الثانية, هي إمكانية التفاعل بين المُرسل و المتلقي. فنجد أن التواصل داخل المجموعة, على عكس الاتصال الكمي, يتيح هذه الخاصية لأن نوعه البنيوي , و أيضاً على عكس الاتصال الكمي , يسمح بوجود هكذا خاصية كون مجموع المتلقين و المُرسل أو مجموع المُرسلين عادةً ما يتواجدون في مساحة مكانية واحدة, و هذا ما يتيح إمكانية تفعيل خاصية التفاعل أو (FeedBack)و إن لم يكن بالضرورة بشكل تلقائي. إذ أن أمر تفعيله تلقائياً أو رفع نسبته و خفضها يعتمد بشكل مباشر على القواعد المنظمة لسلوك أدوار الأفراد داخل المجموعة التي يتم فيها تواصلهم. و هذه القواعد غالباً ما تختلف من مجموعة إلى أخرى . و أقرب مثال ممكن أن يعطى على هذا النوع من التواصل هو اجتماعات مدراء الأقسام و حلقات التدريس و المحاضرات , و أيضاً لكن نسبةٍ ما غير كافية الإعلام المُوجّه الذي يتيح لجمهوره فرصة التفاعل معه عبر الاتصالات الهاتفية أو المراسلات الرقمية.
الخاصية الثالثة , هو محتوى الرسالة التواصلية و الهدف النهائي المنشود منها. إذ أنه كما بيّنا سابقاً في فقرة تعريف الاتصال, أن "تواصل المجموعة" يتوجه عادةً إلى فئة مستهدفة بعينها, يُنتقى أفرادها اعتماداً على اشتراكهم بصفة أو صفات معينة أو اجتماعهم على هدف أو تطلعات أو توقعات مشتركة, و هو كما ذكرنا سابقاً يعتبر نوعاً من الاتصال الكمي لكنه موجّه بشكل أدق. و هذه الدقة في التوجيه تعتمد بشكل رئيس كمعيار لها على العناصر المساهمة في تكوين محتوى الرسالة التواصلية. و عادةً هذا المعيار المعتمد في عملية تشكيل محتوى الرسالة يُبنى  : أولاً, على هدف المُرسل من الرسالة و توقعاته من عملية إرسالها و إلى من يوجّهها و ثانياً, على الاهتمامات المشتركة لمجموع متلقيها و توقعاتهم منها . و أقرب مثال يقرب فهم هذا النوع من التواصل هو العمل الإعلاني, حيث أن المُرسل في الرسالة الإعلانية, يبني محتوى رسالته انطلاقاً من أهداف مسبقة هي : تطلعاته و توقعاته من الرسالة, و يعتمد في ذلك على عناصر مُحَددة هي : اهتمامات و ثقافة المتلقين للرسالة, فرضيات تفاعل المتلقين مع شكلها و محتواها, و احتمالات ردود أفعالهم عليها إن كان سلباً أم إيجاباً .
أنواع الوسائط الإعلامية
إذن, و استنتاجاً مما تقدم, يمكننا القول أن الإعلام عدى عن أنه وسيلة تقنية مُستخدمة وساطياً في عمليات نقل المعلومة و نشرها, هو أيضاً يعتبر وسيلة اتصال من حيث أن تقنيته تُعدُ نوعاً من أنواع القنوات التوصيلية المتنوعة المُتاحة و المستخدمة في مختلف عمليات الاتصال , كالاتصال عبر تقنيات الهواتف الثابتة و الجوّالة, و الاتصال التراسلي بفرعيه القديم البريدي و الحديث الرقمي, و التلغراف و الفاكس إلى آخره من هذه التقنيات التي تُشكل مجتمعة ما يُسمى في علم الاتصالات بالقنوات التوصيلية.
إلا أن ما يميّز وسائل الإعلام عن مثيلاتها من قنوات توصيلية, هو قدرتها على الوصول بسهولة إلى أعداد ضخمة من المتلقين غير القابلين للحصر بدقة, و التوجّه إليهم برسالة موحدة يتم نقلها إليهم جميعاً في نفس الوقت , و عدم قدرة المتلقي على التفاعل مع رسالتها و التحكم بها بشكل متكافئ أو متقارب نسبياً مع قدرة مرسلها. و من هذا الفارق بينها و بين مثيلاتها تبرز أهمية وسائل الإعلام و تأثير دورها على الوعي الجمعي و عبره على الجانب اللا واعي منه, و ذلك لما لوسائل الإعلام من قدرة على اللعب على التفاعلات النفسية في ضمائر جمهور المتلقين عن طريق محتوى رسائلها , و قدرةٍ على صوغ هذا المحتوى بأشكال رمزية مختلفة و بقوالب فنية متنوعة خاضعة كلها و حصراً لتحكم مرسلها, و بالتالي من إمكانية تحكم هذه الوسائل في مختلف أشكال تفاعلات الجمهور السلوكية, الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية… إلخ, و إعادة صياغتها و تشكيلها وفق أهدافها و استراتيجيات المرسل حصراً.
و بما أن الإعلام يُعتبر وسيلة اتصال فلا بد لنا في عملية تفصيل أنواعه و التعريف بها من أن نعتمد معايير ترتكز في بنائها على خصائصٍ مشتقةٌ تصنيفاتُها من علم الاتصالات, و من هذه المعايير معيار نوعية أو شكل التواصل المتحقِق عبر عملية الاتصال. لنستطيع بواسطة هذا المعيار تحديد ما إذا كانت عملية الاتصال المعنيين في توصيفها تحقق شروط التواصل المتعدد الأطراف, أم أنها تصنف تحت خانة التواصل الآحادي الطرف. ففي علم الاتصالات كل تواصل لا يتمكن فيه المُتلقي من التفاعل مع المُرسل عبر حلقة تبادل الأدوار, أي أن يتشاركوا في تمثيل أدوار المُرسل و المتلقي , كلٌ بدوره ضمن حلقة الفعل و رد الفعل, يُعتبر تواصلاً آحادي الطرف, حيث أن المُرسل فيه دائماً في حالة إرسال و المتلقي فيه دائماً في حالة تلقٍ, من دون أي إمكانية لأن يصبح المرسلُ متلقياً أو المتلقي مرسلاً.
و أقرب مثال على هذا النوع من التواصل الآحادي الطرف هو وسائل الإعلام التقليدية و الأعرق في مجالها, كالإذاعة و التلفاز و الصحافة على أنواعها بشقَيها الورقي و الرقمي. إذ أن التفاعل التواصلي في حالة هذه الوسائل يُعتبر شبه معدوم, و حتى و إن حصل و وُجد, عبر إتاحة هذه الوسائل لجمهورها فرصة التفاعل معها, إن كان عبر الاتصالات الهاتفية أو الإستصراحات المباشرة, أو عبر التراسلات البريدية الرقمية أو الورقية, أو عبر الحضور المباشر لعدد ضئيل من جمهورها في استوديوهات تسجيل برامجها, فأن نسبة التفاعل الضئيلة و غير العادلة لهذا الجمهور مقارنةً مع حجمه الفعلي و الموزّع على أكثر من مكان , لا تسمح بإخراج تواصل هذا النوع من الوسائل الإعلامية من خانة تصنيف التواصل الآحادي الطرف.
أما بالنسبة للتواصل المتعدد الأطراف, و بعد أن عرّفنا التواصل الآحادي الطرف, بات من السهل الاستنتاج بأنه على الأرجح نقيض النوع الأول. بنسبةٍ ما يمكننا اعتباره كذلك !!. ففي التواصل المتعدد الأطراف إمكانية التفاعل المتداوَر دائماً متاحة. لأن المرسل و المتلقي فيه يتبادلون الأدوار فيما بينهم من دون أي حصرية مهيمنة أو احتكار لدور المُرسل , و حتى و إن صودف و وُجد فيه احتكارٌ من هذا القبيل, فإن إمكانية تنظيم التفاعل و إعادة تفعيل المداورة دائماً متاحتَين, لأن بنية القناة التوصيلية المستخدمة في هذا النوع من التواصل تسمح بذلك. و المثال الأقرب على هذا النوع من التواصل تمثله بامتياز و من دون منافس مواقع التواصل الاجتماعي, لا سيما تلك التي تسمح بنيويتها التقنية و الرقمية بالمزاوجة بين وظيفتي التواصل التفاعلي و النقل المعلوماتي, كحال التطبيقَين الرقميّيَن الأشهر "كتاب الوجوه" (Facebook) و "المُغرد" (Twitter).

بعد أن بيّنا و صنّفنا أنواع الوسائل الإعلامية من منظور علم الاتصالات, و وفق معيارٍ اعتمدنا فيه على خاصية وجود التفاعل أو عدمه , سنعمد إلى تصنيفها مرةً أخرى , لكن هذه المرة من منظور تقني, معتمدين في ذلك كمعيار نوع و حجم التقنية المكونة لبنيتها, لما لنوع التقنية و مدى تطوّرها من دور و أثر مهم في عملية إيصال و نشر المعلومة. . فمن مراقبتنا لوسائل الإعلام الموجودة في وقتنا الحالي, أو التي ما زالت المستخدمة إلى حد ما في عصرنا, نجد أنها متنوعة و متوزعة , وفق معيار نوع و حجم التقنية , بين وسائل بسيطة أو معقدة, و بين وسائل مستقلة أو غير مستقلة (أي أن تكون مرتبطة بالضرورة بتقنية أخرى تعتمد عليها في إتمام وظيفتها).

الوسائل الإعلامية البسيطة (وهي غالباً ما تكون مستقلة), يندرج في خانتها كل ما له علاقة بالإعلام المطبوع أو المكتوب و المنشور أو الموزّع ورقياً, كالكتب و المجلات و الكتيبات الثقافية, و المنشورات الدعائية إلى آخره من هذه الأنواع. و أيضاً يندرج في هذه الخانة كل ما له علاقة بالإعلانات الترويجية أو التجارية كالتي تُعرض عادةً على اللوحات الإعلانية الكبرى أو كالتي تُطبع بشكل مصغّر على مختلف أصناف المصنوعات و الحرفيات كالملبوسات و اللوازم مكتبية, و الكماليات الدعائية (les accessoires) و أكياس التسوّق….إلخ من هذه الأصناف.
الوسائل الإعلامية المعقدة, و هي تنقسم إلى نوعان, نوع مستقل تقنياً و أخر مرتبط بالضرورة بتقنية أخرى :
بالنسبة للنوع الأول أي الوسائل الإعلامية المعقدة المستقلة , فيمكننا إدراج في هذه الخانة كل ما له علاقة بتقنيات التسجيل الصوتي و المرئي و أجهزة عرضها كالأجهزة الإلكترونية القارئة للأشرطة الممغنطة و للأقراص المدمجة بشقيها الصوتي و المرئي. و أيضاً يمكننا أن نضيف إلى هذه الفئة تقنية العرض السينمائي كونها تُعتبر من التقنيات المعقدة و هي من فئة التسجيلات الصوتية المرئية و لا تعتمد في أدائها على تقنية معقدة أخرى .
أما الوسائل الإعلامية المعقدة غير المستقلة تقنياً (أو المرتبطة), فهي تضم كل الوسائل الإعلامية المرتبطة بتقنيات البث الأرضي أو البث عبر الأقمار الاصطناعية, كحال قنوات التلفزة و الإذاعة, و أيضاً ينضم إلى هاذين النوعين من وسائل الإعلام كل ما له علاقة بتقنية الاتصالات الرقمية كالمواقع الإعلامية و الثقافية و التجارية المنتشرة على الشبكة الرقمية العنكبوتية (الإنترنت ) , و مجموع التطبيقات الترفيهية أو التثقيفية أو الاجتماعية التي يستلزم تشغيلها بالضرورة اتصالاً دائماً بالشبكة الرقمية كمواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال.

الإعلام و معايير الوساطة
في هذا القسم الأخير من بحثنا سنتناول مسألة احترام أو عدم احترام الإعلام لمعايير الوساطة كما قدّمنا لها و عرّفناها في القسم المخصص لها من هذا البحث.17 و ذلك عبر مقارنة خصائص وسائل الإعلام التواصلية و تأثيرات احتكارها الشبه الدائم لدور المرسل في العملية التواصلية و هيمنتها كمرسل فائق القدرات تقنياً على قُدرات المتلقي أو المتلقين , و ما لذلك من تأثيرات و تبعات قد تؤدي إلى نَفي صفة الوسيط عنها (بحسب مفهوم الوساطة كما هو متعارف عليه أكاديمياً) و ذلك بسبب عدم استطاعة هذه الوسائل تحقيق شروط هذا النوع من الوساطة لأسباب عدة سنأتي على تفصيلها تباعاً في ما يلي.
للوصول إلى واقع إثبات أو نفي هذه الإشكالية التي دلّلنا عليها أعلاه, سنتخذ المقارنة إلى ذلك سبيلاً, معتمدين معيار المقارنة بين صفات دور الوسيط في المجال الإعلامي و صفاته في المجال الوساطي, لنستعرض عبر هذا المسار نقاط تقاطع و افتراق الوسيطَين المذكورَين أي وسيط العملية الوساطية و وسيط العملية الإعلامية, حتى نتمكن عبر هذه المقارنة من استخلاص و عرض الأسباب التي قادتنا إلى طرح وجهة النظر هذه.
كما رأينا عبر مسار بحثنا و خاصة في فصل تعريف العمل الوساطي, فإن للوسيط صفات محددة لا بد من احترامها و تحققها جميعها به حتى يتمكن من تأدية دوره بنجاح و إتمام مهمته الوساطية بشكل أمثل وصولاً بها إلى هدفها النهائي الذي تتفرع منه عادةً غايتين اثنتين : إما حل نزاع بين طرفين متنازعين, إما إعادة لحم تواصل مقطوع بين طرفين متنافرين. فهل الوسيط الإعلامي بهذا المعنى يُعتبرُ مؤمناً لشروط هذه الصفات و قادراً بالتالي على تأدية دور الوسيط الوساطي من دون مخاطر الوقوع في الأفخاخ التي تفرضها عليه حدود طبيعته التقنية و قيود واقعه الثقافي و السياسي و ظروف نشأته التأسيسية؟ لنقارن و نرَى.

الصفة الأولى التي يجب أن يتحلى بها وسيط العمل الوساطي, هو أن يمثل من خلال عمله الوساطي دور الطرف الثالث الخارجي, أي أن يكون غير معني بالخلاف أو النزاع القائم و الحاصل بين باقي الأطراف, فهل هذا هو حال وسائل إعلام اليوم في عصر العولمة؟ و هي الموجودة في خضّم جو التوتر الناجم عن الصراعات و النزاعات القائمة , و المنتمية بهويتها الثقافية إلى نفس البيئة التي تنتج الحدث بتفرعاته السلبية و الإيجابية, و المولودة من رحم واقع التنافس الاقتصادي و التنازع السياسي و الصراع العقائدي المنتجين الأساسيين, دائماً و أبداً, لكل أشكال الإنقسمات و الإصتفافات الحاصلة في عالمنا , تلك التي توسعت رقعتها مع عصر العولمة, و بات تضم إلى جبهاتها كل فرد من أفراد المجتمع المتحضر, أياً تكن جنسية هذا الفرد , وعى أمر اصطفافه (الحاصل لا محالة و لو بنسبةٍ ما) أم لم يعِه؟

الصفة الثانية للوسيط الوساطي هي الحيادية. فكيف هو حال وسائل إعلام اليوم مع الحيادية؟ خاصة بعد أن تطرقنا إلى ما تطرقنا إليه و عرضناه في الفقرة السابقة التي تناولنا فيها مسألة الصفة الوسيط الأولى. فالحيادية كمفهوم وساطي تقابل مفهوم الموضوعية في العمل الإعلامي. فهل إعلام عصر الحروب و الصراعات الكبرى المزمنة , و التي باتت تشمل كل البلدان, و تقسم العالم إلى قسمين متواجهين, هو إعلامٌ قادرٌ على ممارسة الموضوعية في أدائه من دون أن تناله سهام التخوين أو اتهامات التموضع في جبهة الخصوم, أو أن يمارس موضوعيته بتجرد و من دون إظهار تعاطفه مع القضية التي يتبناها و الجهر بانتمائه السياسي المتحكم بالضرورة بمحتوى رسالته الإعلامية المتوَجِّه بها إلى جمهوره, أو ممارسة النقد الشفاف مع كل الأطراف المتنازعة من دون أي حرج أو مخافة من تأثير و ارتدادات هذا النقد على استمرارية وجوده و عمل مؤسساته, خاصة إذا طاول هذا النقد و استحقه طرفاً مموِّلاً له أو تربطه به علاقة عمل أو تبعية أو نوع ما من أنواع الاعتماد (كالاعتماد التقني على سبيل المثال ) ؟

