الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تورغينيف وعصره: القسم الأخير

دلور ميقري

2019 / 1 / 25
الادب والفن


بعدما كتبنا عن واقعية تورغينيف، علينا الآنَ التأكيد على أن الشخصية الرئيسة في غالبية أعماله، إنما هوَ الإقطاعي؛ إن كان رجلاً أو امرأة. قدرة الكاتب المدهشة على تصوير طباع هذه الشخصية، المعزولة في حصنها الريفي، علاوة على الغوص في نفسيته ـ هذه القدرة، تعود ولا شك لكون المؤلف نفسه من تلك الفئة الاجتماعية. بيد أننا علينا، من ناحية أخرى، ألا نخلط بين الانتماء الطبقي لتورغينيف ومنحاه الفكري.
إذا علمنا أن روسيا القرن التاسع عشر كان نظامها إقطاعياً بشكل شبه مطلق، يُمكن فهم ما حظيَ به الكاتب من شعبية كبيرة في بلده. ذلك أن جمهور قرائه سيكون في هذه الحالة هوَ الأوسع، بما أن الأوساط المثقفة، وبالأخص الطلبة، قد انحدرت من الريف بشكل أساس. على ذلك، نتفهم احتجاج الندّ الأدبي، دستويفسكي، بأنه يحصل على عشرة بالمائة مما يجنيه تورغينيف من كتبه وعلى الرغم من كون الأخير يمتلك إقطاعاً كبيراً يعمل فيه ألفا قن!
وعودة للمنحى الفكريّ للكاتب، لنحاول معرفة ما إذا كان قد شكّل أيضاً مضمون مؤلفاته، رواياتٍ وقصصاً. حيث كنا أشرنا لأفكاره الليبرالية، الداعية لتحرير الأقنان، والمتسببة في إحدى المرات بفرض الإقامة الجبرية عليه في ضيعته. ولكن أفكاره لم تهيمن على شخصيات رواياته، بما فيها الأكثر ثقافة، إلا في حالات نادرة. إذ اكتفى بنثر لذعاته هنا وهناك، المنتقدة طبيعة النظام السائد وكيف تجعل غالبية السكان ( وهم الفلاحون بالطبع ) غارقين في لجة الجهل والحاجة والذل. مع ذلك، نأى بنفسه عن الأفكار الشمولية، التي كان أصحابها الأدباء ( ولدينا نموذجاً كلّ من دستويفسكي وتولستوي ) ينظرون إلى أنفسهم كأنبياء، ألقيت على كواهلهم رسالة سامية يجب أن تُبرز في أعمالهم الإبداعية. النموذجان المذكوران آنفاً، وهما من جيل تورغينيف، كأنما كتاباتهما كانت على شكل نذيرٍ مما سيدهم روسيا في العقد الأول من القرن التالي، حينَ وقعت بقبضة البلاشفة، الذين أتوا بأفكار ماركس وأنجلس ليطبقوها على واقع مختلف تماماً عن أوربا الرأسمالية والمتطورة: هذا وذاك، كان يرى الخلاصَ كامناً في إشعاع الأرثوذكسية الوطنية، بعد تنقيتها طبعاً من شوائب رجال الدين، لتعود إلى نقائها مثلما أرادها السيد المسيح، الداعي إلى السلام والمساواة والمحبة. بل لقد ذهب دستويفسكي إلى أبعد من ذلك، بأن حمّل الكنيسة الروسية مهمة خلاص البشرية بأسرها.

***
مع ذلك، كانت روسيا تموج بالأفكار الجديدة، الفوضوية والاشتراكية وحتى العدمية، ولم يكن ممكناً تجاهل ذلك من لدّن كتّابها البارزين آنذاك. الاتجاه الطبيعي، كان قد حقق انتصاره على الرومانسية في قلعة الرواية عصرئذٍ؛ فرنسا. تورغينيف، كان أقرب إلى تلك البلاد ( وأوروبا بشكل عام ) من ذينك الندّين الأدبيين، حيث كان يقضي أوقاتٍ طويلة كل عام في باريس بشكل خاص. ثمة، صادق كبار الكتّاب؛ مثل زولا، المتمسك بالاتجاه الطبيعي، وفلوبير الواقعي. بلزاك، وكان قد رحل قبل بضعة أعوام وهوَ في أوج رجولته وعطائه، كان يتبنى ما دُعيَ بالاتجاه الشرعي؛ أي المنادي بإعادة الملكية. لم يقتصر اتصال تورغينيف بفرنسا على الجانب الشخصيّ، وإنما أعماله أيضاً راجت هنالك بشكل جيد، بترجمتها الفرنسية ومنها إلى لغات أوروبية أخرى. جمهور القراء في الغرب، ربما جذبته الأجواء الروسية لروايات تورغينيف، بما تتسم به من هدوء ووداعة ومرور الزمن بطيئاً على مواطنيه غير شاعرين بما يعتمل به العصرُ خارج حدود بلادهم من تطورات عاصفة.
الغريب، مع كل ما عرفناه عن واقعية كاتبنا، ذلك الهجوم عليه من قبل ندّيه الأدبيين بالذات، دستويفسكي وتولستوي، اللذين اتهماه ( كما جرت الإشارة إليه في مكان آخر من دراستنا ) بأنه يحاول فرض أفكار الأوربيين على واقع بلاده. ربما في الوسع تفهّم جانبٍ من ذلك الهجوم، حينَ نضع صوبَ أعيننا أشهر روايات تورغينيف ( وليست أهمها بالضرورة )؛ وهيَ التي جلبت عليه نقمة الجيل الجديد: إنّ " الآباء والبنون "، وباعتراف مؤلفها، فشلت في إيصال فكرته عن مثال المثقف العدمي، الروسي. لقد تعرضنا لهذه الرواية بشيء من التفصيل، فيما مضى من دراستنا. شخصياً، أعتقد أن ذلك الفشل مرجعه إلى كون من تنطّع لدحض فكرة الشاب العدمي ( طالب الطب بازاروف ) لم يكن سوى بعض الإقطاعيين من ذوي العقلية الضيقة والثقافة الضحلة. على الرغم من هذه الحقيقة، إلا أن مؤلف الرواية لم يحد فيها عن واقعيته؛ بل العكس، على رأيي، هوَ ما حصل: إذ أنه لم يُسقط فكره على أي من شخصيات الرواية الرئيسة. ولو جعل أحدهم نداً حقيقياً لبازاروف، لأصيب عمل المؤلف الإبداعي بثلم فادح وفقد واقعيته. بالنسبة لدستويفسكي، الذي يُحرك أبطال رواياته في بيئة شبه برجوازية، وهي العاصمة بطرسبورغ، سيكون أمر إيجاد هكذا ندّ ميسوراً بطبيعة الحال. أما في الريف، فلا يمكن ذلك إلا بتزييف الواقع.
مع ذلك، فإن هذا الثلاثي، الأدبي، نفذ من الأرض الروسية إلى العالمية بفضل ما اتسمت به أعمال كل منهم من واقعية بالدرجة الأولى. كذلك، بالنسبة لندّي كاتبنا، فإن حديثنا عن أفكارهما الشمولية لا يعني أنهما أسقطاها اعتباطاً على أعمالهما. فبقي فكر كلّ منهما معروضاً جنباً لجنب مع الأفكار المختلفة لشخصيات الرواية. حتى لقد دعيت الرواية الدستويفسكية من لدُن الناقد الروسي الكبير، باختين، ب " الرواية المتعددة الأصوات ".

***
من هذا الباب، سأدخل إلى مسألة الخصومة الأدبية المريرة بين كلا الكاتبين العظيمين، تورغينيف ودستويفسكي؛ وكنت فيما مضى قد تطرقت إليها من الناحية التاريخية. ولكنني هنا، سأحاول عرض تأثر أحدهما بالآخر في عمله الأدبي. وأقول بدءاً، أن دستويفسكي الذي يصغر ندّه سنّاً بثلاثة أعوام، كتبَ أعماله في ظروف قاهرة لم يعرفها الآخر؛ بل ولا أيّ كاتب على الإطلاق. عدا عن حقيقة، أن الاعتقال والنفي، على خلفية اتهام دستويفسكي بالانتماء لجماعة ثورية، قد فوتّ عليه نحو عشرة أعوام من الكتابة. بشأن التأثير الأدبيّ المفترض، اكتفيتُ بمثال واحد لكل منهما: " فيوض الربيع " لتورغينيف، مع رواية دستويفسكي " الأبله ". فضلاً عن تلميحات لأعمال أخرى ثانوية.
ليسَ بلا مغزى، أن الروايتين المذكورتين اعتبرتا الأهم لكاتبيها، وما فتأت كلاهما تحظى باهتمام الأجيال الجديدة من القراء. بالطبع، سأتجنب الخوض في الأسلوب لكل من الكاتبين وكذلك تحليل عمله المعروض. كل ما هنالك، هيَ ملاحظتي لمشاهد متشابهة في الروايتين ( مع التأكيد على أسبقية ‘ الأبله ‘ سواء لناحية تاريخ انتهاء الكتابة أو النشر )، عززت يقيني بتأثير احداهما على الأخرى:
في الصفحة 55 ج2 من " الأبله "، نجد الأمير يتدخل ليمنع الضابط من ضرب ناستاسيا. وتكون آجلايا حاضرة، تشاهد كل شيء؛ مما يجعل قلبها يتعلق بالأمير لشجاعته وشهامته.
تقريباً نفس المشهد، يتكرر في رواية تورغينيف؛ عندما تصدى بطلها سانين للضابط فون دونغوف، الذي أهان الفتاة جيما. المرأة الارستقراطية، ماريا، تعرف الضابط وهو من يحدثها بالقصة؛ ما يؤثر ذلك عليها، فتصمم على الاستئثار بغريمه الشاب.
كوليا الفتى ( في رواية الأبله )، تطابق شخصيته تقريباً شخصية شقيق جيما؛ حيث كلاهما يحاول مساعدة البطل في التقرب من حبيبته ويقوم بنقل الرسائل بينهما.
في الصفحة 458 ج 2 من " الأبله "؛ نقرأ هذه الجملة على لسان ليبديف: " ومتشيّع لذلك المذهب العدمي المعاصر، الذي أوضحه السيد تورغينيف ".
ص 516 ج 1 من " الأبله "؛ يرد أنّ ماريا كانت تنوي أن تذهب من موسكو الى اوريل. البلدة الأخيرة، ولد فيها تورغينيف.
كذلك وجدتُ شخصية ليبديف في " الأبله "، قريبة الشبه لشخصية ( الرجل العالة ) في رواية تورغينيف " ملك لير السهبي ".
ص 190 ج1 من " الأبله "؛ يقول الأمير لآجلايا، أن هيبوليت ما كان يريد الانتحار قبل أن تقرأ هي اعترافه. تذكرنا الحادثة بالعـدمي، في قصة تورغينيف " توك توك توك ".
ص 191 ج 1؛ تسأل آجلايا الأمير، ما إذا كان يظن نفسه مارشالاً يقاتل نابليون. أيضاً العدمي في قصة تورغينيف، آنفة الذكر، كان مثاله نابليون.




























التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا


.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف




.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??