الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللامنتمي كنموذج

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2019 / 1 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نماذج من الخيال الأدبي
لو قذفنا حجرا في الهواء بقوة - إلى أعلى ـ فإنه سيرتفع بسرعة كبيرة في البداية، وكلما أزداد إرتفاعه كلما تقلصت ونقصت سرعته، وتستمر سرعة الحجر تتناقص تدريجيا كلما ازداد في الإرتفاع حتى تصل درجة الصفر، حيث يتوقف نهائيا ثم يبدأ في السقوط بفعل الجاذبية الأرضية. يقول لنا سبينوزا، لو أعطينا إمكانية اللغة أو الوعي لهذا الحجر فربما سيبرر لنا مساره وكأنه نابع من إرادته، سيقول لنا بأنه أراد الصعود بقوة وبمحض إرادته لإستكشاف السماء، وأنه بدأ في تقليل سرعته ليستمتع بالهواء والمنظر الطبيعي الذي يكتشفه لأول مرة، ثم قرر التوقف في لحظة معينة ثم العودة إلى الأرض فترك نفسه يسقط. إن هذه القصة المجازية أوردها سبينوزا ليقول لنا بأن الإنسان ذاته يمكن إعتباره مثل هذا الحجر فيما يخص القرارات التي يتخذها في تصرفاته اليومية، وحريته ما هي إلا حرية زائفة ومفترضة. فالإنسان يحاول قدر الإمكان تبرير المواقف والأفعال الطبيعية التي لا يستطيع التحكم فيها أو توجيهها، بإعطائها - بعديا - مبررات وأسباب إرادية لاحقة، لأنه يرى أن الإنسان مجبر على الإنصياع للكثير من الدوافع الطبيعية، لأن العقل البشري الذي يتوق إلى الحرية لا يستطيع أن يتحرر من السجن المادي الجسدي والذي تتحكم فيه القوانين الطبيعية. ونحن هنا لا نريد الخوض في إشكالية الحرية عند سبينوزا ونقدها، فقد عالجنا هذا الموضوع في نصوص سابقة، ولكن الذي نريده هو علاقة الأدب والفن والخيال عموما بمفهوم الحرية.
فالأدب والفن عموما، والرواية بالذات يمكن اعتبارها من الوسائل الأكثر مناسبة والأكثر فعالية لتصوير الإنسان والتعبير عن حريته، الحقيقية أو المفترضة ودراستها من جوانبها المختلفة، وذلك بخلق مواقف محتملة وتصوير شخصيات اجتماعية وسياسية وسيكولوجية متعددة الوجوه. وقد تتخذ بعض هذه الشخصيات، في ظروف زمنية وجغرافية معينة أهمية قصوى، وتصبح جزءا من التراث ومن الثقافة العامة، وتكتسب حقيقية ومصداقية مثلها مثل الشخصيات التاريخية، وتصبح ذات تاريخ وبعد وكثافة إنسانية يستعملها الإنسان العادي كمؤشر وكدليل في حياته اليومية.
في البداية كانت الملاحم والأساطير هي التي قامت بهذا الدور، وقامت بمهمة تصوير شخصيات ونماذج إنسانية بطولية وتراجيدية مثل جلجامش وإنكيدو، تموز وعشتار، هذا فيما يخص أدب ما بين النهرين. أما الأدب اليوناني القديم فإنه يزدحم بالشخصيات البطولية والتراجيدية والتي أصبح العديد منها نماذج إنسانية عامة archétype مثل أوديب، إلكترا، أوليسيوس، آشيل، سيزيف، بروميثيوس، هيفايستوس، هيراكليس، وعشرات غيرهم من الأبطال والشخصيات الأسطورية. وفي الأدب الفارسي والعربي والهندي، لا شك أن شهرزاد تمثل الشخصية الأكثر أهمية من بين العديد من النماج الرجالية الأخرى كعلي بابا والسندباد أو علاء الدين. وفي العصور الوسطى كان هناك فرسان الطاولة المستديرة مثل لانسلو وبرسيفال، وهناك روبن هود وإيفانهو. وقد ساهم الشاعر الكبير شكسبير في تخليد شخصيات عظمى أصبحت نماذجا لخبايا النفس البشرية مثل أوديب وأوتيللو وماكبث وروميو وجولييت. وقد حل الأدب الحديث محل هذه الأساطير والقصص الشعبية الجماعية، وأصبح الفنان المبدع جزءا من العمل الفني ذاته ولا يمكن فصله عن إبداعه، وبدأت شخصيات جديدة تعبر عن آلام العصر الحديث وتمثل الإنسان الجديد في صراعه مع الطبيعة والمجتمع. وفي أدب العصر الحديث بطبيعة الحال ظهرت أسماء جديدة لتمثل إهتمامات من نوع يتناسب مع هموم العصر وتقلباته، فظهرت شخصيات مثل فاوستوس والكونت دراكولا والدكتور جايكل ومستر هايد وتريستان وإيزولد. وأيضا شخصيات أدبية من دوريان غراي، غاتسبي، ديدالوس، ليوبولد بلوم - أوليس جيمس جويس ـ أنطوان روكانتان، كارامازوف، ستافروجين، أوليفر تويست، جوليفر، موبي ديك، دكتور جيفاغو وعشرات وربما مئات الأبطال والشخصيات المعذبة التي تحيا وتتنفس وتجوب شوارع المدن الأوروبية وباراتها ومقاهيها وصالوناتها الأدبية والفنية، وأيضا على شاشات السينما والتلفزيون وصفحات المجلات والجرائد المتخصصة. ونلاحظ أن أغلب هذه النماذج الإجتماعية تنتمي إلى مملكة الرجال وإمبراطورية الذكور، رغم وجود بعض الإستثناءات مثل مدام بوفاري وليدي تشاترلي ولوليتا، ذلك أن المجتمع الأدبي والفني الغربي هو بدوره مجتمع ذكوري société patriarcale رغم كل التقدم الصناعي والعلمي وإنجازاته الإجتماعية التي قلصت العديد من الفروق بين الرجال والنساء، غير أن جوهر النظام ما يزال ذكوريا، والمرأة ما تزال بلا إسم، فهي تحمل حتى اليوم إسم الرجل، إسم والدها أو إسم زوجها، أو الإثنين معا.
ومن هذه الشخصيات التي ما تزال تلقي ظلها الثقيل على أجيال عديدة من شباب أوروبا وأمريكا، ولكن أيضا على بعض شباب شمال أفريقيا، هي شخصية "الغريب - l Etranger" والذي بدوره فقد إسمه بمرور السنوات ولم يعد أحد يتذكره إلا كمجرد غريب، نحبه ونتتبع تاريخه الشخصي وندرسه في المدارس الثانوية حتى اليوم في فرنسا. هذا الغريب، ليس هو المهاجر الأفريقي أو الآسيوي أو العربي أو الأمازيغي الذي يغامر بحياته ويقذف بنفسه في مياه البحر ليصل إلى الضفة الأخرى لكي لا يموت من الغم والجوع في بلاده، إنه الغريب الوجودي، أو اللامنتمي the outsider كما سماه كولن ولسون، أي الإنسان الذي يعيش غريبا في مجتمعه ذاته، بدون أن يبتعد عن المدينة التي شهدت ميلاده ومجيئه لهذا العالم. إنها نوع من الغربة الداخلية يمكن تسميتها بالغربة النرجسية، حيث أن مركز إهتمام مثل هؤلاء البشر هو ذواتهم الشخصية، والتصرف بحيادية مطلقة تجاه الآخرين وإعتبارهم مجرد أدوات لا تستحق لا الحب ولا الكراهية ولا تثير فيهم أي نوع من العواطف أو الأحاسيس البشرية.
للموضوع بقية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية يزور تركيا لإجراء محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردو


.. توقعات بموجة جديدة من ارتفاع أسعار المنتجات الغدائية بروسيا




.. سكاي نيوز عربية تزور أحد مخيمات النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة


.. حزب -تقدّم- مهدد بالتفكك بعد انسحاب مرشحه لمنصب رئاسة مجلس ا




.. آثار الدمار نتيجة قصف استهدف قاعدة كالسو شمالي بابل في العرا