الصفة الثالثة للوسيط في العمل الوساطي هي الاستقلالية.( و عن الإستقلالية في العمل الإعلامي حدِّث و لا حرج !!!) حين نتحدث عن الإستقلالية في العمل الإعلامي, لا نجد لنا مفراً من تناول مسألة التمويل و النشأة. و السؤال عن الجهة المموِلة لأي مؤسسة إعلامية, و الانتماء السياسي لهذه الجهة المموِلة, و المجال الاقتصادي الذي تستثمر فيه هذه الجهة أموالها, و مصالحها, و علاقاتها, و انتماءات الجهات التي ترتبط معهم في علاقات شخصية أو عقائدية أو تجارية أو سياسية , و أهدفها من العمل الإعلامي, و لماذا اختارت أن تستثمر في هذا المجال, و لأي غايات اقتصادية أو سياسية أو عقائدية ممكنة أو محتملة؟ كل هذه الأسئلة تقودنا إلى استنتاجٍ واحدٍ لا نقيض له و هو برأينا : عدى عن قلة قليلة (ربما) من القنوات الإعلامية المحلية التي يكاد لا يكون لها وزن أو حضور جماهيري مهم , و التي لا تتناول برامجها الشأن العام بل مقتصرةٌ مواضيعها على أمور لا تهم إلا فئات محددة من كتلة الجمهور الضخمة (كقنوات الطهي و الموسيقى و الصيد...إلخ) , فإن أي وسيلة إعلامية ذات حضور قوي موجودة اليوم في عالمنا المنقسم و هي تتناول في برامجها قضايا الشأن العام لا يمكنها أبداً أن تتصف بالاستقلالية أو أن تدّعيها (و هذا رأينا).

الصفة الرابعة للوسيط الوساطي : أن لا يكون تابعاً لأي جهة خارجية. الحديث عن اللا تبعية في المجال الإعلامي سيقودنا حتماً إلى تناوله من منظور سياسي, و هذا ما نحاول تفاديه منذ البداية لأن المفروض أن هذا البحث هو بحثٌ ذو طابعٍ أكاديمي, و الدخول به في الشأن السياسي قد يحرفه عن مسار الموضوعية الواجبة حتماً في أي عمل أكاديمي. لكن بما أن لا مفر لنا إلا التطرق إلى مسألة اللا تبعية كونها تعتبر من الصفات الأساسية في العمل الوساطي, سنحاول أن نتناولها على قدر ما أمكننا من موضوعية حتى لو اضطرّنا الحديث عنها إلى انجراف بكلامنا و الانزلاق به إلى متاهات الواقع السياسي.
الانقسام السياسي و الأيديولوجي في عالمنا اليوم بات أمراً جلياً و واضحاً لكل فرد منا. و بات من المعروف أيضاً أن عالم اليوم هو عالم منقسم إلى عدة محاور (إلى اثنين على الأقل حتى الآن). و هذه المحاور هي محاور متصارعة سياسياً و عقائدياً, و متنافسة إقتصادياً, و في حالة تقاتل دائم, و حروبها اليوم باتت ممتدة زمنياً و منتشرة دولياً و متنقلة جغرافياً من رقعة إلى أخرى, و ذلك بحسب ما تقتضيه مستويات موازين القوى على أنواعها و تفاوتها بين محور و آخر , و ظروف أو وقائع انتصارات و انهزامات هذه المحاور في تصارعها.
و بما أن الصراع في عصرنا الحالي لم يعد ذا صبغةٍ محلية فقط, أو إقليمية فقط, بل أصبح دولياً إن لم نقل عالمياً, و بما أن الدول في هكذا نوع من الصراعات تتصنف حكماً ما بين دول قوية و دولٍ ضعيفة, فلا بد للتبعية إذن ( في هكذا واقع حال) من أن تجد لها حيزاً و دوراً في هذا الصراع العالمي الدائرة رحاه اليوم, و حتى لو اتخذ حضورها أحياناً أشكالاً مموّهة لا تشبهها أو نُفيت علانيةً من قِبل الدول التابعة , و حتى من قِبل الدول المتبوعة, فأن أثارها الواضحة لا تنفك ظاهرة و ملحوظة و لا تُخفى على لبيب بشرط أن يكون هذا اللبيب ناقداً لها في محور انتمائه أولاً قبل أن يكون ناقداً لها في محاور انتماءات الآخرين.
أيضا, في هكذا نوع من الصراعات الحادة و المعقدة و المنتشرة تقريباً على كامل المساحة الكوكبية بقاراتها و بحارها و فضائها, غالباً ما يأخذ الصراع عادةً أشكالاً مختلفة فيتنوّع شكله بحسب قدرات كل طرف و مدى استطاعته النفاذ إلى منطقة الخصم, فنراه أحياناً يأخذ الشكل القتالي ,كالحروب القائمة اليوم في أكثر من دولة, و أحياناً أخرى الشكل الثقافي حين لا تمتلك الأطراف المتصارعة أمكانية السيطرة المباشرة على جبهة الخصم بإخضاعها سياسياً أو عسكرياً, و أحياناً أخرى ( و يمكننا القول غالباً) يأخذ الصراع الشكل الاقتصادي و هو برأينا الوجه الحقيقي لأي صراع دائر الآن , و دار في ما مضى, أو سيدور في الغد حتماً و بالتأكيد.
و بما أن للصراع أوجه عدة كما بيّنا في الفقرة السابقة أعلاه, فلا بد للتبعية إذن من أن تتموّه لتأخذ سمات الوجه الحاضر به شكل الصراع في جبهات الخصوم. فإن كان شكله قتالياً رأيناها اتخذت الشكل القتالي أيضاً, و إن كان وجهه اقتصادياً رأينا التبعية أيضاً تتجلى فيه اقتصادياً, و إن أخذ الصراع شكلاً ثقافياً رأيناها حاضرة لا محالة عبر المؤسسات المروجة للعناصر الثقافية. و في خانة هذه المؤسسات المروجة للعناصر الثقافية, نجد أن الوسائل الإعلامية تحتل فيها المرتبة الأبرز و الأهم, و ذلك لما للطبيعة الوظيفية لهذه الوسائل من قُدرة على أداء أدوارٍ عدّة , و من هذه الأدوار العدة الدعاية و الإعلان و الترويج (للجهة الممولة أو للجهة الداعمة, أو المانحة, أو المُتلاقية معها في نفس الخط السياسي أو في نفس الرؤية أو في العقيدة الإيديولوجية) .
لذا الحديث عن اللا تبعية في مجال الإعلام هامشه جداً حساس, و هو يتّسع و يضيق بحسب الواقع الثقافي و الظروف السياسية للبيئة الموجودة فيها الوسيلة الإعلامية, و هو أيضاً خاضعٌ بالضرورة لظروف و خصوصيات واقع الصراع القائم في العصر الراهن, و مدى الاستقلالية التامة أو عدمها للدول التي تتواجد فيها هذه المؤسسات الإعلامية , و ما إذا كانت الوسيلة الإعلامية موضوع النقد أو التحليل تنتمي بهويتها و ثقافتها إلى دولةٍ قوية و مستقلة أم إلى دولة ضعيفة و تابعة.

الصفة الخامسة للوسيط الوساطي هي عدم الانحياز. و عدم الانحياز هو مصطلح يستخدم عادةً للتدليل به على كل ما من شأنه أن يجمع صِفتَي النزاهة و الاستقامة معاً , أي كل من تتجسد فيه معاني الصفات الأخلاقية الحميدة. و غالباً ما يُستعمل هذا المصطلح في المجال القضائي للإشارة به إلى مفهوم العدالة و إنصاف المظلوم. و عند هذه النقطة من شرحنا لمفهوم عدم الإنحياز , نجد أن لا مفر لنا من استحضار ما كنا قد بيّناه سابقاً في معرض حديثنا عن دور الإعلام, حين فصّلنا أنواعه من منظور علم الاتصالات 18, و أشرنا بالدليل إلى لا عدالة بعض أنواعه, خاصة في ما يختص بعميلة تبادل الأدوار بين المُرسل و المتلقي, و كيفية احتكار هذه الوسائل شبه الدائم لدور المُرسل.
و عندما تناولنا مصطلح الوساطة في معرض تعريفنا بالوسيط, تبيّن لنا أن على الوسيط أن يتحلى بصفة عدم الإنحياز أثناء تأدية مهمته, و شرحنا حينها أن مفهوم عدم الإنحياز في العمل الوساطي يتمثل بشكل تعاطي الوسيط مع أطراف العملية الوساطية, بحيث أن عليه أن لا يميّز أي احد من شركاء العملية الوساطية , و أن لا يدير العملية الوساطية ( الحوار و النقاشات) بشكل يمنح أفضلية ما في الحقوق إلى أحد الأطراف دون الآخر. و حين نقارن صفات هذا الوسيط النزيه و غير المنحاز مع صفات (خصائص) بعض وسائل الإعلام خاصة المتلفزة و الإذاعية منها , نجد أن شرط النزاهة و عدم الإنحياز لا يمكن أن تتحقّق مع هذا النوع من الوسائل الإعلامية, بسبب عدم قدرتها على تمثيل دور المتلقي (الجمهور) بشكل عادل و متساوٍ مع المُرسل.19
و هذا المُرسل قد يكون إما الوسيلة الإعلامية نفسها, إما الجهة المالكة لها, إما الزبون المعلن فيها, إما ضيوف برامجها الخاضع أمر انتقائهم حصراً لتحكم القيّمين على الوسيلة الإعلامية أو لتحكم من يملكها أو من يدعمها مالياً.إذن, و الجمهور؟ (أي المتلقي)؟ أين دوره في هذه العملية؟ و من يستطيع إنصافه حقاً بشكل عادل بإعطاء جميع أفراده حقوقهم بالكلام و القدرة على التفاعل المباشر تماهياً مع حقوق المرسل أو المُرسلين؟ لأخذ فكرة مفصّلة و أوسع عن هذه المسألة المتعلقة بإشكالية تمثيل الجمهور في وسائل الإعلام, يمكن مراجعة كتاب "الإعلام و الجمهور" لكاتبيه ستيفن كولمان و كارين روس 20

IV. الخاتمة
حاولنا في القسم الأخير من هذا البحث ( على قدر الإمكان) أن نبيّن رؤيتنا التي طرحناها بدايةً في مقدمته كإشكالية و موضوع له, عبر تفنيد الأسباب التي دفعتنا إلى تبني وجهة النظر هذه و ذلك بنهج توضيحي يعتمد طريقة التساؤل و طرح الأسئلة كأسلوب. و نحن اعتمدنا الأسلوب التساؤلي هذا في القسم الأخير من هذا البحث لسببَين اثنين  :
أولاً, محاولةً منا لعدم الإنجراف في عملية التحليل و التفنيد إلى منتهى لا يخدم مسار العمل الموضوعي, و تجنباً منا لاحتمالية وقوعنا في فخ الشخصانية و التأكيد شبه المبرم و النهائي الذي تتصف به عادةً مقالات الرأي الصحفية المصنّفة أكاديمياً بغير العلمية , تاركين بذلك الباب مفتوحاُ, و متيحين بذلك المجال لنقض الاستنتاج الذي توصّلنا إليه في هذا البحث. إذا تبيّن أن إجابات الأسئلة المطروحة في القسم الأخير منه, و المتعلقة بتفنيد الأسباب التي قادتنا إلى بناء الإشكالية المطروحة و المعالجة فيه, من الممكن أن تقود غيرنا إلى وجهة نظر مغايرة للتي قدمناها نحن عبر هذا البحث.
ثانياً, , لقد اتبعنا الأسلوب التساؤلي (خاصة في القسم الأخير) رغبةً منا بمشاركة القارئ لنا عملية الاستنتاج الموضوعي, و ذلك للفت انتباهه و اهتمامه عبر التفكر و التحليل, محاولين بذلك حثّه على الإجابة على هذه الأسئلة بنفسه , فلربما خرج منها برؤية مغايرة لرؤيتنا, خاصة أننا كنا قد قدّمنا له عبر مسار هذا البحث كل اللوازم المعرفية المتاحة , و ربما الكافية (من تعريف المصطلحات المتداولة في مجالَي الإعلام و الوساطة, و تفصيل أنواع الوسائل الإعلامية الموجودة, و تصنيف أدوارها بحسب النظريات العلمية الدارسة لها), و ذلك للخروج منها باستنتاجات مستقلة تمكن القارئ مع نهاية هذا البحث من الإجابة على الأسئلة المطروحة فيه بأسلوب موضوعي مبني على عناصر علمية و معرفية و ليس على أراء شخصية خاصة أو تصورات ناقصة غير مكتملة معرفياً لسبب ما أو لآخر.
و بذلك نكون قد حاولنا على قدر الإمكان أن لا نكون طرفاُ مهيمناً في عملية بناء تصوّرات القارئ و استنتاجاته, بل ميّسرين لها حتى تُبنى بناءً صحيحاً و علمياً, و لكي يكون أكثر موضوعية في إجاباته على أسئلة من هذا القبيل متعلقة بمجال البحث هذا , على الأقل في محاولته الإجابة على سؤالنا الأخير التالي :
بِحَسبِ المُشاهَدَة و المُراقَبة, كيف يمكننا أن نُقيِّم وسائلَ الإعلامِ في وقتنا الراهن؟ هَلْ بإمكِاننا اعتِبارها وَسائطاً موثوقة و محايدة في عملية نقل أحداث الوقائع الناتجة عن النزاعات , أم أنّها تعتبر من الأطراف المشاركة في الصراعات الدائرة , و من العوامل المساهمة في تأجيج و احتدام نيرانها المشتعلة و المستمرة في كل مكان؟

V. هوامش و مراجع
(1) Francis Balle, Médias et sociétés, 1990, Paris, éd.Montchrestien, 5ème édition.
(2) Francis Balle est un sociologue français, professeur émérite de science politique à l’Université de Paris IIC
(3) Bélisle , J. Bianchi et R. Jourdan , Pratiques Médiatique, CNRS édition, p. 203 – 204
(4) المصدر السابق
(5) Yves Citton, Lire, interpréter, actualiser. Pourquoi les études littéraires ?, Préface de François Cusset, Paris,Éditions Amsterdam, 2007, Lexique, p.348.
(6) Yves Citton, théoricien de la littérature et un penseur suisse
(7) Michèle Guillaume-Hofnung , Professeure des universités, Co-fondatrice et Vice-présidente de l’Académie d’éthique, Membre fondateur de cercle K2.
(8) Qu est-ce que la médiation ? Par Michèle Guillaume-Hofnung - Cercle K2: https://youtu.be/2pVjBGD-n_I
(9) Ghislaine Azémard est professeur des universités en sciences de l’information et de la communication. Elle est spécialiste des politiques éditoriales du secteur multimédia
(10) C. Bélisle , J. Bianchi et R. Jourdan , Pratiques Médiatique, CNRS édition, p. 199
(11) المصدر السابق
(12) Herbert Marshall McLuhan, Un intellectuel canadien. Professeur de littérature anglaise et théoricien de la communication, il est un des fondateurs des études contemporaines sur les médias.
(13) McLuhan M. et Fiore Q, The medium is the Massage, An Inventory of Effects, Toronto, New York, Bantam Books Inc, 1967
(14) .المصدر السابق.
(15) Olivier Moch, Communication de groupe et communication de masse, quelle différence ? : http://olivier-moch.over-blog.net/article-communication-de-groupe-et-communication-de-masse-quelle-difference-124957493.html
(16) Roman Jakobson (1969), Linguistique et poétique, In: Essais de linguistique générale, Editions de Minuit, Paris, 209-248
(17) أنظر القسم المخصص للوساطة من هذا البحث
(18) أنظر القسم المخصص عن الإعلام كوسيلة تواصل من هذا البحث.
(19) أنظر فقرات التواصل الآحادي و المتعدد الأطراف من هذا البحث.
(20) ستيفن كولمان و كارين روس (2010 ), الإعلام و الجمهور, ترجمة صباح حسن عبد القادر, دار الفجر للنشر و التوزيع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطاولة المستديرة | الشرق الأوسط : صراع الهيمنة والتنافس أي


.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية




.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ


.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع




.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص