الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمر فاخوري بين القوميّة واليساريّة

أحمد علبي

2019 / 1 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


بصمت رحل أحمد عُلبي، مثلما كان دائماً يعمل بتواضع وصمت. قبل أن يغادر خصّ «بدايات» بمقالة عن المفكّر والأديب التقدّمي اللبنانيّ عمر فاخوري في امتداد شغله على التعريف بنتاجات أعلام الثقافة العربيّة الحديثة.

نودّع الرفيق والزميل أحمد عُلبي بباقة ورد حمراء. وننشر مقالته يستعيد فيها، من خلال تقييم النقديّ لفكر وأدب عمر فاخوري، أبرز أفكاره عن الالتزام والقوميّة والشيوعيّة وقضيّة فلسطين.

ولد أحمد سهيل العلبي في بيروت متحدّراً من عائلةٍ دمشقيّة استوطنت المدينة مطلع القرن العشرين. درس في البعثة العلمانيّة الفرنسيّة (اللاييك) ومعهد المعلّمين العالي والجامعة اللبنانيّة وجامعة القدّيس يوسف حيث نال الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها. ودرّس إلى حين تقاعده، مادّة الأدب العربي في الجامعة اللبنانيّة، ببيروت.

ترك أحمد علبي مجموعة وافرة من المؤلّفات في التاريخ والأدب والفنّ والنقد والمذكّرات والرحلات. من أبرز أعماله في التاريخ «ثورة الزّنج وقائدها علي بن محمّد» (١٩٦١ وعدّة طبعات)؛ «الإسلام والمنهج التاريخيّ» (١٩٧٥)؛ «ثورة العبيد في الإسلام» (١٩٨٥)؛ و«العهد السرّيّ للدعوة العبّاسيّة، أو من الأُمويّين إلى العبّاسيّين»، (١٩٨٨ و٢٠٠٩). في الفكر والأدب: «ابن المقفّع، مُصْلح صرعه الظُّلْم» (١٩٦٨)؛ «طه حسين، رجل وفكر وعصر» (١٩٨٥)؛ «المنهجيّة في البحث الأدبيّ» (١٩٩٩)؛ «ابن المقفَّع، الكاتبُ والمترجِم والمُصْلح» (٢٠٠٢) «يوميّات مجنون ليلى» (٢٠٠٣)؛ «رئيف خوري، داعية الديمقراطيّة والعروبة» (٢٠١٣) واشترك مع آخرين في تأليف «المقاومة في التعبير الأدبيّ» (١٩٨٥)؛ «المسرح العربيّ بين النقل والتأصيل» (١٩٨٨). وفي الذكريات والرحلات كتب علبي: «تحت وِسادتي، مقالات واعترافات وذكريات» (١٩٨٦)؛ «في حنايا الوطن الملهَم» (٢٠٠١)؛ «بالأَحضان يا بلدنا» (٢٠٠٩).

إلى كل هذا، ترك أحمد علبي عدداً وافراً من الأَبحاث والمقالات في أبرز المجلّات الثقافيّة والجامعيّة اللبنانيّة والعربيّة.

يمكن قراءة مساهمات الراحل السابقة في «بدايات»: «يوميّات على جبل صنّين» (العدد ١٦/٢٠١٦)؛ «مقابلة مع محمد دكروب: أنا السمكري، الفوّال، الحمّال، بائع الياسمين» (العدد ٨/٩/٢٠١٤)؛ و«رئيف خوري، المثقّف الشيوعي في الزمن الستاليني» (العدد ٥/٢٠١٣)

لأنّ بعض الإخوان رغبوا إليّ في أن أَتحدّث عن عمر فاخوري، بعد أن استطابوا دراستي «عمر فاخوري، رائد في المقالة الأدبيّة» (مجلّة «العربي» (نيسان / أبريل ٢٠١٥)، ص٩٥ – ٩٠)، نازعتني النفسُ أن أَزور قبره، وأن أَقف أمام الرُّخام الأَبيض الذي يحتضن تحته هذا البيروتيَّ الجميل. فلعلّ في الوقوف بين يدي عمر، الثاوي هناك منذ ٢٧ نَيْسان ١٩٤٦، يومِ رحيله، فرصةً للتأمّل. ومَنْ يدري، فلعلّ صوتاً ينبعث في هَدْأة الصّمت من وراء القبر يقول ويُجيب ويحثّ على الحوار. وقصدتُ الباشورة، وهي كلمة تركيّة تعني المقبرة، وأَنفقت ثلاثةَ أَرباعِ الساعةِ وأنا أَجول بين القبور بحثاً عن مثوى عمر. وسألتُ العاملين هناك عن بُغْيتي، فأَرشدوني إلى المكان الذي يضمّ قبوراً عائدة لعائلة الفاخوري، ولكن لم يكن بينها قبرٌ لعمر. وساءلت نفسي، وأنا أَضحك في عُبّيَ، كما خُيّل إليّ أنّ عمرَ نفسَه سوف يقهقه لما دار في خَلَدي: أكان يجدر بي أن أَصطحب بَعْثة أثريّة في هذا المسعى، أم لربّما اقتضى الحالُ أن أَستعين بشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخليّ، فهم أَدرى بأَحوال البلد المستعصية وبرهنوا أنّهم العارفون بما وراء الحُجُبِ وطيَّ الصناديق؟!

الموت الرَّحوم

عزيزي عمر، ستنعقد الدهشة على جبينك العالي إذا ما همستُ إليك أنّ المنيّة كانت رحوماً بك، فهي قد أَراحتك من الآلام المُضْنية. كما أنّها، وهذا هو الأهمُّ والأخطر، قد أَبعدتْك، بهذا الغياب القسريِّ، عن مسرح الكوارث والأَزمات والخيبات القاتلة التي نزلت بنا إثر رحيلك. عندما مات حسين مروَّه برصاصات الغدر الظلاميّة في شباط / فبراير ١٩٨٧، ثمّ حدث بعد أَعوامٍ قليلة، ما هو حتّى يومنا أَقربُ إلى الخيال، ربّما، وهو انهيار الاتحاد السوڤييتيّ والمنظومةِ الاشتراكيّة، بالضربة القاضية؛ نسبوا إلى الروائيّ الكبير حنّا مينه أنّه قال: نيّالو أبو نزار مات ولم يشهد ما نحن فيه وما حلَّ بنا!

وعلى المنوال نفسه، أَحسَبُ أنّ عمر فاخوري كان على موعدٍ مع البخت في هذه المغادرة لدنيانا. فبعد سنةٍ فقط من وفاته حلّت بنا مأساةُ العصر، التي ما زالت مستمرّة، بل إنّها تتفاقم وتتعقّد وتضيع معها فَلَسْطينُ متراً تلو متر. وتغنّي فيروز الملائكيّة: أنا، لن أَنساكِ، فلسطينُ. ولكنّ الأَنظمة العربيّة والأَحزاب العربيّة والشعوب العربيّة، جميعَهم نَسَوْا فلسطين كلّيّاً؛ وبات شعب المسيح يتيماً، يقاتل يائساً وحيداً، ولا مَنْ يدري به بين الماء والماء. وهذا الأديب عُمَر، الذي بدأ حياته، وهو ما زال في عُمْر الشباب الغضِّ دون العشرينَ، بكتابٍ معبّر «كيف ينهض العرب»، ثمّ توالت ظروفٌ على هذا الكتاب، وعرف البئرَ إثر البئرِ لإخفائه، فغدا مبلَّلاً تالفاً؛ هذا الأديب قال، بظَرْفه المعهودِ، إنّه إذا ما عثر على كتابه هذا وأَعاد طبعه فسيسمِّيَه عندئذ «كيف يغرق العرب»! ولكنّ ما قاله عمرُ مازحاً بات واقعَ حالٍ لا فَكاك منه، فمَنْ يصدّق أنّ الحروب الأهليّةَ، وهي أَسوأ ما قد يُصيب شعباً، دَوَّارةٌ في خمسةٍ من البلدان العربيّة، والبقيّة تنتظر مترقّبةً وبها خَشْيةٌ. هناك حتماً ضوء وآمال ولكنّ النَّفَق طويلٌ مديد والمخاضَ عسيرٌ ممضّ والتاريخَ لا يرحم.

ولئن فاتني أن أَعثر على قبر عمر فاخوري لقد أَخذتُ الأمر على محمل الاستسهال. فإنسانٌ من طينة عمرَ ليس من الصواب أن تحصره في غياهب قبرٍ لا يلبث أن يقتات به الدودُ وسرعان ما يغدو نزيلُهُ كومةَ عظامٍ رقيقةٍ. ولا نعرف إذا ارتضى عمرُ هذه النهايةَ، أم أنّه غادر قبره قبل أن يَفِدَ عليه الملاكان أنكر ونكير، يستنطقانه، وحلّق بروحه بعيداً، فوق روابي هذا الوطنِ الذي شُغِفَ به. أما كان أَوْلى بنا، أن نقلّد الهنود، الذين يحرقون موتاهم؟ والمؤرّخ الفَلَسْطينيّ الدكتور نبيه أمين فارس، والذي شارك منير البعلبكي في ترجمة الكتاب القيّمِ «تاريخ الشعوب الإسلاميّة» لكارل بروكلمان، الصادرِ بالعربيّة عن «دار العلم للملايين» عام ١٩٤٨؛ وقد علّم لزمنٍ في الجامعة الأميركيّة ببيروت، وكان، كما أَذكره، يضع عِوَضَ ربطة العنق، «پاپيون». هذا المؤرّخ كان شديد التعلّق بالعروبة، وكانت زوجته أميركيّة؛ وقد أوصى بإحراق جسمه عقب الوفاة ووضعِ رماده في قارورة تقطع المحيط، ويُنثر هذا الرماد فوق مدينته «الناصرة» في فَلَسْطين. وتمّ له ما أَراد، حسبما حكى لي بعضُ طلّابه. أما كان أَبدعَ أن نرشّ رمادَ عمر فاخوري فوق بيروتَ التي أُغرم بها؟!

اربعة وجوه بيروتية

ولقد انحازت إلى صفوف اليسار اللبنانيّ أربعةُ وجوهٍ بيروتيّة، أخال أنّهم أَجملُ مَنْ عرفتُ في حياتي: محمّد خطّاب، مصطفى العريس، عمر فاخوري، ومحمّد عيتاني. كان خطّاب مقاصديّاً، تخرّج في كلّيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة وصار محامياً، وانخرط بعزم وحزم في حزب الطبقة العاملة. تميّز بشخصيّةٍ محبَّبةٍ وبكتفين عريضتينِ وسُمْرةٍ جذّابةٍ وكاريزما لافتة. وعندما صدرت جريدة «النداء»، في مطلع العام ١٩٥٩، كان اسمه، إلى جانب اسم نخله مطران، الإنسانِ النبيل الآتي إلى اليسار من كَنَف «الكتائب»، كمسْؤولَيْن عن التحرير. ولكنّ المرض سرعان ما زحف إلى كيان المناضل محمّد خطّاب؛ ولقد ارتضته زوجاً امرأةٌ تقدّميّة، تُدعى: أسماء فيصل، علمت تماماً بمرضه الخطير، ولكنّها، إعجاباً بشخصه، آثرتْ عِشْرته لتعتني به وتسهرَ عليه. وعندما رحل هيّأت حقيبتَها ورحلت بدورها إلى موطنها حِمْص! ولا أَنسى أَنّني زُرته في منزله، ولاحظت خلال الزيارة أنّه يضع كفّه اليُمنى فوق مَعدته، وسألته الخبر، فأَجابني بلامبالاةٍ أنّه مجرّدُ مغصٍ عابر. كان المغص الذي ادّعاه هو الدّاء الفتّاك الذي أَتى عليه. رحل محمّد خطّاب واقفاً في كانون الأَوّل / ديسمبر ١٩٦٢!

أمّا مصطفى العريس فهو النقابيّ الأَشهر الّذي كان ذات يوم يدوّي صوتُهُ في جموع العمّال الذين تفانى في خدمة قضيّتهم. ولقد كان إنساناً وديعاً، على شيءٍ من الخَفَر ولكنّ روحه كانت مرحةً ونُكْتتُه ظريفةً. من ذلك أنّهم وضعوا متفجّرة أمام بيته في محلّة المزرعة بغية ترهيبه أَو النّيل منه فسَلِمَ، ولكنّ ساعة الحائط تعطّلت. فأخذها إلى الساعاتيّ قائلاً له: ما هذه الساعة التي لا تحتمل «بومبه»! عقدتُ مع العريس حواراً نشرتُه في جريدة «السفير» (٢٧/٩/١٩٨١) غداة رحيله في أَواخر عام ١٩٨١، حول «أَقطاب الحركة الشيوعيّة في لبنان»؛ ولقد أَعجب هذا الحوار المفكِّر الراحل مُنَح الصلح، فذكّرني به غير مرّة لَدُنْ التقائنا.

الوجه البيروتيّ الثالثُ هو عمر فاخوري. عندما فارقَنا كنتُ في العاشرة من عمري، ولكنّي عرفته من خلال كتاباته خصوصاً من خلال أُستاذيَ وصديقيَ رئيف خوري، وهو الذي ظلّ يحاصر عمرَ بحديثٍ مستفيض لا يهدأ عن الماركسيّة والسوڤييت، وعمر يمانع ويجادل ويتبغدد، إذا جاز القولُ، إلى أن وقع في مصيدة رئيفٍ الفكريّة. فعمرُ، في نظر رئيفٍ، كسبٌ عظيم، وهو الذي شاد لعمرَ حكايته، وأَكاد أَقول: أسطورته. وقد عاونه في هذا المسعى قدري قلعجي قبل ارتداده عن الفكر اليساريّ الذي كافح زمناً في نُصْرته. ولقد كتب رئيف خوري في مجلّة «الطريق»، وهو الذي اقترح اسمها، وكان من مؤسّسيها، طائفةً من المقالات والدراسات عن عمر فاخوري، تكوّن، إذا ما جُمعت، قِوامَ كتابٍ عن عمر. وربطت الرجلينِ، عمرَ ورئيفاً، محبّةٌ عميقة مبعثُها، فضلاً عن الإعجاب الأدبيّ المتبادَلِ، شمائلُ الطيبة والنزاهة والإخلاص المضطرمة في صدر كلّ منهما؛ ثم هناك موهبة السخرية عند كليهما والصادرةُ عن الثقافة الموغلة والذكاءِ الوقّاد والعطيّةِ الربّانيّة كما درجنا على القول.

أمّا محمّد عيتاني (١٩٢٦ - ١٩٨٨) فلا تفيهِ الكلماتُ القليلة حقّه من الإكبار، لأدبه القَصَصيّ الفاتنِ الجميل، ولا من المحبّة الغامرة والصداقةِ العريقة لشخصه الودودِ الظريف. وفي ظنّيَ دائماً أنّ في الكلام على الأدباء، حظوظاً وتقاديرَ عجيبة. ويحضرني في هذه المناسبة ما قاله ذاتَ مقابلةٍ الراحلُ الأديب السوريّ ممدوح عدوان، متعدِّدُ المواهبِ، فهو شاعر جميل وروائيّ جذّاب ومترجم مقتدر قال لسائله، بظَرْفه المأثور عنه: عندما تتكلّمون على الشعراء العرب فهناك دائماً المعزوفةُ إيّاها: أدونيس، محمود درويش... ولكنْ أينَ نحنُ؟! وفي اعتقاديَ أنّ محمّد عيتاني من أفضلِ كتّاب القصّة في لبنان، على قلّتهم ونَدْرتهم. ولكنّي لا أَعثر على اسمه أبداً في القائمة المكرورة! ولم يكن محمّد عيتاني ذا بختٍ في حياته، فهل سينال الحُظوةَ وقد طواه الردى؟ ففي ذكر كتّابِ القصّةِ في بلدنا تتردّد أسماءٌ شحيحة من مثل: ميخائيل نعيمه، توفيق يوسف عوّاد، مارون عبّود... ثم يتوقّف العدُّ، فأين محمّد عيتاني، صاحبُ «أَشياء لا تموت» و«مواطنون من جنسيّة قيد الدرس»؟! إنّه البيروتيّ الساخرُ الأكبر والمبدع القدير؛ وكما كان مارون عبّود صاحبَ سخريّةٍ لا تُجارى في أدبه القَصَصيِّ، فيمكن القول إنّ محمّد عيتاني هو النَّسخةُ البيروتيّة من مارون عبّود، إذا جاز القول وصَلُحَ التشبيه.

جريمة تقسيم فَلَسْطين

وهكذا كان عمر فاخوري ورئيف خوري توأمينِ من حيث القِماشةُ الإنسانيّة والتركيبُ المناقبيُّ؛ كذلك صارا، بعد انحياز عمرَ إلى ضِفّة اليسار، توأمينِ من حيث الموقف الإيديولوجيّ والتطلّعات المستقبليّة. لهذا نزعم باطمئنانٍ أنّ ما حلّ برئيف خوري كان سيحلّ بعمر فاخوري، من قِبَل الحزب الشيوعيّ في سورية ولبنان، كما كان اسمه عهدذاك قبل افتراقهما، بسبب موقف الاتحاد السوڤييتيّ غيرِ المبدئيِّ وغيرِ الأخلاقيِّ وغيرِ القوميِّ السليم، من موضوع تقسيم فَلَسْطين ونشوءِ دولةِ الاستيطان والعدوان والاستعمار، إسرائيل، على أرض فَلَسْطين العربيّة، وعدم رضا رئيف خوري بهذا الموقف واستنكاره له. في حين جرّ السوڤييت الأَحزاب الشيوعيّة العربيّة إلى الإقرار بمبدأ التقسيم، فكان حالهم كحال مَنْ يُضرب من بيت أبيه، فغدت الأُمميّة ثوباً مهلهلاً. وكان يجدر بالأَحزاب العربيّة أن تقلب صفحة الانتماء منذ ذلك العهد إلى المركز الأُمميّ والانقيادِ الأعمى إلى توجيهاته. فمَنْ يفكّر بعقل غيرِهِ قد يُصيب مرّةً، ولكنّه يخطئ مرّاتٍ. ومَنْ ذا الذي يُدرك أَحوال بيتك بأَفضلَ ممّا تفعل أنت؟ وقامت القيامة على رئيف وتجنّدت الأَقلام الصفراء، أَقلامُ رفاقه، وأَحطُّهم الكاتب السوريّ وصفي البنّي، لمهاجمته ولنعته بأخسِّ النعوت، وذلك كلُّه على صَفَحات المجلّة التي صدرت أواخر العام ١٩٤١ «الطريق»، واحتضنت، طَوَال الأَربعينيّات من القرن المنصرم، كتاباتٍ لرئيفٍ تنويريّةً عن الماركسيّة، وقصائدَ من عيون الشّعر، تتغنّى ببطولات الجيش الأحمر وببلاد ثورة أكتوبر العظمى وبستالين العظيم، كذلك جرى قلم رئيفٍ بالأَبحاث المستنيرةِ عن التراث العربيّ والقوميّة العربيّة ووحدة العرب. حتّى إنّ رئيفاً صار، لَدُنْ الهجومِ الافترائيِّ عليه، موضوعاً للرسوم الكاريكاتوريّة الطاعنةِ على صَفَحات «الطريق» نفسِها. وسامح الله مرتكبَها، الصديقَ الغالي: الفنّان الراحل رِضْوان الشهّال!

غرام عمرَ بالسوڤييت

فلو كان عمر فاخوري ما زال حيّاً آنذاك لوقف حتماً الموقف المبدئيّ الذي اتخذه رئيف خوري، ولحلّت به صواعق الشتم والتجريح التي انهالت على رئيف. لهذا قلنا سابقاً إنّ منيّته أَنقذته من هذه المهانة التي كان سيسبّبها له الرفاق هناك وهنا ولكانت خيبته لا توصف! وخصوصاً إذا علمنا أنّ عمر فاخوري، عندما غدا يساريّاً، أُغرم غراماً مشبوباً ببلد الاشتراكيّة الأَوّل، كما كان يُنعت الاتحاد السوڤييتيّ، بحيث إنّه عندما ألقى محاضرته عام ١٩٤٤، «الاتحاد السوڤييتيّ، حجر الزاوية»، والتي طُبعت في كُتيّبٍ أصدرته جمعيّة أَصدقاء الاتحاد السوڤييتيّ في سورية ولبنان، فإنّ عاطفة عمر الجيّاشةَ حيال هذه التجرِبة الكونيّة الفريدة التي ضخّت آمالاً عظمى بغدٍ إنسانيّ أَعدلَ وأَجملَ كانت غلّابة على تحليلاته وآرائه. فمن المشروع أن يرى عمرُ حينها أنّ «الاتحاد السوڤييتيّ لأعظمُ خطوةٍ، بل قفزةٍ قفزها التاريخ نحو هذا المثل الأعلى. فهو يحمل في صدره التراث القديم، تراثَ الشوقِ إلى المدينة الفاضلة» (ص٣٣). وذلك أنّ أَهل اليسار، في العالم قاطبةً، نظروا إلى هذه المأثَرَة التاريخيّة، في محاولة إقامةِ مجتمع اشتراكيّ، ينتفي فيه الاستغلال والاستثمار والاستعباد، على أنّها إنجازٌ لا نظير له، وبالتالي كان الاتحاد السوڤييتيّ قِبلةَ الأَنظار ومحطَّ الطموحات والأَشواق. ولا عجب أن يمجّد عمرُ الجيش الأحمر، فهو الذي هزم النازيّة شرَّ هزيمةٍ، وهو الحارس لهذه القارّة الاشتراكيّةِ التي دُعيت سابقاً «سِجْنَ الأُمم». على أنّه، ومن غير تدقيقٍ أو تبصّرٍ علميّ، يكيل عمر فاخوري في محاضرته المديحَ والتقريظ للزراعة السوڤييتيّة وللصناعة ولمشاريع السنوات الخمس وللدستور السوڤييتيّ لسنة ١٩٣٦، المعروف بدستور ستالين. بل إنّ عمرَ، وهنا وجه الغرابة والهَوَسِ، هذا المثقّف اللبنانيّ العربيّ، الذي درس في فرنسا وعرف كيف أنّ الحرّيّة هي الجوهر الذي لا إنسانَ بدونه، وهي المبتدا والمنتهى، ينبري في الدفاع عن المحاكماتِ والتطهير الدمويّ والتضحياتِ التي عمد إليها ستالين، الطاغية الذي شوّه التجرِبة الكبرى وعطبها: «وقد ثبت للملأ، قاصيهِم ودانيهِم، صلاحُ تلك المحاكمات والعقوبات الصارمةِ التي أُنزلت بمستحقّيها»، بل «ونحمد الله على أنّنا سمعنا قولَ بعضهِم: ما كان أَجدَرَنا بأن نفعل ما فعل ستالين»! ويتوّج عمر هذا المنحى في التبرير القاتل قائلاً: «إذا لم يكن الاتحاد السوڤييتيّ ديمقراطيّةً، فقد آمنت بأنّ الدنيا من الديمقراطيّة خلاءٌ» (ص٢٠ و٢١، ٣٠)!

بعد هذا الإطراء، الذي لا حدود له ولا تحوّط فيه، كيف كان سيكون موقف عمر فاخوري لو أنّه تمهّل في دنيانا سنةً فقط وعاين ثورة أكتوبر التي، كما عرض لها، في محاضرته سالفةِ الذكر، «حطّمت باب «سجن الأُمم»، وأَطلقت القوميّاتِ من أَصفادها والمذاهبَ الدينيّة من خوف الاضطهاد» (ص ٢٢)؛ وها هم أَبناؤها، الحاكمون رَغَداً في موسكو، يكونون أَوّل المعترفينَ بنشوء إسرائيل، هذه الدولةِ التي هي، في تقدير المستشرق مكسيم رودنسون، «مشروعٌ استعماريّ»، بل هي استعمار في زمنٍ يتوارى فيه هذا الاستعمار تباعاً عن أَقطار المعمورة. وإذا كان الرفاق في كعبة الاشتراكيّة، موسكو، قد خضعوا للنفوذ الصهيوني المتغلغلِ وأَداروا الظهر للشعوب العربيّة، وفي طليعتها الشعبُ الفَلَسْطينيّ المشرّد عن أرضه، ونكثوا بمبدأ حرّيّة تقرير المصير وباعوا القوميّة العربيّة وأَصحابَها، فأيّ عذر يكون، للرفاق ههنا، في هذا الانسياق المخجلِ التدميريّ وراء مشروع ظالم فاجر، وهو تقسيم فَلَسْطين؟! والذين أبدوا عتباً أو اعتراضاً، من أَمثال رئيف خوري وفرج الله الحلو، كان مصيرهم الشتمَ والتحطيم. فمن المؤكّد أنّ ما واجهه رئيفٌ من تجريحٍ بلغ حدّ الاتهام بالعمالة للدولار، وما تعرّض له فرج الله من إذلالٍ، ليخُطَّ، مرغماً، «رسالةَ سالم»، المخالفةَ تماماً لقناعاته، هذا المآل كان منتظراً بالتأكيد لعمر فاخوري، لو أنّه تمهّل في الرحيل سنةً فقط وعاصر المأساة، ولكان انتفض تلقائيّاً وأدرك أنّ من الحبّ ما قتل! فعمر غادرنا عام ١٩٤٦، وتقسيم فَلَسْطين حدث في عام ١٩٤٧ بقرار من هيئة الأُمم، ونشأة إسرائيل تمّت عام ١٩٤٨. وشارك الاتحاد السوڤييتيّ بقرار التقسيم، ثمّ كان من أَوائل المعترفينَ بقيام إسرائيل. وغادر أَهلنا في فَلَسْطين بلدهم، لأنّ الأَنظمة العربيّة حثّتهم على المغادرة، وتكفّل الصهاينة، عن طريق ارتكاب المذابح، في ترويع مَنْ لم يغادر بعدُ. حمل الفَلَسْطينيّون معهم حُجَجَ بيوتهم ومفاتيحَها، فقد قالوا لهم إنّ العودة حكايةُ أَسابيعَ. وصادر الصهاينة، بعد أن فازوا على الجيوش العربيّة مجتمعةً، أرض فَلَسْطين وبيوتها العامرةَ، فلقد سُلِّمت لهم أو اغتصبوها. يبدو أنّ الأَنظمة العربيّة تنازلت عن فَلَسْطين أو باعتها مفروشةً! فهل كان عمر فاخوري، لو أنّه ما زال حيّاً، يرتضي هذه النكبة َالتي صنعها الصهاينةُ، وباركها مَنْ أُغرم بهم هناك، وأقرّ بها مأموراً مَنْ مشى معهم الدرب ههنا؟!

«كيف ينهض العرب»

مسألة الحسِّ القوميّ العربيّ، قديمة عهدٍ لدى عمر فاخوري، بل إنّه افتتح حياته وهو شابّ طريُّ العود، في الثامنةَ عَشْرَةَ أو يكاد، وذلك بدعوة جهيرة إلى الأُمّة العربيّة، خلال كتابه الذي جمع فيه مقالاتِه المنشورةَ في جريدة «المفيد» العريقة، لصاحبها أحد الشهداء بعدئذٍ، وهو عبد الغني العرَيسي. وقد سمّى عمرُ كتابه «كيف ينهض العرب» (المكتبة الأهليّة، بيروت ١٩١٣). وينبغي التنويهُ أنّه كتاب صغير، بل إنّ عمرَ نفسَه يدعوه رسالة؛ وعند مطالعتنا لها تبيّن لنا أنّها مقتَبَساتٌ وترجمات خصوصاً من كُتُب الباحث الفرنسيّ غوستاف لوبون، أَمثال: «بسيكولوجيا الثورات» و«الثورة الفرنسيّة وبسيكولوجيا الثورات» و«حضارة العرب» و«آراء ومعتقدات». لهذا يصرّح عمرُ الفتى، عن عمله الباكر، قائلاً: «آراءٌ اقتبستها من كُتُب غربيّة، لا أَدّعي عِصْمتها، وأَفكارٌ خاصّة جرّتني إليها المقارنةُ والمقابلة بين تلك وما شاهدتُه! فالرسالة إذن جمعٌ وتعريب، أكثرُ منها وضعاً وتصنيفاً» (ص ٩٨). والصفحة تعود إلى الطبعة التي نشرها وقدّم لها مطوَّلاً صديقُنا الباحث عبد اللطيف فاخوري، وقد ظهرت ضِمْنَ الأَعمال الكاملة لعمر فاخوري والتي نشرتها دار «الآفاق الجديدة»، بيروت، العام ١٩٨١. ويرى عمرُ أنّه، شأن أرخميدس لمّا اهتدى إلى قانون العَوْم، فركض عارياً منادياً: أوريكا، أوريكا، وجدتُها وجدتُها؛ فهو أيضاً وجد القانون الذي يداوي انحطاط قومه، فإذا به كامن في الغاية الكماليّة التي ينبغي أن تشدّ أَواصرَ مفكّري الأمّة. وهذه الغاية الكماليّة كامنةٌ في الديانة الجديدة، التي ينبغي أن يتمسّك بها القوم وقِوامها الإيمانُ باللغة العربيّة إيماناً دينيّاً، بمعنى مقدّساً؛ والأخذُ بالعنصريّة العربيّة، بمعنى القوميّة؛ وبعثُ مجدِ أَجدادنا العظام. وممّا ساعد العربَ في ازدهار حضارتهم، سجاياهُم الحربيّةُ والدينُ الجديد الذي أَرهص بهم، وكان عندهم ذخيرةٌ من العلوم، ومن بينها الشعرُ، الذي كان عميق الحضور بينهم وغزيراً على نحوٍ لافت جدّاً. ونعرف ما بلغ من تقديرهم لبعض هذا الشعر الذي علّقوه، كما يُحكى، على أَستار الكعبة ودعَوْه المعلَّقات أو المذهَّبات أيضاً، لأنّهم كتبوه بماء الذهب! فالشعر مستودعُ أَخلاقِهم وأَخبارِهم وآدابِهم، لذا قيل: الشعر ديوان العرب. وكانت الغاية الكماليّة، التي نَشَدها النبيّ محمّد، دينيّةً وسياسيّة. وأبلى العرب في فتوحاتهم، لأنّهم غلّبوا أيضاً السياسة، في تعاملهم مع الشعوب التي خضعت لهم، ممّا أَعانهم على نشر دينهم وتعميمِ لغتهم. وقد تطوّر العرب خلال عهد قليلٍ، حتّى إنّهم ظهرت لهم آثار ساطعة في البناء وفي الفنون والعلوم.

حضارة الإسلام نتيجة الاختلاط

بيد أنّه جاء في كتاب عمر فاخوري عن العرب: «حتّى إنّ الفلسفة اليونانيّة، التي لم تكن لتتّفق مع روحهم ومزاجهم، لم يَقْرَبوها أبداً» (ص ١١١)! فماذا نفعل بالفلسفة الإسلاميّة، المتلقّحةِ حتماً بالفلسفة اليونانيّة. وماذا يكون مصير علمِ الكلامِ، القائمِ على الدفاع عن الاجتهادات الدينيّة بالمنطق الفلسفيّ. وماذا يكون مصير ابنِ رشد والرشديّةِ بعده، وهو الذي شغل أوروبا بفكره الأرسطيِّ، ولُقِّب بالشارح، لأنّه شرح الكثير من كُتُب أرسطو، وهو واضع كتابِ «تهافت التهافت»، في الردّ على كتاب الغزّالي «تهافت الفلاسفة». وقد سعى ابنُ رشد إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، كما عُني بإثبات أنّ الشريعة الإسلاميّة دعت إلى النظر العقليّ، وجعلته واجباً؛ ولا مجال للتضادِّ بين الشريعة والفلسفة، لأنّ كلاً منهما حقٌّ، والحقُّ لا يُضاد الحقَّ، بل من شأنه أن يعضده ويشهدَ له.

ويعوّل عمر على أَفكار غيره لتَبيانِ عواملِ سقوط العرب. من ذلك تفسّخُ المملكة وتجزُّؤها وطمعُ الطامعينَ بها وتحلّلُ المركز؛ ثم ضعفُ الحميّة الحربيّة، نتيجةَ التمدّنِ وترقّق العادات. كذلك من أَسباب سقوطهم اختلاطُهُم بالشعوب الخاضعة لهم، وما جرّ عليهم من تزاوجٍ، هذا «التزاوج الذي يُفسد سريعاً دمَ الغالبين» (ص ١١٥). وطبعاً هذا كلام غيرُ علميٍّ لأنّ التزاوج بين الأَقوام المختلفينَ، مجلبةٌ لتحسين النسل. فالكلام الذي يقوله عمر أو يتبنّاه هو عنصريّ بحت. وما نشهده في أَيّامنا من تزاوج بين بعض الشباب العربيّ والأَجنبيّات، فإنّ حصيلته البيولوجيّةَ أنّ الأَولاد يحصّلون أفضل ما لدى الطرفين من مزايا وراثيّة. ثم إنّي سألت أحد مواطنينا: علا مَ تتقبّل البلاد السكنديناڤيّة الراقيةُ جدّاً، من أَمثال السويد والنَّرويج، أَفواجَ المهاجرينَ من العرب والأَكراد والسُّريان وغيرِهم، وغالبيّتُهم ليست ذاتَ اختصاص وكفاءةٍ علميّة، ثمّ إنّهم يُحْدث بعضهم، في تلك البلاد الهادئة المشاكلَ والانحرافاتِ والرذائلَ؟ أَجابني محدّثي أنّهم هناك يصبرون على آبائهم ويُعطونهم المِنَح ويتحمّلون تكاسلهم وذلك أنّهم عاقدون الأملَ على الأَبناء الذين سيغدون سويديّين ونَرويجيّين وسيُدخلون دماً جديداً، تشعر هذه البلاد أنّها بحاجةٍ إليه!

وليس من مسيّر للأَفراد والأُمم سوى الغايةِ الكماليّة. «وليس لأَفراد الأُمّة العربيّة من غاية كماليّة أَسمى وأَعلى من النهضة بالعرب، وإعادةِ مجد العرب» (ص ١١٩). وما التاريخ سوى تسطيرٍ للوقائع التي نهض بها الناس، منذ القدم، لمتابعة غاياتهم الكماليّةِ. وإلّا فكيف أُتيح للبشر أن يعبروا من الهمجيّة إلى المدنيّة لولا غايةٌ كماليّة شخصوا إليها واستمسكوا بها؟ وعندما احتشد العرب وتضافروا حول غايتهم الكماليّة المتمثّلة بالإسلام شادوا دولة عظمى؛ وعندما فقدوا هذه الغايةَ الكماليّة، وانطفأت وَقْدة الحماسة في نفوسهم وعقولهم، خَبَتْ شعلتهم، وهوى مقصدهم العالي وطليعيّتُهُم الحضاريّة وسقطوا كما سقطت حضارات كبرى قبلهم! ويتحصّل من سطور كتاب عمر فاخوري أنّه يلوم العرب على اندماجهم واختلاطهم بغيرهم من الشعوب الأجنبيّة. وهذا خطل عظيم، لأن أَخصَّ ما ميّز الحضارةَ الإسلاميّة العربيّة، أنّها نتاج هذا الاختلاط الخلاّقِ، الذي جرى على مدى أَصقاع الإمبراطوريّة، وقد وحّد الإسلام مقاصدهم، وكانت العربيّة الواسطة اللغويّةَ التي اعتنقوها جميعُهم للتعبير عن منجزاتهم في العلوم والآداب على أَنواعها.

كان سرّ الحضارة الإسلاميّةِ في هذا الاختلاط البديع. وقد تدفّقت على بغداد العبّاسيّين روافدُ ثقافيّةٌ آتيةً من الهند وفارس وبيزنطة وآسيا وغيرِها من البلدان، وكان من شأن الحضارة الإسلاميّة، أنّها اغتنت وتفاعلت مع هذه الروافدِ على مدار دار الإسلام. لهذا فإنّ العلماء الذين علا صيتهم في تاريخ هذه الحضارة الإسلاميّة العربيّة كانوا، في الكثير من الحالات، غيرَ عربٍ لكنّ العربيّة أداتُهم المثلى، ثم إنّهم، وهو الأهمُّ، مسلمونَ مندمجونَ ومساهمونَ في هذه الحضارة الجديدة. فالطَّبَريّ المؤرّخ الشهير، من طبَرِستان؛ والزَّمَخْشريّ من زَمَخْشَر، وهي قرية في نواحي خوارزم، والبِيروني، صديقُ ابن سينا، فارسيّ الأصل؛ وابن سينا نفسُه، المفسّر الكبير، الذي عُرف بالشيخ الرئيس، وُلد على مقربة من بُخارى، والسلسلة طويلة. وهذا برهان على عظمة الحضارة الإسلاميّة التي جمعت هذه العقول المتفرّدةَ في بوتقة واحدة.

والفكرة التي نريد الإضاءةَ عليها، لاعتقادنا بصوابها، أنّ الإسلام أنشأ في زمانه أُمميّةً إسلاميّة ضمّت أمماً شتّى وشعوباً متباينة؛ ولقد ازدهرت هذه الأُمميّة الإسلاميّة لقرون عدّة، مهتديةً بالطبع بأَفكار الإسلام، التي كانت متقدّمة في حينها، ثم آلت إلى سقوط مع ضعف المركز، دمشق ثمّ بغداد ثمّ القاهرة، وتهافتِ الخلافة وغيابِ خلفاءَ بُناةٍ وأشدّاء ودُهاة من مثل مُعاوية الأُمويّ والمنصور العبّاسيّ. ونعرف أنّ مطمحنا المعاصرَ بالأُمميّة الشيوعيّة، كان في غير حدود، وكان فقراء كوكبنا يعقدون عليها الآمال العظام؛ ولكنّها هوت وسط ذهولٍ كونيّ بعد ثلاثة أَرباع القرن. ولا مجال ههنا للتفصيل، ولكنّ علّتها القاتلةَ أنّها لم تنهض على أساس الحرّيّة التي لا خلاص للإنسانيّة من دونها، بل إنّها كبتت الحرّيّة وكتمت أَنفاسها وقضت على أجيالٍ من الثوّار الصادقين والرفاقِ الشجعان. ونكتفي بمثالٍ، لأنّه منسيّ تماماً، فلقد كان سلطان غالْيِيڤ (Galiev) من البارزين في الأُمميّة الشيوعيّة، وفي تاريخ الاتحاد السوڤييتيّ الناشئ، وحاول، مقتدياً بنصائح لينين، أن يجد شيوعيّة إسلاميّة تتلاءم مع أَوضاع قومه التتار، عَبْرَ دولة كبرى عاصمتها قازان. ومن غير تفصيل وقفتْ في وجهه العصا الستالينيّة، وانتهى هذا الرائدُ المجهول سجيناً في الأَشغال الشاقّة بعد أن كان رئيساً لجمهوريّة تاتاريا الاشتراكيّة السوڤييتيّة. ودلّل الزمن أنّ أَمثال هذه الجمهوريّات لم تكن لا اشتراكيّة ولا سوڤييتيّة. وأنَّ سجن الأُممِ القيصريَّ غدا، واعجباه، سجنَ الأُممِ الاشتراكيَّ!

عامل اللغة لا يكفي

ويذكر عمر فاخوري أنّ لوبون يُؤْثر التطوّر البطيء الهادئ أو النشوءَ، ممّا يُعبّر عنه بالفرنسيّة Évolution، على الثورة العاتية Révolution؛ فهذا مدعاة إلى التوازن المعتدل بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر المتحوّل. وللثورة العلميّة، شأنَ نظريّةِ داروين واكتشافاتِ پاستور، أثرٌ عظيم في حياة الناس. كما أنّ الثورة السياسيّة ناموسٌ طبيعيّ، يأتي عاصفاً، «وهي الظروف تحتّم على الشعب، في بعض الأَحايين أن يسير على الجثث والجماجم إلى النهضة والعمران» (ص ١٢٦). أمّا الثورة الفكريّة فأَعظمها أثراً الدياناتُ، بدليل ما نهض به النبيّ محمّد من تأطيرٍ للقبائل العربيّة في موجةٍ شعوريّة وفكريّة، ودفع بهم في قلب التاريخ. «فالثورات الفكريّة مُخّ التاريخ ولبابه» (ص ١٢٧). ويذكر الكتاب أنّ أَصعبَ الثورات هي التي تتوجّه إلى التقاليد الموروثةِ والعادات المستحكمةِ والأَفكار الراسخةِ في النفوس. ولكنّنا نعتقد أنّ هذا الرصيد الشعوريَّ والفكريَّ، لا سبيل إلى تعديله أو تغييره بقرارٍ أو أَوامرَ صادرةٍ أو مجرّد برامجَ معتَمَدَةٍ. إنّ التغيير له أُسسه الماديّة وإنجازاته الحضاريّة. وبالتالي فهو تغيير جدليّ، قائمٌ على التبادل والتفاعل، بين البُنى الماديّة الجديدة والروحيّة السالفة، والعمليّة التلاقحيّةُ تحتاج إلى زمن. فكما أنّ النباتَ يمتصّ الماء والغذاء، اللذين يرويانه في تصاعدٍ ندعوه Osmose، هكذا التفاعل الحضاريّ يسري في الأَبدان والسرائر.

يأتي عمر فاخوري في كتابه على العناصر المكوّنة للقوميّة، فيرى أنّها كامنة في الدم والتاريخ واللغة والحضارة؛ غير أنّه يُفرد للغة شأناً خاصّاً وحاسماً ووحيداً ومحدِّداً للقوميّة. يقول عمر: «والذي يحدّد الجنسيّةَ هو في الحقيقة اللغةُ، فيها وحدها يصبح الإنسان عُضْواً في جسم الأُمّة، وهي وحدها تخوّله الجنسيّة» (ص ١٣٦). طبعاً المقصود بالجنسيّة ههنا القوميّة. ونحن نتفهّم تماماً لماذا أكّد عمرُ وقطع في حكمه، فالاتحاديّون، أي جماعة الاتّحاد والترقّي، الذين أمسكوا بدفّة السلطة في إسطنبول، نكثوا بوعودهم الإصلاحيّة بعد أن كان لهم فضل وافر في إقرار الدستور العثماني لعام ١٩٠٨ الذي أَحدث في أَرجاء الإمبراطوريّة زلزالاً من البهجة؛ وقادوها سياسة قوميّةً وتعصّبيّة وعرقيّة وقمعيّة لشعوب الإمبراطوريّة، ومنهم العربُ والأَرمن، فإذا بعمليّة التتريك مبتغاهُم، وكلُّ مَنْ يناوئ هذه السياسةَ يُعتبر خائناً أو معادياً أو مارقاً! وهكذا حلّت القوميّة التركيّة الهمجيّةُ مكان الرابطةِ العثمانيّة الجامعةِ لشعوب المملكة.

ومن هنا على الإجمال أهميّةُ كتابِ عمر فاخوري، والغايةُ منه واضحة في عُنْوانه «كيف ينهض العرب». كما أنّ إلحاح عمرَ على عنصر اللغة مرجعُهُ خطرُ التتريك الداهم. في حين نعرف أنّ عناصر تكوين الأُمّة متفاعلةٌ مع بعضها جدليّاً، ولا سبيل إلى إسقاط أيِّ عنصرٍ في هذه السلسلة، ذلك لترابطها، وتأثيرِ كلِّ عنصرٍ في سائر العناصر وتأثيرُها فيه أيضاً. والدليل الجذّاب على موضوع عنصر اللغة في زمننا، في عمليّة التقويم القوميّ، والذي ينقض ما ذهب إليه عمر فاخوري، أنّ في الهند غابةً من اللغات وكان من براعة نهرو أنّه قفز فوقها، وجعل الإنكليزيّة اللغة الجامعةَ لعموم الهند. فهل هذا العمل السياسيّ محى عن الهنود صفتهم القوميّة، بزوال عنصر اللغة الأصليّة عنهم أم أنّ الإنكليزيّة باتت عنصراً قوميّاً، ولكنّه مستجدٌّ وموحِّد؟!

والأُمّة العربيّة سادرة، منذ ستّة قرونٍ، في نومٍ عميق لذا هي بحاجةٍ ماسّةٍ وجوديّة إلى ثورة فكريّة، تعينها على تلمّس وِجْدانٍ قوميّ متين. وهذا الخمول الفكريّ السائد بات طبيعة في أمّتنا المحتاجةِ إلى غاية كماليّةٍ تهزّها وتدعوها إلى السعي الحثيث لخلق كيانٍ حقيقيّ للعرب وديانةٍ جديدة لهم هي الجنسيّة العربيّة. والحياة ميدان صراع لا رحمة فيه، والغلبة للقوّة والمغلوبُ مصيره التشكّي والشعوب الصغيرة عُرْضةٌ للزوال والحقُّ إلى جانب القوّة. ولا مستقبل للعرب إلّا إذا تمسّكوا بقوميّتهم: «إنّ جامعة الجنس وحدَها الثابتةُ، إذ يمكن أن يردّ الإنسانُ ما سواها، بينا هو غير واجدٍ سبيلاً إلى نكران دمه الذي يجول في عروقه، والتاريخِ الذي خطّه أجداده على جبهة الدهر، واللغةِ والحضارة اللتين وضع كلّ منهما حجراً من أَحجارها» (ص ١٣٥). لهذا فنحن، لنعمل على إيقاظ الروح القوميّة عندنا، وَجَبَ أن نُعنى بتاريخ أَجدادنا الميامين، ونبعثَ الصَّفَحاتِ الزّاهيةَ في سجلّ هذا التاريخ الغابر. فإنّ «الفكر القوميّ درجة من درجات الرقيّ البشريّ... والشعوب التي بلغت شأواً عالياً من العلم والمدنيّة تقدّس قوميّتها وتتعصّب لها أشدَّ التعصّب» (ص ١٣٩). والدليل على ذلك ما يدور بين الباحثينَ الأتراكِ من جدالٍ حول بداية تاريخ الأُمّة التركيّة، أهو صاعدٌ إلى المنبع الطورانيّ في تركستان، أم أنّه يبتدئُ ويتكوّن مع حلولهم في بلادهم الحاليّة، وقد غَدَوْا عثمانيّين مسلمين؟ وهؤلاء عوّلوا على القوميّة وأحلّوها في مركزٍ سامٍ مقدّس. وما أَجدرَ أَبناءَ الضادِ أن يجعلوا الجنسيّة العربيّة قِوامَ حياتهم ومستقبلِهم. والجنسيّة تأخذ ههنا معنى القوميّة.

إنّ عمر فاخوري، الفتى الشابّ في مُقْتَبَل العمر، يخطّ في مذكّراته، هذه التي نشرتْ بعضَها المخطوطَ مجلّةُ «الثقافة الوطنيّة» (س٦، ع٦ (١٥ حزيران ١٩٥٧)، ص ٢١)، ما يشي بأنّه كان يحيا قلق المعرفة، واكتناهَ ما يدور في دنياه من أَفكارٍ كبرى، وهو الإنسان طريّ العود، ولكنّه بالغُ الحساسية. ويبدو من مذكّراته هذه نضج لافت في التعبير الأدبيّ، فكأنّه، منذ هذه البدايات، وُلد عمر الأديب الذي عرفناه بعدئذٍ بصولاته التعبيريّة المُبْهرة. يقول عمر: «أنا في ربيع العمر، لا أَتجاوز الثامنةَ عشرةَ، تركتُ المدرسة منذ شهرين، وقلبي طافح بالآمال الكبيرة والأَحلام السعيدة والمشاريع الواسعة!... نعم، خرجت من المدرسة، ولم يكن يستوعب دماغي إلّا كلماتٍ كبيرةً، ليس عليها مَسْحَةُ الوضعيّة والتثبّت، ولا أَعرف عنها الآن لذلك إلاّ معلوماتٍ غامضةً، وأَفكاراً مبهمةً مشوَّشة، كأَمثال الديمقراطيّة والاشتراكيّة والنواميسِ الطبيعيّة، وهلمّ جرّاً»!

أمّا المدرسة التي تركها عمر، كما ورد في نصّه القريب، فهي الكلّيّة العثمانيّة ببيروت التي كانت شهيرة بكلّيّة الشيخ عبّاس، وقد أَسّسها وأَدارها الشيخ عبّاس الأزهري، وكان لها دور تعليميّ ووطنيّ كبير، فقد خرّجت وطنيّين وشهداءَ، ينادون بالاستقلال العربيّ. وعمر فاخوري في كتابه «كيف ينهض العرب» كان يجاهر بالأَفكار التي كانت شائعة بين أَساتذته وهم أعلامٌ في الدعوة القوميّة، كما هي منتشرة بين أَقرانه من طلّاب الكلّيّة العثمانيّة، والذين سلكوا سبيل الاستشهاد من أجل نُصْرتها. على أنّ دعوة عمر فاخوري في كتابه قامت على اقتباس آراءٍ في القوميّة المتشدّدة، هي أَقرب ربّما إلى المنحى الجرمانيّ الذي «يقدّس» القوميّة ويشدّد على «التعصّب» لها، ولم يكن سلوكه مع هذا الموضوع كما صار، عندما داخلته الطراوة وأَخذ بالحسبان الروحَ الإنسانيّةَ وعواطفَ التسامح والتوادد، وذلك عندما تأثّر عمر في باريس بآراء أناتول فرانس ورومان رولان وغيرهما من حَمَلَة التنوير. أمّا عندما اعتنق عمر فاخوري، في السنوات السبعِ أو الثماني الأخيرة، من حياته الخاطفة، إيديولوجيّةَ اليسار، فقد تعامل، مع موضوع تعريف الأُمّة، في ضوء فكره الجديد. فهو، من حديثٍ له من محطّة راديو الشرق، الذي غدا بعد ذلك الإذاعةَ اللبنانيّة، وحيث كان يعمل، ينبّه في تعريف بناء الأُمّة، على بطلان الكلام على وَحْدَة الدم أو العرقِ في أساس بناء الأُمّة. فهذا زعم باطل يدحضه الواقع التاريخيُّ. ينبغي أن نعوّل في تعريف الأُمّة على العوامل الاجتماعيّة والجغرافيّة والتاريخيّة. في حين أنّ محتوياتِ كتابِ عمر «كيف ينهض العرب» لم تكن بعيدة تماماً عن الأَجواء التعصّبيّة. فكأنّ عمر فاخوري، الذي تلقّح بالفكر الاشتراكيّ العلميّ، يردّ على عمرَ الفتى الشابِّ الطالعِ إلى معترك الفكر والحياة. يقول في كتابه «أديب في السوق» (دار المكشوف، بيروت ١٩٤٤): «والذي نراه أنّ أَصحّ تعريفٍ للأُمّة، للأُمم على إطلاقها وللأُمّة الناشئة بنوع خاصّ، هو هذا التعريف الجامع المانع، على قول المناطقةِ: الأُمّة جماعة ثابتة من الناس، مؤلَّفةٌ تاريخيّاً، ذاتُ لغةٍ مشتركة وأرضٍ مشتركة وحياةٍ اقتصاديّة مشتركة وتكوينٍ روحيّ مشترك يجد عبارته في الثقافة المشتركة» (ص ٩٩).

هذا الكلام الأخير ماركسيّ مُحْكم في تعريف الأُمّة، ووَدَاعاً أيّتها المثاليّة السالفة. لكأنّ قائله هو صديق عمر الحميم، رئيف خوري، الذي خاض وَصال وجال في الفكر القوميّ العربيّ، وجَبَهَ أُستاذه قسطنطين زريق بجراءة واقتدار، في كتابه الردّ «معالم الوعي القوميّ» (دار المكشوف، بيروت، ١٩٤١)، حيث يوضح أنّ القوميّة، كما يذهب وَفْقَ رأينا، كارل ماركس في عبارته الشهيرة الباهرة، من أنّ «القوميّة وُلدت في السوق». يقصد بذلك أنّ تقوّضَ الإقطاع الأوروپيّ وقيامَ النهضة الصناعيّة ونشوءَ المُدُن حيث تكاثرت البرجوازيّة، وغيرَها من العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة، هي الدوافع وراء ولادة القوميّة. في حين أنّ قسطنطين زريق، أحدَ أَعلامِ الفكرِ القوميّ التقليديّ الخَطَابيّ، يقول بالحلول التبسيطيّة ويُتحفنا بالمواعظ الأخلاقيّة حول الجهاد الأكبر ويُغرقنا بالعموميّات، فكأنّ القوميّة جوهرٌ خالد، وإرثٌ غيبيّ، وموضوعٌ مناقبيّ ليس إلاّ! وفي كتابنا الذي وقفناه على «رئيف خوري، داعية الديمقراطيّة والعروبة» (دار الفارابي، بيروت ٢٠١٣) كلام مستفيض حول «رئيف خوري والمسألة القوميّة، مفكِّراً قوميّاً ومنظِّراً للوَحْدَة العربيّة» (ص ٤٢٢ - ٣٨٥).

وبعد، فقد حاولنا أن ننظر إلى عمر فاخوري الذي نُحبّه ونُجلّه، بنَصَفَةٍ وبنظرةٍ نقديّة بعيدةٍ عن الأسلوب الطاغي في التعظيم والتمجيد. فإنّ كيل المدائح، وصَوْغَ النعوت الباذخة، ليست من الدراسة العلميّة في شيء. وأَحسَبُ، مخلصاً، أنّنا، معشرَ التقدميّين، كما هو حال بقيّة الفرقاء عندنا مع الأُدباء والمفكِّرين، الذين انضوَوْا تحت أَلويتهم، وقد صدقت فيهم وفينا الآيةُ الكريمة: «كلُّ حزبٍ بما لديهم فَرِحون» (سورة الرُّوم ٣٢/٣٠)، نحن معشرَ التقدميّين نبذنا التقويمَ الراجح والتحليلَ النقديّ وجنحنا، في الغالب، إلى «سياسة أدبيّة». والسياسة ما دخلت شيئاً إلّا وأَفسدته. فآن الأوان لطرد الدعايةِ والحماسةِ والتحزّبِ والتبريرِ؛ ووجب علينا إكرامُ الحقيقةِ الموضوعيّة، فهي وحدها الباقيةُ والمجدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل