الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيش الطين

عضيد جواد الخميسي

2019 / 2 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


( Terracotta Army ) ، عبارة عن الآلاف من النماذج الطينية بالحجم الطبيعي للجنود والخيول والعربات التي توزعت حول الضريح الكبير للامبراطور " شي " اول امبراطور للصين ومؤسس سلالة تشين . ويقع ذلك الضريح الضخم بالقرب من منطقة يشان فى مقاطعة شانشى وسط الصين .
كان من المرجح أن يكون الغرض من وجود هذا الجيش بمثابة كتائب عسكرية لحماية الضريح أو لخدمة الامبراطور في الحياة الثانية ، وقد تم اكتشاف الموقع عام 1974 م ، وتوفر تلك المحاكاة للجيش نظرة فريدة في الحرب الصينية القديمة من الأسلحة إلى الدروع وحتى العربات المدولبة لأركان قيادته .
بعد أن يئس " شي هوانغ دي " من العثور على سر الخلود ، عمد الى تأسيس الجيش الطيني الفخم ، كي ينال الاسم والتاريخ معاً ، والذي يتالف من 7000 محارب ، وأكثر من 600 حصان ، و 100 عربة . ويعتبر موقع الضريح واحداً من مواقع التراث العالمي لليونسكو في الوقت الحاضر ، على الرغم من أن المقبرة الداخلية لم يتم كشفها حتى اليوم .

الإمبراطور الأول للصين
كان شي هوانغ دي (المعروف أيضا باسم شي هوانغ تي ) ملك " وي " ، الذي جعل من الصين موحدة عام 221 ميلادية ، ثم أسس دولة تشين . وحكم شي هوانغ دي كأول إمبراطور للصين حتى وفاته في 210 ق.م . فكانت فترة حكمه قصيرة ومليئة بالأحداث والكوارث ، وأن معظمها كانت سيئة الصيت بما يكفي لكسب شي هوانغ دي صفة الطاغية و مريض بجنون العظمة.
ومن بين تلك الحوادث التي شهدت فترة بناء سور الصين العظيم ، حرق جميع الكتب والمؤلفات والمخطوطات المحفوظة آنذاك ، فقد دُمرّت الآلاف من الأعمال الأدبية والفلسفية ، وذلك بجعلها وقوداً لأفران فخر الطوب لغرض بناء القصر الملكي الفخم . وكما يبدو فأن الإمبراطور كان حريصاً بشكل خاص في الحصول على سرّ الخلود ، ولا شك أن السعي وراء ذلك ، هو المزيد من الدوافع خلال نجاته من ثلاث محاولات اغتيال فاشلة ، فقد أُنيطت للعلماء مهمة اكتشاف الإكسير الذي يطيل الحياة ، بارسال مبعوثين من الشباب الأقوياء عبر البحر الشرقي بحثاً عن " بنغلاي" أرض الخالدين الأسطورية .
فشلت المساعي الكثيرة لإطالة أمد حياة الامبراطور بشكل غير طبيعي ، مما جعلته يتراجع عن مطلبه ، ولانه كان حاكما مستبدّاً ، فقد أمر ببناء ضريح ضخم ، يُدفن فيه بعد وفاته بدلاً عن مطلبه في أكسير الحياة الذي لم يتمكن من الحصول عليه .
بدأت المباشرة في المشروع الضخم في السنوات الأولى من عهده ، وقد تطلب ذلك قدراً هائلاً من العمل ليصبح جاهزاً ، وعليه أُنشأت منطقة إدارية في موقع العمل ، وأمر الإمبراطور بإعادة توطين 30.000 أسرة صينية قسراً وتكليفهم بمهمة بناء أكبر مقبرة على الإطلاق في تاريخ الصين أو أيّ مكان آخر في العالم القديم . وفي نهاية الأمر ، أدرك الإمبراطور بأن الوقت قد بدأ ينفد ، فبادر بإرسال مئات الآلاف من العمال بالسخرة لدفع المشروع على الانتهاء . وبالمحصلة قد يتذكر الإمبراطور شي هوانغ دي بطريقة أو بأخرى بعد فترة طويلة من حكمه ، من أن جيش الطين قد حقق له ما أراد .

ضريح هوانغ دي
تم اكتشاف مقبرة شي هوانغ دي عام 1974 م ، والتي هي عبارة عن مدفن كبير متعدد الاضرحة ، وتغطّي مساحة كبيرة من الأرض ،(35 الى 60 كيلومتر مربع) عند سفح جبل" مت لي " بالقرب من ليشان (لينغ تونغ الحديثة) ، وتبعد 50 كم عن شرق عاصمة شيان يانغ في مقاطعة شنشي وسط الصين . ظل ضريح الامبراطور على حاله دون ان تطاله يد الاكتشاف ، لكن جيشه الطيني المثير للدهشة تم الكشف عنه بمراحل ، وقد نالت المقبرة بجدارة لقب "أعظم مقبرة في العالم". وتتخذ المقبرة المطمورة شكل هرم بثلاثة أبعاد ، ويبلغ محيطها 1640 م ، و قاعدة كل جانب فيها 350 متراً و بارتفاع 60 متراً، والمقبرة محاطة بجدار مزدوج .
تقول الأسطورة أن المقبرة تحتوي على ثروات هائلة ولكنها مزروعة الفخاخ والكمائن لضمان بقاء الإمبراطور راقداً بسلام و إلى الأبد. وصف المؤرخ " سيما تشيان "(146-86 ق.م) الفخاخ والكمائن بكتابه " شجي " بما يلي :
(تم جلب أكثر من 700.000 سجين كعمالة إلى هناك . حفروا ثلاثة أمكنة واسعة من الأرض، وسكب فيها البرونز السائل ليجري فيها مثل جريان الماء من الينابيع ، لحماية التابوت الصخري . وتم نقل الموظفين المسؤولين والأشياء غير العادية والقيّمة وكذلك منازل المقيمين لشغل المساحة الواسعة . لقد أمر [شي هوانغ دي] الحرفيين بصناعة الأقواس التي تطلق السهام تلقائياً لتصيب أيّ شخص يمرّ من أمامها فوراً ، واستخدموا الزئبق وجعلوا منه نهرين ، " جيانغ" و " هي " ، والبحار العظيمة ، حيث يجري فيها الزئبق دوئما انقطاع . كان في الأعلى حرّاس السماء ، ولوازم الموت تفعل فعلها على الأرض .) ( ص318)
كانت الخريطة الهندسية لمكان المقبرة بتصميمها الجغرافي وسقفها الكونّي الملوّن تعد رمزاً لمركز الإمبراطور ، كإبناً للسماء وحاكم الإله على الأرض . وكما لاحظ المؤرّخ تشيان أن زوجات وجواري الإمبراطور قد دُفنَّ أيضا مع الإمبراطور الميّت ، بصحبة العديد من الحرفيين والعمال ، وذلك من أجل الحفاظ على سرّية الثروات الطائلة للإمبراطور على مدى التاريخ .

محاربو التيراكوتا
لحماية ضريحه أو ربما حتّى لضمان وجود حارسه الشخصي في الحياة مابعد الموت ، ذهب شي هوانغ دي أبعد بكثير عن أسلافه ، إذ كان لحكام الصين القديمة عادة تمثالان أو ثلاثة كحرّاس لهم بجانب أضرحتهم ، لكن هوانغ دي جعله جيشاُ كاملاً من التماثيل لحراسته .
إن جيش تيراكوتا هو في الواقع واحد من أربعة جيوش محتمل وجودها حول الضريح ، وأن هذا الجزء الذي تم حفره الى الآن على بعد 1.5 كيلومتر من الضريح والذي يقع على الجانب الشرقي ، ولربما يُعثر مستقبلاً على مجموعة اخرى من التماثيل في الجوانب الثلاثة المتبقية من المقبرة . حتى ان هذا الجزء أو الجانب من المقبرة لم يتم التنقيب عنه بالكامل ، فقد نقب علماء الآثار لثلاث حفر فقط من أصل أربعة .
الحفرة الرئيسية من مجموعة الأربعة التي تحتوي على الجيش الطيني والتي تم اكتشافها ، تبلغ أبعادها 230 متر طولاً ، 62 متر عرضاً ، وعمقها من 4 إلى 6 أمتار. كانت تضم بداخلها حوالي 6000 جندي مشاة بطول أكثر من الطول الطبيعي للفرد الصيني ، إذ يتراوح طول التمثال من ( 1.8إلى 1.9 متر) . أما العربات والخيول تقتسم الحفرة من على جانبيها ، وهذه الحفرة يرتكز سقفها على أعمدة خشبية ، ومقسّمة إلى عشر ممرات وجدرانها مبنية بالطوب. أما الأرضيّة كانت صلدة جدا وكأنها خرسانية واكتست بأكثر من 250 ألف قطعة من السيراميك . أما الحفرة الثانية ، والتي كانت أصغر قليلاً وتشبه شكل الحرف R بتصميمها ، فقد كانت تضم 1400تمثالاً من جنود المشاة فقط ، والحفرة الثالثة كانت بقياس 21 متر طولاً و 17 متر عرضاً وتضم فرسان وقادة الجيش لتشبه موقع قيادة متكامل في الميدان . وعلى ما يبدو فهي محاولة واضحة لإعادة تأسيس جيش كما الحقيقة بالضبط .
وإلى جانب قوات المشاة ، يضم الجيش 600 حصان وما يقارب 100 عربة ، يتوزع فيها قادة الجيش وفرسانهم ، ولديهم من كتيبتين إلى اربعة من الخيول . تم وضع الجنود في صفوف منتظمة وجعلهم بأوضاع قتالية مختلفة ، فمعظمهم كانوا واقفين بينما البعض الآخر رابضين . ويظهر من بين تلك المجموعة القتالية من الجنود، تماثيل لضباط يبدون أكثر طولاً وضخامة من جنودهم ، وكانت صنوف المحاربين تتوزع ما بين الفرسان ، رماة الأسهم ، رماة الرماح ، العربات ، المناوشون ، حاملو الترس ، رماة الحجارة ، وسائسو الخيل ، و بهذا التنويع فإنه جيش متكامل جاهز للقتال . هناك وحدات مشاة خفيفة مع رماة تتمركز على الأجنحة والمقدمة ، والمشاة بالأسلحة الثقيلة ، كان تواجدهم بالخلف مع العربات التي تحمل ضباطهم ، وإذ يتطابق نشر القوات المذكورة مع المفاهيم العسكرية القديمة .
كان حجم هذا الجهد المعماري والفني الذي تطلب كمية هائلة من الحطب لتزويد أفران الفخار كوقود التي صنعت تلك التماثيل ، ناهيك عن الأطنان التي لا تعدّ ولا تُحصى من الطين الرسوبي المحلي اللازم لصنع تلك الأشكال البشرية والمعدات العسكرية والتي يزن كل منها لا يقل عن 200 كيلوغرام . بالرغم من المحصلة النهائية المذهلة في إتمام هذا الصرح الكبير من الناحية الهندسية والفنية ، كان التعهد بالانتصار الحتمي يبرز من خلال التنظيم والتخطيط الجيد .

تم بذل الكثير من الجهد لجعل كل شخصية تتفرد بشكلها وعلى أن تكون غير متشابهة مع أخرى ، على الرغم من أن جميعها مصنوعة بمواصفات نمطية لأجزاء الجسم من خلال القوالب المعدة لهذا الغرض ، وتبلغ سماكة هذه القوالب حوالي 7.5 سم وهي عبارة عن ، رأس ، جذع ، ساق ، رجلان تصلح كقاعدة للتمثال ، وذراعان .
تم تعديل الوجوه والشعر على وجه الخصوص ، لخلق انطباع لدى ناظره على أنه جيش حقيقي يتألّف من أفراد غير متشابهين بالشكل أو المظهر ، وعلى الرغم من أن لم يكن هناك في الحقيقة سوى ثمانية أشكال من الجذع والرأس ، ولإظهار الاختلاف في الأوضاع ، تم تحوير شكل اليدين بأصابع مستقيمة أو منحنية ومثنية وتحويرات في زاويا الإبهام والرسغ ، كذلك الأرجل ، و بأتجاهات شتّى .
لم تكن التماثيل مزججة ، بل تم طلاؤها لحمايتها ورسم معالمها باستخدام ألوان زاهية ، ولا تزال آثار اللون الأحمر على بعض الأجزاء من التماثيل .
كان من المفترض أن يحمل كل واحد من تلك التماثيل سلاحاً من نوع ما ، كأن يكون على شكل سيف حقيقي ، الحبال ، الرماح ، الأقواس أو النشاب ، لكنّ وعلى ما يبدو قد سُرقت معظمها منذ فترة طويلة ، وقُدرّت قيمتها فيما لو كانت برونزية بثروة طائلة . كانت تلك السيوف التي لا تزال في مكانها تحافظ على حوافها الحادّة ، وقد نُقش عليها كل من اسمي صانعها والمشرف عليها . ويقتني المحاربون سبعة أنواع من دروع تشين (مقلدة) وهي عبارة عن صفائح جلدية ملتصقة ومُنَشَّاة أو معدنية ، وهذا التصميم بمواده تؤكدها اكتشافات أثرية نادرة في أماكن أخرى من الصين ، ولكن بعض المشاة لا يرتدون الدروع ، والدروع هي عنصر آخر مفقود قد لوحظ أيضاً ، على الرغم من أن جميع الأدلّة تؤكد على استخدامها في جيوش الصين ، والتي قد ذكرتها مصادر أخرى.

المصنوعات اليدوية الأخرى
من بين القطع الأثرية الأخرى التي عثر عليها من غير التي صنعت في موقع المقبرة والتي اكتشفها علماء الآثار بطريقهم في البحث عن أسرار الضريح الإمبراطوري في المكان ألاكثر قرباً من المنطقة الرئيسية للمقبرة ، فقد عُثر على عربات برونزية بنصف الحجم الطبيعي وعربات خشبية تجرها أربعة خيول برونزية ، وشوهدت في بركة الماء التي طولها 60 متراً لإعادة إحياء منظر النهر في تلك المقبرة ، منحوتات برونزية لطيور 20 بجعة و 20 من الإوزً مثبتة بشكل متقن ، وعُثر أيضا على نماذج مصغّرة من الهياكل والمعابد ، وجرار فخارية لحفظ الحبوب داخل مبنى لتخزينها . واكتشف العلماء مخزناً طوله 100 متر وعرضه 130 متر يضم مئات القطع المتماثلة من الدروع والخوذ ، وكانت كل قطعة مصنوعة بدقة متناهية من مئات القطع الحجرية الصغيرة ، واكتُشفت مدافن لأفراد العائلة المالكة الآخرين ومسؤولين كبار وتماثيل شخصية عنهم ، بما في ذلك قبر واحد من القضاة في المحكمة.
ثم هناك قائمة طويلة من الأشياء الحقيقية ، وليست مجرد نماذج ، وتشمل ذلك 31 من الطيور والحيوانات الغريبة التي دُفنت كل منها في تابوت خشبي خاص بها ، وخيول حقيقية (300 في حفرة واحدة فقط) ، وهياكل عظمية لأكثر من مائة شخص مع أقراص برونزية صغيرة تشير إلى أنهم عمال وسجناء لقوا حتفهم أثناء عملهم في المقبرة .
تم تصميم كل هذه الأشياء مجتمعة ، لإثبات أن أول إمبراطور حكم في الصين ، وإن لم يكن في العالم كله قد تمكن من تحقيق هدفه الشخصي ، والأكثر من ذلك هو أنه قد ترك أثراً كبيراً في التاريخ العظيم للصين تراه عيون الصينيين و يشهده العالم ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كريك كلوناس ـ الفن في الصين ـ أوكسفورد للنشر ـ 2009 .
مايكل دلون ـ الصين ـ روتليدج للنشر ـ 1998.
باتريشيا باكلي إيبري ـ شرق آسيا القديم ـ سينجاج ليرنينج للنشر ـ 2013 .
لي فنغ ـ الصين في العصور المبكرة ـ كامبردج للنشر ـ 2013 .
مارك إدوارد لويس ـ إمبراطور الصين القديم ـ بلكناب للنشر ـ 2010 .
سي . جي . بيرس ـ جنود التنين ـ اوسبيري للنشر ـ 2006 .
موريس روزابي ـ تأريخ الصين ـ ويلي. بلاك ويل للنشر ـ 2018 .
جدعون شيلك ليفي ـ آثار الصين القديمة ـ كامبردج للنشر ـ 1760 .
ماري ترايكير ـ فنون الصينيين ـ ثمس و هدسون للنشر ـ 1997.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو