الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في ديوان -شرفات- للشاعر فواز قادري. طارق فراج.. شاعر وروائي مصري

فواز قادري

2019 / 2 / 10
الادب والفن


يستطيع الشعر وحده، أن يفتح تغرة في صندوق البشريَّة المُظلم، مُحكم الغلق؛ لتنطلق من خلالها كل الأصوات الحقيقية التي تحمل هموم الإنسانيَّة وعذاباتها. الشعر الحقيقيّ هو الطمأنينة الوحيدة في حياة تضج بالقهر والخوف، هو التيار القويّ الذي يستطيع أن يقهر الأصنام الجامدة ويكشف زيفها. صدر ديوان الشاعر «فواز قادري» والذي أعطاه عنوان «شرفات» في مصر عن دار أوراق للنشر والتوزيع من خلال ثمان عشرة شُرفة (= قصيدة)، يطل منها الشاعر على النهر، المدينة، الحبيبة، الأخت، الأم، الصديق، رائحة العجين، صوت المطر، عطش البراري، صوت طلقات الرصاص، رائحة الزهور، النجوم، أسطح المنازل، فحيح الأرواح، المآتم، الدم، السياط، الجلَّاد، السجن، الموت، المنفي.. إلخ. وحتى نختصر الكلام فإننا نستطيع أن نمثّل نصوص الشاعر- الثائرة، المتمردة، المفعمة بالأحلام والحنين والذكريات- بلوحة الفنان الإسبانيّ سلفادور دالي «شخص عند النافذة»؛ حيث تقف القصائد في الشرفة موليَّة ظهرها للمنفى الذي تعيش فيه، ومشرفة بوجهها في ذات الوقت، على الوطن الذي يظهر بعيدًا ومشوهًا في عمق اللوحة. تقف القصائد في الشرفة بينما تأتيها، عبر البحر الذي يفصل بينها والوطن، رائحة ناسه، طينه، ونسائم أنهاره.
في الإهداء، يفتح الشاعر نافذة صغيرة نطل منها على ثيمة الفقد التي تجري جليَّة عبر أوردة الديوان. ففي المنافي- كما في الأوطان المغدورة - يتعاظم الاحتياج إلى الحلم والحب والدفء:
"إلى مراهقات لا يجدن أحلامًا زهرية على الوسائد
صبايا بعد فوات الحب
أرامل في أسرة باردة
أمهات في المنافي ونشفان الدمع
نساء يحلمن بصدر عاشق وسقف وخبز".
يقول المتنبي في قصيدته الشهيرة التي كتبها في هجاء حاكم مصر كافور الإخشيدي:
«نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد». فالنواطير هم حراس أشجار الكروم، والثعالب هم اللصوص، وقد غفل الحراس وناموا عن المراقبة لأن الثعالب قد "بشمن" أي أن اللصوص قد شبعوا حد التخمة. أما الشاعر فواز قادري فهو يعكس المسألة، في عصر يتسم بالغرابة ومخالفة الفطرة والمألوف، ليصدِّر الديوان بهذه الألمعية اللافتة:
"النواطير سرقوا العنب
الثعالب تطالب بحصتها من الكروم
الشاعر يرفع راية النبيذ على معصرة الدم".
هكذا أمسى حُماة الحمى، أصحاب الأمر والنهي وحملة مفاتيح الخزائن هم اللصوص الذين امتصوا دم الأخضر واليابس حتى لم يعد أمام الثعالب سوى المطالبة بما يسد الرمق بينما يَحْمِل الشاعر الراية التي تتتخذ دلالتها الرمزية المُهمة حتى نستطيع أن نعتبرها شرارة التمرد، راية الثورة، صرخة مُتقدة لينتبه العالم إلى ما يحدث وإشارة البدء أيضًا للدخول إلى الديوان.
يمضي الشاعر في طريقه، متدثرًا بلغته، ومشبعًا بأسلوبه، توجّهاته، رؤاه، وبفلسفته، حيث تقع على عاتقه تبعة تحطيم الواقع بتدنّيه، قذارة تحضّره، همجيته، بطش حكّامه وخنوع محكوميه ومن ثم يستطيع أن يقيم حضارته ويُشهر رسالته النبويَّة في وجه العالم. كثيرون هم الشعراء الذين لفظتهم أمواج الوطن العاتية وظروفه القاهرة إلى شواطيء المنافي، ليجدوا أنفسهم وحيدين، مغدورين، ومجردين من كل سلاح في خضم ثقافة جديدة مبهرة وكاسحة وقادرة على أن تصبغهم بصبغتها إذا انزووا تحت لوائها، إلا أن الشاعر هنا محميّ بطبيعته، لغته، تقنيات كتابته، وبإرثه الثقافيّ والاجتماعي الذي ينزفه نزفًا من جُرح الوطن:
"عطش أنا
أمطر وأفيض بالحب
رغم أنني بعيد عن بلادي
أريد أن أقول لأي عابرة صباح الحب
أحتار أين أدير قلبي
أينما التفتُّ
ثمة مجزرة سكرانة بدمنا
وورد حزين في حدائق البيوت
ظلال خطوات من هربوا بأرواحهم
بقايا خبز يابس
وطقم أسنان عجوز مكسور
أينما تدير القصائد عينيها
يسيل دم من الكلمات" الديوان ص 10
ها هي ذي الكلمات طازجة حيَّة، تُبصرُ وتمشي على قدمين. لقد أستطاع الشاعر أن يخلق قصائده، ينفخ فيها من روحه، لتتخلق أمام أعيننا وفي قلوبنا وطنًا مُدمى. إن القصيدة لديه – بعد أن اقتُلع من جذوره- هي الأرض وهي الميدان، حيث الأحلام المجندلة بسيوف العطش والجوع والمجازر وهاويات الموت. يكتب الشاعر قصيدته النثرية في جمل متصلة بلا فواصل، عبر إيقاع يبدو لاهثًا، ومتوافقًا وجدانيًا مع حالة القصيدة، حيث نستشعر النزف الأبدي عبر أسلوب كتابة يتكيء على ذلك التداخل بين حالة الوطن المكسور، والكامن في حنايا الشاعر وبين حالة الشاعر ذاته؛ ذلك المعزول بعيدًا في المنفي، يقول:
"أي دمعة تليق بهذا النهار؟
الطيور خسرت البيادر وجرَّحت الفضاء
الأجنحة مشلولة والريش طعنات في الجسد
السماء بلا زرقتها والغيوم بلا مطر
العشاق بلا ورود والأزهار بلا عطر
يداي مسفوحتان كما السواقي على الغبار
أقرأ سورة أمي على الحليب والخبز
أقرأ الطحين على ذاكرة الحقول
واقرأ العجين على ملح أيدي الأمهات
واسأل الطاغية الدميم
من اين جاء بكل هذا الجوع الخرافيّ؟
من أي كهف ومن أي المجاعات؟" الديوان ص16
إن ميكانيزم القصائد في هذا الديوان، متمثلًا في طول الجملة، صوت الكلمات، والكلمات ذاتها، وتساوي طول المقاطع تقريبًا، كل ذلك يمنحنا إيقاعًا مناسبًا بامتياز، ويدخلنا على الفور إلى جوّ النص حيث نعيش حالة من التمرد على الواقع والثورة على وحشيته وانعدام مصداقية العالم بينما – في ذات الوقت- يخبيء لنا قاموس الشاعر اللغوي، وطريقته اللافتة في رسم الصورة الشعرية حالة من الحنين العارم إلى الوطن الذي كان ذات يوم جنته الأرضية. إن ذلك المزج بين التمرد على الواقع القميء وسطوة الحنين إلى وطن كان مثاليا وآمنًا تشد القاريء إلى فجوة خفية لا بد أن يُعمل فيها خياله كي تكتمل لديه الرؤية:
"... وكلما أصغيتُ إلى قلبي
وجدتُ صوتك ينبض فيه
أشجار شوارعها الجانبية تناديني بأعلى صوت
غيمات تبكي في رأسي ليل نهار
رائحة الحرائق وأصوات الدويّ وصرخات الناس
وأنا أدير وجهي ناحية الذكريات
أبحث عن صوت العصور في وجه الطفل الحالم
وعن هديل الحمام في موسيقا يديه
جسده غصن صغير يرتجف
بعد أن تساقطت أوراقه عن شجرة العائلة
فمن يستطيع أن يدفن الطرقات العالقة بأقدام الصغير؟
وكيف سينام في الحفرة وحيدًا في الظلام؟" الديوان ص60
يكرس الشاعر كلَّ قصائدِه لرصدِ حالةَ الوجع التي تنتابُ جسدَ الوطن عامة والإنسان المتجذّر في أرضه خاصة، باذرًا، بين ثنايا قصائدِه، نقاط من الضوء تقودُنا إلى مخرج، حيث يصبح التشبث بالعدل والخير والجمال والحب والحُلم دعامات رئيسية ترفع سقفَ الواقع الذي ينخر فيه سوس الكذب والغش وانعدام الضمير، حتى يغدو ذلك الواقع نصًّا، ويغدو النص روحًا تعشش فينا وكائنًا حيا يدخل معنا معترك الحياة. إن النص هنا هو الروح والجسد، على أساس أن الشاعر الذي عاش مآسي وطنه هو رافع رايته، والمعبر عن مشاعره ومخاوفه وآماله.
في عمق هذا الديوان، ثمة وجوه كثيرة للإنسانية المستنزفة، للأمان الغائب، للحرية المهدرة، وللأحلام المخنوقة في الممرات المعتمة للسجون والأسر والمنافي. إن كل صرخة نسمعها هنا، وكل آهة يزفرها صدر القصيدة؛ تخرج من صدر الإنسانية المقموعة في كل مكان:
"أسرى يلمّعون ظلالهم في العتمة
أسرى يقيسون الوقت الكسول كل مرة
على ارتفاع أسوار عالية
ينظرون إلى الحرية من ثقوب أجساد تنزف
والموت يفتش قلوب الناس عن نقطة حياة
الأسرى ينطحون الجدار تلو الجدار
حتى يتناثر تراب الضوء على الوجوه
وتنفتح كوة على اتساعها
في جسد الليل الأصم" الديوان ص132
تنبت قصائد الشاعر فواز قادري من عمق الظلمة لكنها تكبر في الضوء؛ تكبر في بناء متماسك بطريقة حداثية، رشيقة، عفوية، مكتملة، ذات إيقاع لا تخطئه أذن، ومشبعة بدلالات يمكن أن ننظر إليها من زوايا متعددة. يغدو النص لدى فواز قادري المتمكن من لغته الشعرية كائنًا حيا يعيش، يتنفس، يختلط بالناس، يعاني الكبت والظلم والسجون ثم يرتفع كرايةٍ خفاقة في الضوء ليصبح النص عالمًا قائمًا بذاته:
"هكذا كل دمعةٍ تبحث عن عينها المفقوءة
كل جدار عن سقفه المشطور والمتناثر
كل سماء عن غيومها ونجومها المتهاوية
كل طير عن عشه وغصنه وأجنحته المكسورة
كل قلب عن خفقانه الهارب على سير الأحزان
وعن جفاف الدم الطازج في الأوردة
كل غياب قتل لشيء من الحياة بمعنى ما
وكل حب رتق للمسافات وأجراس للتذكير بالأمكنة" الديوان ص140
ترتكز هذه النصوص على متغيرات الحياة في الوطن، حيث اتكأت على المرجعية السياسية والاجتماعية وطبيعة التحولات المجتمعية التي صاحبت فترة الثورات العربية وما بعدها. لقد تعامل الشاعر مع كل ما يجري على أرض الوطن من ثورات وانكسارات وزيف وقهر ودجل ومواقف بطولية وهمية، في تلك الفترة الحرجة التي سقطت فيها الأقنعة، بعد كل ما تناولناه من أقراص سياسية منوّمة، ومن مغالطات حيث يستحيل على المبدع الحقيقيّ أن يعيشَ بعيدا أو منفصلا عن المتغيرات التي تحدث في مجتمعه.. لقد أستطاع قادري في أسلوب سلس وتركيبات لغوية مشحونة نفسيا وعاطفيًا، أن يخلق صورة واضحة لما يدور في مكنون العالم، فالدكتاتوريات التي تنسج شبكة عناكبها، السجون المثقلة بالأرواح القلقة، النساء الثكالى، القلوب النازفة، ودم الشباب المهدور نراه في كل ركن وكل زاوية يترجمه نزيف النص إلى لوحة مُفَصَّلة للعالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) فواز قادري: شاعر سوري مقيم في ألمانيا، صدر له من قبل عشرة دواوين باللغة العربية منها "وعول الدم، بصمات جديدة لأصابع المطر، نهر بضفة واحدة، قيامة الدم السوري، مزامير العشق والثورة" كما تُرجمت بعض أعماله ونُشرت في مجموعة "مختارات" باللغة الألمانية.



العالم بوصفه نصًّا ... قراءة في ديوان "شرفات" للشاعر فواز قادري | طارق فراج
يستطيع الشعر وحده، أن يفتح ثغرة في صندوق البشريَّة المُظلم، مُحكم الغلق؛ لتنطلق من خلالها كل الأصوات الحقيقية التي تحمل هموم الإنسانيَّة وعذاباتها. الشعر الحقيقيّ ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - للأسف الشديد، معظم «الأشعار» التي يدَّعي «الشاعر»
شهرزاد الرفاعي ( 2020 / 5 / 17 - 16:09 )
للأسف الشديد، معظم «الأشعار» التي يدَّعي «الشاعر» فواز القادري بأنه كتبها في الحقيقة، على الأقل «الأشعار» الواردة في هذه «القراءة» المقتضبة المنشورة هنا في الحوار المتمدن، إنما تكتظ بالسرقات والانتحالات من مصادر مختلفة وسابقة عليها زمنيا ، دون إبداء أي نوع من الاعتراف الإنساني والضميري من طرف «الشاعر» فواز القادري نفسه ، ودون إبداء أي نوع من الدراية والوعي النقديين من طرف «الشاعر» و«الروائي» طارق فرج نفسه.. هذا هو معلم ملموس ودامغ من معالم الانحطاط الثقافي العربي في هذا الزمن المنحط والقذر والفاسد بلا شك.. !!!


2 - أتفق كل الاتفاق مع الأستاذة المعلقة شهرزاد الرفاعي
إبراهيم دعبول ( 2020 / 5 / 29 - 08:53 )
أتفق كل الاتفاق مع الأستاذة المعلقة شهرزاد الرفاعي على كلامها النقدي الكاشف؛
مع الأسف الشديد، صارت مسائل الانتحال والسرقات واللصوصية في الكتابة في هذا الزمان الإلكتروني المزيف من مسائل القوت اليومي بين الكثيرين من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من معشر الكتاب والأدباء والشعراء وغيرها من التصنيفات التي أفرزتها أمثال اتحادات الكتاب العرب الهزيلة في بلادنا ؛ وتم تصدير معظمها وحتى بدون أي اعتراف ضميري أو صادق مع أولئك الذين حصلوا على اللجوء في الدول الأوروبية بذريعة أو بأخرى ؛!!؟

اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع