الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجه الباطني للإسلام

الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي

(Altaib Abdsalam)

2019 / 1 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


بداء لا بد لي من الإشارة و الإشادة بأهم أسفار هذا العصر الفكرية و هما سفري "تكوين العقل العربي و بنية العقل العربي" للراحل محمد عابد الجابري لما يتيحانه للقارئ من إستبصار عميق للفكر العربي و بالتالي الإسلامي.
لكن و بالرغم من سعي الجابري للإلتزام بمنهجية أكثر حيادا، إلا انه وقع في كثير من التهافتات الإيديلوجية، و ربما روح السياسي فيه هي التي ظهرت، فهي ليست عقلية تأمل و فهم و حياد بل صراع و محاججات و قد تلقف هذا النفس العدائي في خطابه المشارقة فنازعوه و خاصموه.
ما يهمني في مقالي هذا هو محاورة مقالة الجابري في شأن العرفان و كيف أن سلطة العرفان التي خرج من تحتها التشيع و التصوف هي سلطة من خارج الإسلام الصحيح و سيلان للدين الزرداشتي و المانوي في الإسلام.
مشكلة الجابري الاولى انه أفترض انه ثمة بداية إسمها الإسلام قام بالتأريخ منها و كأنها لحظة مقطوعة من سياقها و الإتصال الحضاري الذي كان الإسلام حقبة فيه، و بعد ان رفع هذه اللحظة التاريخية من صيرورتها و قرأها فقط في الأتموسفير العربي الذي انتجها راح يقدم محاكمات تفتيش للإسلامات المشرقية و يكفرها و يلقي بها للبحر، و دافعه لذلك حلم أيديلوجي إسمه "الحداثة"، فإن كان خيرا من دعاة العلمانية المستغربين فهو دعا لعلمانية من داخل الثقافة و المعقول، و هذا إستبطان لذات الهم لدى المستغربين غير أنه يطيل الطريق و يبقي الأخر الغربي النموذج الذي يتهافت لإدراكه و كأنه الغاية المنزلة.
و لكن فلنعد للمتن الإسلامي لنصغي إلى" صوت الغيب" الذي ينبض فيه، حتى نستطيع فهم سلطة العرفان التي زعم الجابري انها جاءت للإسلام من خارجه، من الأتموسفير الفارسي.
اليس الإسلام نفسه منهجا عرفانيا؟، بإلاحرى اليست النبوة نفسها عمل عرفاني؟
و هنا أذهب في تأملاتي حول العلاقة مع "الخفي الحاضر"، مع الغياب نفسه، بل و لما الغياب اساسا يحضر بوصفه السلطة التي لا تقهر؟
الغياب هو لحظة البداية، هو اول القصة، هو البذرة التي صارت نحن، هو الرحم الذي ينجب.
لكن هذا يلزمنا بالبحث عن معنى الغياب الذي تخيله الجابري، من هناك نستطيع تفسير نتائجه.
الجابري يقول بإن الزمن في الجزيرة العربية هو زمن الغيابات لا الحضور، الزمن المتقطع لا الزمن المتصل، الزمن الذي يجعل الاشياء سابحةً في فردانيتها من دون صلةٍ او أسباب تجمعها، الاشياء حولهُ متشظية.. عابرة،تظهر فجاءة و تختفي فجاءة، لذا فلم يرى العربي العالم بعين الاسباب بل بعين المعجزات، بعين المطر الذي ينزل فجاءة دون ان يقيم العلاقة بين الرياح و ماء البحر و درجة الحرارة.
هنا تهافت الجابري جدا، فلعله أستبصر الأمر بعين إيجاد الحل السهل او الاكاديمي الذي يريد إعطاء الإجابة الواضحة لتلاميذه، لا بعين المفكر الذي يغرق في الاشياء و يقف إزاءها يابس الحلق مادا إصبعه نحو لا إتجاه بعينه.
رسم الجابري "طريق الحداثة المعصوم" ثم نقب في التاريخ عن "نقطة الضعف في تاريخنا" فذبح الكبش المشرقي.
الجابري تهافت لسببين،الاول ان منهجه الاوروبي "التجريبي" يمنعه من الإعتراف ب حدس العربي البدائي في معرفة التغيرات المناخية و الإتجاهات و البناء و التطبيب و معرفة مواقع النجوم و إتجاه الرياح للإبحار، و هو ما انتقده ليفي شتراوس في كتابه" الفكر البري" و إن كان نقد بصورة اشد جذرية على يد نيتشه.
المنهج الاوروبي الذي يفكر به الجابري يظن ان العالم "الحديث" لم يوجد إلا بعد "ان صار هو حديثا" فأستعمر العالم لينقذه من تخلفه.
التهافت الثاني و هو الممتد من الاول، هو تبذير الجابري لمفهوم الغياب و فهمه من المدخل الضيق الذي يفضي به لإيجاد مكان "التفكير بالمعجزة" في العقل العربي و هو ما ادى في إستنتاج الجابري لغياب التفكير السببي الاوروبي الحديث عن ذهن العربي البدائي.
الجابري إستثمر كامل التاريخ ليقول ان "التقدم" للعرب و الإسلام مرتهن برمي "العرفان" اي العقل المشرقي في البحر و تنصيب العقل المغاربي الذي هو الأقرب جغرافيا و ثقافيا إلى باريس "عاصمة الانوار".
لكنني هنا اريد التفكير في مسألة "عرفانية الإسلام نفسه".
النص القرأني هو إمتداد للنص التوراتي بإعتراف القرأن نفسه بيد ان التوراة حرفت.
و لو عدنا إلى تاريخ التوراة و ظروفها سنجدها حصيلة إلهامات و تلاقي ثقافات عدة و غزيرة على مدى خمسمئة عام، لقاءات إلتقى فيها العبرانيون بالبابلين و السومريين و المصريين فأثروا فيهم و تأثروا بهم و كل مرة كانوا يصيرون "شعب الله المختار" لكن بطريقة جديدة، كل مرة كان يتغير نقاؤهم المفترض إلى حالةٍ أخرى، في لقاءتهم الطويلة تلك إلتقوا بالسريانيين و الهة السريانيين، فاخذوا منهم الكثير من الاسماء و المعتقدات.
ما اعنيه هنا انا التوراة هي نتاج صيرورات طويلة حية و حاضرة تشكل الإتجاه الاوضح لإي حفر جينالوجي لتوثيق الفهم بالقرأن الكريم.
لكن فلعد مرة أخرى لمفهوم الغياب و نحاول تفسيره في الأتموسفير العربي.
تقول سورة التكاثر "الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر"، سبب الأية معروف و هو أن ثمة مناظرة بين قومين في "أيهم اعز نفرا" فتباهى كل بحاضره حتى إذا نفذ واقعهم عادوا ليثبتوا الجدارات و الإستحقاقات ب "ماضيهم و غائبهم"، عادوا إلى شواهد التاريخ ليتباروا على اصالة التاريخ، عادوا إلى البدء البعيد كمرجعٍ للشرعية، إن الماضي يظل ابداً صكَ حرية الحاضر و حياته، و ليس الماضي بوصفه حاضر تلاشى بل بوصفه مسكون بالغياب، و للغياب سحره الخفي في الروح البشري، الروح التي يغويها دوما ما ليس بين يديها، الخفي في مكان ما، الخفي الذي تنتظر بترقب خطواتها القادمة من عتمته.
الخفي الذي كلما كشف النقاب عنه إتسعت صحراؤه و تجددت ذلك و انه الخليط بكل حضور.
حالة النبي صلى الله عليه و سلم هي حالة باطنية بإمتياز، فالنبي يتلقى الوحي من كائنات علوية غائبة، يتواصل معها وحده، يرفع إليها خبز لغته فتعجنه قرأنا إلاهيا مسكون بحرارة المعنى و مسرجا خيله ليلتقي بالحقيقة.
و النبي يرى في رسالته إمتدادا لرسالة موسى عليه السلام و إبراهيم الاول، نقطة البدء و الشرعية الاحق و ذلك ما تشير إليه الأية بوضوح في سورة الأعلى "إن هذا لفي الصحف الاولى، صحف إبراهيم و موسى".
فكان من الطبيعي أن يسير الفهم النبي لحالته تلك أنها لقاء بالملاك جبرائيل، و كان طبيعيا ان يذهب إلى عالم الأموات و يرى الجنة و النار و يرى مشاهد عرفانية و انواراً إلاهية ليلة إسرائه و معراجه.
هذه كلها لحظات يسمو فيها الإنسان عن محدودية شعوره الخاص و يتصل بغيابٍ يقوده إلى ما هو ابعد من واقعه، غياب هو وتيرة الآتي و قلبه النابض.
و للحالة النبوية هذه تجلياتها الأقل في حياة الكاتب و المؤلف و ذلك بإشارة من النبي نفسه في حديثه أن للنبوة ثلاث و سبعون شعبه منها الرؤية الصالحة، و الرؤيا يمكن ان تندرج في مفهوم الإلهام و التأمل حيث يحدث الغياب الحسي و ينتعش الحضور الحدسي.
إن الغياب بالنسبة للحالة النبوية هو معين الوحي، حيث تحدث الخلوة الخاصة و المناجاة السرية بين النبي و الله.
فموسى عليه السلام غاب فوق الجبل اربعين يوما عن قومه و تلقى من الله الواح العهد.
و الرسول الكريم غاب في غار حراء غيابا حسيا و حدسيا، ثم أل الغياب بعدها إلى الغياب الحدسي و هذا مشهور في التغيرات الجسمانية التي تحدث للنبي و هو يصغي للوحي.
هذا الغياب هو الواسطة بين العالمين، عالم الملك و الملكوت، هو البرزخ الذي تستكين فيه الحوارح بل إرادة للإرادة إلاهية.
هو المعبر السري، بين العدم و الظهور، هذا ما لم يره الجابري و هو يعدم التصوف و يعزوه لإسباب مادية و سياسية بحت و يربطه بالعقائد الهرمسية المشرقية.
فالباطن إذا جزء من الحال النبوي، لإنه العلاقة بالغياب الذي يفضي للإتصال بالفكرة الأسمى و القول المنزه، و من هنا نشاهد في احوال التصوف الحالة النبوية نفسها من تأس بما هو موجود، و إعادة إحياءٍ للحرارة النبوية.
اخيرا لا بد من فهم التصوف في الأفق الحضاري المحيط به و هو في تأويلي رد فعل على بيروقراطية الحياة المادية و سجنها للإنسان في إنظمة مؤسساتها رأسمالية ام إشتراكية ام حقوقية ام ام ام.
إنها صرخة الروح البشرية في وجه أغلال المادية و عصفها بالفطرة البشرية من رغبة في التحرر و السمو و الإلتذاذ بالفردانية، و انا هنا اعني التصوف الفكرة و ليس التصوف المؤسسة فمؤسسة التصوف لا تختلف عن مؤسسة الأصولية عن مؤسسة التعليم كلها أعتقال للمعنى في أفهام معينة.
و هذه هي نية النبوة الأساس لا النبوة المؤسسة، نيتها تمزيق "لفظ الحقيقة" و الإصغاء لدينميكية الحقيقة و صيرورة الوجود الذي هو حدوث لا ينتهي و اي نقطة به ذهاب و اياب و طريق و عكسه، إنها فك لأسر المعنى و لا شك انها نقلت بئاتها خطوات بعيدة جدا للأمام و الحالة النبوية خير واقع لزعمي.
الجابري اراد ان يقول ان التصوف هو مؤسسة التصوف و من جهة أخرى لم يتعمق في حالة التصوف فبحث لها عن "تهمة فكرية جاهزة"، لينسف التصوف المعنى.. و حينها يستطيع ان بحطم المؤسسة بنفخة هواء، الجابري الذي عله تعامى عن ان المغاربة منذ الموحدين و المرابطين هم من أقاموا خلافتهم تحت دعوى "المهدوية"، و أن التصوف دخل السودان و المغرب الأفريقي من بوابته "البيانية"، ذلك و أن التصوف إرتباط بما هو أعمق، إرتباط بالسر الذي كان اول حرف قيل في كلمة الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة