الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[45]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 20
الادب والفن


صبري يوسف

45. الولادة ثمَّ الحياة، ما رأيك بحقيقة الموت، كيف تنظرين إلى الموت وما أثره في نصِّكِ الإبداعي؟

د. أسماء غريب

لا أحدَ يُفكّرُ في الموتِ. نعمْ، هذه حقيقةٌ مُرَّةٌ، وما هيَ بالجريرةِ أبداً، ولا تعْنِي أنّ الإنسانَ لا يتّعظُ مِنْ لحظةِ الموتِ، أو أنّهُ لا يشغلُ بالَه بمَا سيؤولُ إليهِ جسمهُ بعدَ أنْ يُصبحَ جثّةً هامدةً. كلّ ما في الأمرِ أنّ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يفعل للموتِ شيئاً، لأنَّ هذَا الأخير هُو الحياةُ عينُهَا. وعندي لكَ عزيزي القارئ العشرات منَ الأمثلةِ لأثْبِتَ لكَ صحّة ما ذهبتُ إليهِ؛ فأنا مثلاً قبلَ أنْ أستيقظَ في صبيحةِ هذا اليوم، وأبدأَ في كتابةِ هذه المقالةِ كنتُ ميتةً، أيْ كنتُ في حالة نومٍ، والنَّومُ موتٌ لا يقومُ منه إنسانٌ إلّا بأمرٍ وتدخُّلٍ إلهييْن، ولو شاءَ الخالقُ لكَ ولِي ألّا نقُومَ مِنْ نَومِنَا، ما قامَ فينا ومِن النّاس أحد!

ماذا يعني هذا؟ لا شيءَ سوى أنّني بعدَ أنِ استيقظتُ ذهبتُ لتناولِ وجبةِ الإفطار، لأعوّضَ ما احترقَ فيّ منْ طاقةٍ خلالَ موتِيَ النّوميّ، إذْ بداخل جسدي كانتْ تموتُ وتحترقُ أشياء كثيرة، بما فيها الأفكارُ، وليسَ هذا فحسب، ذلك أنّ حتّى هذهِ اللّحظة الّتي أنا فيهَا أمام الحاسوب وأكتبُ ما أنتَ بصدد قراءته، هيَ موتٌ وحياةٌ في الوقت ذاتِه، فأنا الموتُ وأنا الحياةُ: موتٌ لأنَّني أحرقُ طاقةً فكريّة وأنا بصددِ العملِ، وحياةٌ لأنّهُ مِنْ أفكار ميتةٍ ثمّةَ أفكارٌ أخرى حيّةٌ في طريقِها للانبعاثِ لتُكَوِّنَ ما يُمْكِنُنِي أنْ أسَمّيَهُ بِخميرَةِ الكتَابَةِ والفِكْرِ. لكنْ دعكَ منّي هُنيْهةً يا عزيزي، وأنْصِتْ إلى سؤالي هذا: هلْ سبقَ لكَ أنْ حضرتَ حفلَ عزاءٍ ما؟ مِنَ المُؤكّدِ نَعَم. تأمّلِ الآنَ معي المُصطلح ذاته: حفلٌ + عزاء، كيْفَ يَجْتمِعَانِ؟ ثُمّ الاحتفالُ بمَن؟ والبُكاءُ على مَن؟ والعزاء في مَنْ؟ اعلمْ يا أيدكَ اللهُ بمحبّتِهِ وَغوثِهِ، أنَّ الموتَ حفلٌ واحتفالٌ؛ حفلٌ لورثة الرّاحل، وحفلٌ لحفّار القبور، وحفلٌ للفقهاء الّذين يأتون لتلاوة القرآن على روح الميت، وحفلٌ لمنْ سيأتون لتقديم عبارات المُواساة والعزاء: حفل لورثة الرّاحل، لأنّ كل واحد فيهُم لا سيّما الأبناء وهُم وَسطَ بكائهِم ودموعِهم وصراخِهم لا يبكونَ الرّاحل حقّاً، وإنّما كمَّ الذّكرياتِ الّتي جمعتهُم وإيّاه، فإن كانتْ طيّبةً دعوا لهُ بالرّحمة وحسن المآب، وإذا كانتْ سيئةً دعوا لهُ بالغفران إذا كانوا أصحاب نفوسٍ صالحةٍ، لكن لا تنسَ يا عزيزي، أنَّ هذا الدّعاء بالغفرانِ قد ينقلبُ إلى دعاءٍ على الميت بالخسارة والثّبور إذا لمْ يتركْ لهُم شيئاً يجعلهم يترحّمون عليه منْ بعده، أيْ إذا لم يتركْ لهم ما يرثونه عنهُ منْ عقاراتٍ وشركات وسيارات وما إلى ذلك. أمّا إذا كانَ للميتِ زوجةٌ جميلة وصغيرةٌ في السّنّ فحدّثْ ولا حرج، هي أيضاً مهما كانَ حزنُها عميقاً، فإنّ حرارةَ الحياةِ ستُفِيقُهَا مِنْ حُزنِها وتجعلُها تُفكّر في نفسها مرّة أخرى لأنّهَا تريدُ أنْ تعيشَ وتعيشَ، فالحياةُ فيهَا أقوى منَ الموت بغضّ النّظرِ عن الحالات الاستثنائيّة الَّتي تروي عن بعضِ الأرامل الوفيّات لذكرى زوجٍ راحل. ثمّ ماذا يا أحبّتي القرّاء والمتتبّعين؟ لقد نسينَا الجمهورَ الّذي يحضُر لتأدية واجب التَّعزية، النّاسُ وسط هؤلاء يا أعزّائي آخرُ منْ يُفكّرُ في الموتِ والميت، ففهُيم منْ يأتي لجَمْع بعضِ المعلومات، و"الشّمْشَمَةِ" على أخْرى، ومنْهُمْ مَنْ يأتِي بدافع الفُضول ليرى منْ هُو هذا الفقيدُ، ومن تكونُ عائلتُه؟ ومنهم منْ يحضرُ مراسيم الجنازةِ لأنّ الميت لهُ ديون عندهُ وهو قلقٌ عليها، ومنهُم من يأتي لأنّ الميتَ في حياته كانَ عدوَّهُ اللَّدود ويريدُ أنْ يراهُ أخيراً وقدْ قَهَرَهُ الموتُ وحقّقَ لهُ ما لمْ يستطعْ أنْ يُحَقّقَهُ هُو فيهِ حينما كان على قيد الحياة، وهلمّ جرّاً منَ الأشياء الّتي تُثبتُ أنّ الحياةَ هي جُلّ ما يُفكّرُ فيها معظمُ النّاس لا الموت، فحتّى الميتُ نفسه لا يفكّرُ ولا يشْغلُ بالَه أبداً بموقفِ الموتِ، ولا تصدّق يا عزيزي تلكَ الخرافات الّتي يحكونَها أثناء العزاء حينما يقولونَ لكَ لا تذرف الدّموع أمامَ الميت فإنّ روحَه تتألّمُ وتفزع منْ منظر بكاء الأبناء أو الأحبّة عليه، أيُّ هراء هذا؟ أوَلَمْ تسمعْ بقوله عزّ وجلّ في سورة عبس (33/37): ((فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ))، فالإنسانُ بمُجرّد أن يموتَ تقومُ قيامتُه وتأتي صاخَّتُهُ، لا يعودُ يفكّرُ في أيّ شيءٍ أبداً سوى في المصير الَّذي ينتظرهُ، أهوَ النَّعيم أمِ الجحيمُ؟ أيْ أنّه لا يقعدُ هناكَ بين المُعزّينَ ليُفَكّرَ في معنى الموت، أو سببهِ، أو في كيفَ أنّ ابنتَهُ أو ابنَهُ يتألمَان لفراقهِ، لا شيء من هذا يحدثُ بتاتاً، فهو في عالمٍ والنّاسُ منْ حولِهِ في عالم آخر تماماً.

لماذا لا يُفكّر الكثيرُ مِنَ النَّاس إلّا في الحياة؟ لأنّ الإنسانَ هو الحياة والموتُ عينهُما، والموتُ سرٌّ منَ الأسرار العظيمة وكذلكَ الرّوحُ، ولا يمكن الحديثُ عن الأوَّل في غيابِ الثَّانية والعكس صحيح. الرّوح سرٌّ، والموتُ سرّ، والحياة سِرّ ثالث، والإنسانُ كلّهُ سرّ الأسرار، لأنّهُ تجلٍّ من تجلّياتِ عقلِ الله، ولأنّهُ الوحدةُ الّتي تُوحّدُ كلّ شيء وتجمعُ كلَّ المتناقضات، وهذا ما يُفسّرُ كونَ الإنسان هو الحياة والموتُ معاً، وكونه الظّلمة والنُّور، والمكان والعدم، وكونه أيضاً الزَّمان واللَّازمان. لذا، فإذا تأمّلَ الإنسانُ في نفسِه، عرفَ اللهَ ووصلَ إليه عبر بوّابة الموت العظيمة. ومعرفةُ النّفسِ لا تتمُّ إلّا بالتَّجرُّدِ والتّواضُعِ، إذ، فقط حينما يتمُّ ذلك ينبثقُ أمامَ الإنسانِ نظامُ الكون البديع، ويتجلّى النُّورُ الَّذي هو المانحُ الأوَّل والأخير للطّاقة الأبديّة والحياة الخالدة.

أنا الشَّجرةُ، وأنتَ كذلكَ أيُّها القارئ، شجرةٌ لها فصولها المتتالية ورحلتُها المعراجيّة لبلوغ الكمالِ، والموتُ هو الماء الَّذي يتغذّى منهُ كلّ غُصنٍ في هذه الشَّجرة إلى أنْ تبلُغَ درجةَ التَّعرّي ثُم التّغشّي بالنُّور القدسّي فتعودُ إلى حالتها الأصل، شجرةً منْ نور هي شجرةُ الحروف الأولى، أو سدرة المُنتهى المُتجدّدَةِ باستمرارٍ والمُنْبعثَةِ منْ ذاتهَا أبداً، والرّجُل الصُّوفيّ العارفُ هو أكثر النَّاس معرفةً بأمر هذا الإنسانِ / الشَّجرة الَّذي لا يموتُ أبداً. وسعادة الصُّوفي تكمنُ في كونه يعيشُ ليموتَ، ويموتُ ليحيا، لذا، تجدُه أكثرَ النّاسِ جرأةً على الموت، فهو لا يهابُه وقد يحدثُ أنْ تُصبحَ لهُ عليهِ سلطة وسلطانٌ، فقدْ يموتُ العارف الصُّوفي متى شاءَ ذلك، والعارفةُ كذلكَ، وفي مرتبة أعلى يُلغَى الموتُ ويحدُثُ الرّفْعُ كمَا هو في حالة المسيح الَّذي يُعدُّ أقوى مثال على ما يمكنُ أنْ يحدُثَ منِ انتصارٍ على الموت، لأنَّ المسيحَ بلغَ درجةَ السّلام العليا، ولأنّهُ وحدهُ السّلامُ يقهَرُ الموتَ بالحياة الأبدية. وكلُّ ما يحكيه بعضُ المتصوِّفة عن الفناء والبقاء وما إلى ذلكَ من القصص ماهُو إلّا مُقدماتٍ لما قدْ يكونُ أشدَّ عُمقاً في حياةِ العارفينَ، فقدْ يصلُ بعضُهم إلى القُبّةِ الزّرقاءِ، وأعني بهَا أنْ يُحيِيَ الإنسانُ نفسَهُ بنفسِه، بعد أن يكونَ قد تجاوزَ كلّ مراحلِ الموتِ البدنيّ بدءاً منَ الموتِ الأحمرِ وصولاً إلى الموتِ الأسودِ الّذي يتمثَّلُ في مدى قدرة العارف على تحمّلِ الأذى منَ الخلقِ.
والحديثُ عنِ الموتِ والحياة لا بدّ يفضينَا إلى الحديث عن الزَّمانِ، فكلّ زمانٍ يُحيط بكَ أيُّها القارئ العزيز هو زمان وهميّ، وتلك السَّاعةُ الَّتي في معصمكَ تشير عقاربُها إلى زمنٍ مغلوط، فحياتك ليستْ بعددِ السّاعات أو الدّقائق الَّتي تمرُّ عليك، لأنّها تنفلتُ منكَ باستمرار، والحاضرُ بمُجرَّدِ أنْ تُفكّرَ فيهِ يُصبحُ ماضياً، لأنّ الزَّمانَ نفسه ينعدمُ أمامَ حقيقة الرّوح الكبرى، ولأنّ البعضَ يرونه إحساساً ذاتيّاً وداخليّاً لا علاقة له بالكونِ، ولا نستطيعُ حقّاً استحضارهُ خارجَ أنفسنا، والبعض الآخر يراهُ شيئاً واقعيّاً لهُ وجودٌ مستقلٌّ يمكنُ التَّحكّم فيه، لكن ثمّة من يرى أنّهُ فضاء يتمدَّدُ بالحركةِ، وفي هذا القول نفيٌ مطلق للزمان. وفي الحديثِ عنِ الزّمان حديثٌ عن المكان وعن القيّوميّة الإلهيّة، أمّا وكونهُ مرتبطٌ بالمكان فهذا ناتج عن تعلّقِ كلّ ما في الوجود بمركز الجاذبيّة، وهُو المفهوم الّذي عبّر عنهُ ربُّ العزّة حينما قال في سورة النّحل (15/16): ((وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ))، وأمّا عنِ ارتباط الزّمانِ والمكان معاً بالقيّوميّة الإلهيّة، فذلكَ لأنَّ اللهَ هو الحيّ القيّوم الّذي لا تأخذُه سِنة ولا نومٌ، وهذا يعني أنّ زمنَ اللهِ ومكانَهُ غير زمنِ ومكان الإنسان بتاتاً، فهو خالقُ الزّمان وليس لهُ مستقبل أو حاضر أو ماضٍ، ولذلكَ فإنّ الإنسانَ ما إن يموتُ فهُو يخرجُ مِنْ بُعد زمكاني مُعيّن ليدخُلَ إلى بُعدٍ آخرَ مُختلفٍ تماماً تُلغَى فيه كلُّ تلكَ الأرقام والسّاعات والشُّهور والأماكن الّتي اعتادَ عليهَا أثناء حياتهِ، وما منْ عبثٍ قال ربّ العزة في الآية 35 من سورة الأحقاف: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوَّلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)). فيَا حبّذا لوْ نموتُ عنْ أماكِنِنَا وأزماننا البالية كيْ ندخُلَ إلى المكانِ الحقّ، ونتذوّقَ الزّمانَ الحَقّ: زمنَ محمّد ومكانَ المَسيح، زمنَ إبراهيمَ وإسماعيلَ ومكانَ داوود وسليمان، بلْ زمنَ العشْقِ والسّلامِ، ومكانَ المَحبّة والهيامِ حيثُ الهجرةُ العظيمة إلى كعبةِ الجَسدِ حتّى نتمكّنَ جميعاً منْ تقديم كُلّ طقوسِ الحياةِ والخُصوبةِ والطّاقة والتَّجدُّد المُستمرّ، ونستطيعَ بالتَّالي الوُقوفَ بمُزدلفة القلبِ، ثمّ الصّعودَ إلى عَرفةِ الفُؤادِ لتصلَ النّفسُ والرّوحُ ذِروةَ المُنى، ويقذفَ كلٌّ منهُمَا مَنيَهُ لحظةَ الموتِ مِنْ أجْلِ بُلوغِ سِدرةِ المُنْتهَى أوْ شجرةِ السّلامِ والحياةِ الأبديّةِ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع