الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسكلة أو إعادة إنتاج النظم التسلطية (ليبيا / نموذجا)

محمد بن زكري

2019 / 2 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


انتفاضة شعبوية و ليست ثورة شعبية :
إذا كان نظام الفاتح من سبتمبر ، في ليبيا ، قد بدأ انقلابا عسكريا فجّاً ، ثم تحوّل - لفترة وجيزة - إلى نصف ثورة ، متخبطا بين يمينيته المتأصلة و بين انتحاله اليساروي ، و انتهى إلى ثورة مضادة ، كما كان لابد له أن ينتهي ، بطبيعة هشاشة البنية الفكرية لقياداته من فئات ما يسمى البرجوازية الصغيرة و انتهازية مواقفها ؛ فإن نظام 17 فبراير ، قد بدأ بانتفاضة شعبوية عشوائية ، تأخرت عن موعدها نحو ثلاثة عقود من الزمن ، و انتهى سريعا بلمح البصر - منذ سنته الأولى - إلى ثورة مضادة ، لا زالت قواها اليمينية المحافظة (اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا) ، تتحكم بالواقع الليبي على الأصعدة كافة ، باتجاه دعم سلطة الكومبرادور من الإسلاميين و رافعي الشعارات الليبرالية ، بهدف إرساء نظام دولة راسمالية تابعة ، بالتقاطع مصلحيا مع النظم النيوليبرالية الغربية و شركاتها العولمية (العابرة للجنسية) .
و ليس من شك في أن أهم العوامل التي كانت وراء انتفاضة فبراير الشعبوية (العشوائية) ، هو الفساد المالي و الإداري ، الذي طبع نظام القذافي ، و خاصة منذ بداية تسعينيات القرن الفائت ، و الذي استشرى في العشرية الأخيرة للنظام ، بالتقاطع - تأثرا و تأثيرا - مع الفساد السياسي ، تحت مظلة الاستبداد الفردي المدجج بالدوغما و أدوات القمع ؛ حيث استأثرت مجموعة محدودة ، من حراس النظام و باعة الهتاف الثورجيين ، بالثروة وامتيازات السلطة المطلقة ؛ في حين تدهورت أوضاع أغلبية الشعب ، لتستقر حول مستوى خط الفقر .
و كان الشعب الليبي يُمنّي النفس بنظام إدارة سياسية رشيدة ، يؤمِّن له مستوى مرتفعا (لائقا) من الحياة ، يتناسب مع ارتفاع الدخل القومي للدولة الليبية ؛ تحقيقا للمطلب الشعبي ، الذي غالبا ما تتمحور حوله كل الانتفاضات و الهبّات الثورجية : " العدالة الاجتماعية " . بصرف النظر عما أثبتته التجربة التاريخية من كونه مطلبا غائم المحتوى الاجتماعي ، يحتمل أكثر من (تأويل) ، يميل إلى الوسطية و ينطوي على نزعة إصلاحية تلفيقية ، سواء في الفكر أم في التطبيق ، بعيدا عن أي تغيير جذري لمعطيات الواقع المستهدف بالانتفاضات الشعبوية .
غير أن النتيجة كانت ؛ بدءً من المجلس (الوطني) الانتقالي ، مرورا بالمؤتمر (الوطني) العام ، و انتهاءً حتى الآن إلى برلمان طبرق ، هي عودة نفس العقلية الاستئثارية اللصوصية ؛ متجسدة بكل صورها البشعة ، في كل ممارسات أجسام السلطتين التشريعية و التنفيذية ، على مدى الثمانية سنوات الفائتة ، و التي تحولت إلى سلطة أمر واقع ، فرضت نفسها - لا دستوريا - على الشعب الليبي ؛ و ذلك بدء بالرواتب العالية و الامتيازات ، التي كان قد قررها أعضاء المؤتمر و . ع لأنفسهم ، فضلا عن المحسوبية التي مارسوها لفائدة أولادهم (بعثات دراسية و تعيينات حكومية) و أقاربهم و أتباع تنظيماتهم الحزبية (و بالأخص الإخوان المسلمون و مشتقاتهم) . و لم يتوان أعضاء برلمان طبرق ، ذي الطابع القبلي ، في تكرار نفس الممارسة الاستئثارية لسلفه مؤتمر فندق ركسوس ذي الطابع الإخواني ، فقرروا لأنفسهم راتبا شهريا فلكيا قدره 16000 ستة عشر ألف دينار ، فضلا عن بدلات السكن و النقل و السفر و الإقامة الفندقية ، التي ما لم يكن مجموعها يعادل هذا المبلغ ، فهو لا يقل عنه كثيرا ، فضلا عن تقرير معاش تقاعدي لأنفسهم (12,800 اثنا عشر ألفا و ثمانمائة دينار) ، من شأنه استنزاف أموال صندوق التقاعد . و لم يقصِّر أعضاء البرلمان في انتهاج نفس ممارسات الفساد الإداري و المحسوبية ، التي مارسها قبلهم أعضاء المؤتمر و .ع ، لجهة إيثار أعضاء البرلمان لأولادهم و أقاربهم و أبناء قبائلهم بإنعامات الواسطة و المحسوبية ، في نظام الغنائم الفبرائري ، حتى بلغ الفساد درجة تعيين أزواج النواب الإناث (النائبات) في وظائف السلك الدبلوماسي ؛ مرورا بشتى ضروب الفساد المالي ، بما في ذلك استغلال الوظيفة العمومية للتربّح ، و التورط الابتزازي في فضائح الاعتمادات المستندية ، و ليس انتهاءً إلى ما يعرفه العالم كله من الصراع السياسي (العبثيّ) للبقاء في السلطة ، و الارتهان التام للأجنبي ، و الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي (التدميرية) .
و لأن الأفعال تقاس بنتائجها ، و يقاس الأشخاص بنظرائهم ؛ فإنه ليس من فرق أبدا بين سفهاء المؤتمر الوطني العام (الإخواني) و سفهاء البرلمان (القبلي) و سفهاء نظام القذافي (الثورجي) ، من حيث فساد الذمم . على أنه من الموضوعية الإلماح إلى أن مخصصات عضو مؤتمر الشعب العام في نظام القذافي - كراتب زائدا كل المزايا العينية و النقدية المقررة له رسميا - لم يكن مجموعها يتجاوز ألف 1000 دينار شهريا . فأين هذا من ذاك ؟! .. على أنه ليس من وجه للمقارنة ، بين راتب و مزايا عضو برلمان طبرق ، و راتب عضو مجلس نواب الشعب في تونس (2300 دينار تونسي) ، في حين تكشف المقارنة عن مفارقة صادمة ؛ عندما نجد أن راتب رئيس جمهورية الصين (1800 دولار) فقط لا غير ، و أن راتب رئيس وزراء الهند (2400 دولار) ، و كلاهما يقود دولة يتجاوز تعداد مواطنيها مليارا و ربع المليار نسَمة ، و يقود اقتصادا متطورا سريع النمو ! .
و إنه بكل الوضوح ، و تأكيدا لما سبق لنا قوله مرارا ؛ ليست (17 فبراير) أكثر من انتفاضة شعبوية ، لا برنامج لها و لا رؤية مستقبلية و لا أهداف مرسومة لحركتها العشوائية . و هي في واقعها الآني ليست أبدا ثورة ، و ما كانت يوما خلال سنواتها الثماني الفائتة ثورة ، و لم تكن أصلا ثورة ، سواء بأي مفهوم تقليدي أم بأي تعريف تقدمي علمي لـ (الثورة) .

فبراير امتداد لأسوأ ما في سبتمبر :
لقد كانت انتفاضة فبراير 2011 ، حركة احتجاجية ضد الاستبداد و الفساد ، و كان يمكن أن تتطور إلى ثورة اجتماعية شاملة ، تعيد صياغة التاريخ - لصالح إقامة دولة الحريات و العدالة الاجتماعية و الكرامة الإنسانية - على أرض الوطن الليبي . لكن الإسلاميين و المنشقين عن النظام السابق (الطابور الخامس) و مزدوجي الجنسية ، ركبوا ظهرها و اختطفوها ، في غياب مشروع ثوري تقدمي ، و في غياب قوى وطنية ديمقراطية منظمة ، تستطيع التقاط اللحظة التاريخية المواتية للتغيير .
و إن من اختطفوها ، و انحرفوا بها إلى أقصى اليمين ، لا يمتون إلى الوطنية بأدنى صلة ، إما لأنهم ينتمون - فكريا و حركيا - إلى وهْم الأمة الإسلامية و مشروع دولة الخلافة ، ولا يؤمنون أصلا بمفهوم (الوطن) و الوطنية . و إما لأنهم لا يحملون بالأساس أي انتماء (شعوري) وطني ، بحكم كونهم نهازي فرص و مزدوجي جنسية .
و ليس بخافٍ على أي مراقب محايد ، أنه ما من شيء تغير إلى الأفضل ، في نظام فبراير ، عما كان عليه الأمر في نظام سبتمبر ، بل ازداد سوءً ؛ فسياسات الإفقار و التجويع ، و إدارة الفساد ، ظلت قاسما مشتركا بين النظام السابق لانتفاضة فبراير ، و خاصة في عشريته النيوليبرالية الأخيرة ، و بين نفس النظام بعد فبراير ، ذلك أن النظام في واقع الحال ، لم يتغير مطلقا . و كل ما حدث هو إزاحة رأس النظام ، و استبدال الوجوه بالأقنعة . والفرق الوحيد بين وجهيْ نظام الاستبداد و الفساد ، هو أن حكام ليبيا الجدد ، قد أوغلوا في سياسات إفقار الشعب الليبي و تجويعه و تركيعه ، بقدر ما أوغلوا في ممارسة الفساد ، على نحو غير مسبوق في تاريخ ليبيا بعد الاستقلال ؛ فحكام ليبيا الجدد ، نهبوا من المال العام ، خلال السنوات الثماني الفائتة ، ما لم يجرؤ أسلافهم حكام ليبيا السابقون ، على مجرد التفكير بارتكابه ، خلال أربعين عاما من حكم معمر القذافي . و لا عجب ، فحكام ليبيا الجدد ، من الإسلاميين المتربصين و فلول اللجان الثورجية و المغامرين القادمين من المجهول ، قد نشئوا على ثقافة الفساد و استباحة المال العام (رزق حكومة !) .
و استباقا لأي تشكيك ، في موضوعية و مصداقية توصيفنا لنظام فبراير ، باعتباره نتاجَ إعادة تدوير لمخلفات نظام سبتمبر . و قطعا للشك باليقين ، لا بأس في أن نستقي بعض المعلومات و البيانات من تقارير الهيئات و المنظمات الدولية ذات الصلة ، كشواهد على مدى تدني مستوى أداء نظام دولة الميلشيات (17 فبراير) ، على الصُّعُد كافة ..
فكما كانت ليبيا قبل (ثورة !) فبراير ، فإنها ظلت على مدى السنوات الثماني الفائتة - من نظام الغنائم - مدرجة بين الدول العشر الأكثر فسادا في العالم ، على مؤشر مدركات الفساد ، في التقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية ، حيث إنها تأتي في ذيل قائمة ترتيب دول العالم ، على سُلم مؤشر الفساد ؛ فقد احتلت المرتبة 172 من مجموع 175 دولة شملها المسح سنة 2013 . و جاء ترتيبها 166 من بين 174 سنة 2014 ، و احتلت الترتيب 161 من أصل 167 سنة 2015 ، و الترتيب 170 من أصل 176 سنة 2016 ، و الترتيب 171(مع غينيا الاستوائية و غينيا بيساو و كوريا الشمالية) من أصل 180 دولة سنة 2017 ، و لم تأتِ بعدها سوى خمس دول أكثر منها فسادا ، هي السودان و اليمن و أفغانستان و سوريا و جنوب السودان (وذلك رغم صعوبة الوصول إلى معلومات دقيقة عن الفساد في ليبيا ، نتيجة للتعتيم الرسمي) ، و جاء تصنيفها على المرتبة 170 ، من أصل 180 دولة ، شملها المسح لسنة 2018 .
و بدلا من (الحُلم) الذي راود خيال جموع المحرومين ، و هم يندفعون (انفعاليا) للانخراط في انتفاضة فبراير (المُحِقّة) ، متطلعين إلى تحقيق مطالبهم المؤجلة لأربعة عقود مضت ، متمثلة في أبسط حقوق المواطَنة ، من قبيل : رفاهة العيش ، و تَحسُّن ظروف الحياة ، و ارتفاع مستوى القدرة الشرائية و المقدرة على الادخار ، و الاستخدام الكامل و الأمثل للقوى العاملة المتاحة ... ، بما يتناسب مع الحجم الكبير للدخل القومي و إمكانات التنمية الشاملة لبلادهم ؛ فقد استفاقوا من الحُلم على واقع كابوس مرعب ، هو كابوس (نكبة فبراير المشؤومة) ، بكل تداعياته الكارثية المعروفة للكافة ، و قد بلغ بهم سوء الحال و المآل درجة معاناة الجوع ، جرّاء سياسات الهدر و الفساد المالي و الإداري ، و الاستبداد بالسلطة ، و تحرير السوق ، و الصراعات الدموية ، التي انتهجها حكام ليبيا الجدد ، و مناوراتهم السياسية من أجل الاحتفاظ بالسلطة و تقاسم الغنائم ؛ حتى إن تكلفة السلع الأساسية لم تعد بمتناول الطبقة الوسطى ، مع تدني قيمة الدينار الليبي ، و ارتفاع الأسعار ، و التضخم الذي ابتلع مدخرات الناس .
و قد أكد البنك الدولي في تقريره بعنوان " آفاق اقتصادية 2018 " ، أن ارتفاع معدلات التضخم بمعدلات قياسية غير مسبوقة ، مع ضعف تقديم الخدمات الأساسية ؛ كانا من العوامل التي ساهمت في زيادة معدلات الفقر (رغم زيادة قيمة العائدات النفطية) ، و تفاقم الإقصاء الاجتماعي و الاقتصادي . كما سارع معدل التضخم في تفاقم مشاكل المواطنين الليبيين الذين عانوا من ارتفاع أسعار كل السلع الأساسية ، مع زيادة فقدان الدينار الليبي لقوته الشرائية . فقد سجل معدل التضخم (غداة اتفاق الصخيرات) نسبة 25.9% عام 2016 ، ثم قفز ليبلغ مستوى قياسيا نسبته 28.5 مع نهاية العام 2017 .
و في مقابل اتساع قاعدة الفقر ، وتآكل الطبقة الوسطى ، فإن نظام الغنائم (17 فبراير) ، قد أفرز طبقة جديدة - لا جذور لها - من كبار الأثرياء ، هم أثرياء الحروب و اقتصاد الحرب (ممن تعاملت مع أمثالهم عدة دول كمجرمي حرب و طبّقت بشأنهم عقوبة الخيانة الوطنية) .
و تأكيدا للمؤكد لدينا في هذا الشأن ؛ فإن المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية (كما نقل عنه موقع ليبيا الاقتصادية) ، قد أكد في دراسة أعدها بعنوان : " الاقتصاد الليبي في مرحلة ما بعد الحرب " ، أن الصراعات السياسية و النزاعات المسلحة ، و ما صاحبها من اضطراب سياسي و اختلال أمني في ليبيا ، قد أدت إلى إضعاف سلطة الدولة ، و التنامي العشوائي لنشاط القطاع الخاص ، مما فتح أبوب الثراء السريع أمام فئات جديدة من الأثرياء ، خصوصا في مناطق سيطرة الميليشيات المسلحة . وبحسب الدراسة المشار إليها ، تشمل قائمة الأثرياء الجدد : تجار المشتقات النفطية ، وتجار السلع الغذائية ، و المضاربين العقاريين ، و المضاربين في العملة (السوق السوداء) ، إلى جانب الكثير من المسؤولين والأشخاص الحاصلين علي اعتمادات مستندية للاستيراد وبعض موظفي الضرائب والجمارك والموانئ والمنافذ الجمركية .
و في مؤتمر صحفي ، عقدته بالمقر الأممي الدائم في نيويورك ، قالت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في ليبيا ، إن ليبيا تزداد فقرا يوما بعد يوم ، مشيرة إلى أن نحو 823 ألف شخص ، يحتاجون إلى نوع من المساعدة الإنسانية ، و بينت أن خطة الاستجابة الإنسانية ، التي أطلقتها الأمم المتحدة من أجل دعم ليبيا ، تحتاج إلى 200 مليون دولار ، لمساعدة 552 ألف شخص ، خلال العام الحالي 2019 ، جراء تدهور خدمات الصحة العامة و التعليم و غيرها من الخدمات العامة . يحدث ذلك و أسوأ منه ، في بلد غني ، أهدر حكامه الجدد ما يربو عن 400 مليار ، ذهبت أدراج رياح النهب و الهدر و الفساد ، مما يدينهم جميعا بخيانة الأمانة ، و يعرّضهم للمساءلة القضائية ، و يَصِمهم بالعار .

المهم (التاغيا) مات !
ثماني سنوات من (ثورة !) 17 فبراير ، عصفت بالأخضر و اليابس ، حتى انتهت ليبيا - دولة و شعبا - إلى ما انتهت إليه من دمار الدولة و فقر الشعب ، عودةً بها إلى بؤس ما قبل اكتشاف النفط ؛ حتى إنها قد صارت مثلا يضرب للدولة الفاشلة . و مع ذلك فلا زال ثمة من يجد في نفسه فائضا من الجرأة ليقول لك : و لو .. المهم التاغيا (الطاغية) مات !
فهاهي ليبيا بعد ثماني سنوات (هي مدة حكم رئيس أميركا لولايتين متتاليتين) ، لا زال حكامها الجدد - المتطفلون على السياسة - يرفضون مغادرة السلطة و يتنازعون الشرعية و يتقاسمون الغنائم و يبيعون الوطن بالقطعة . و المهم (التاغيا) مات !
و هاهي الدولة الليبية بعد ثماني سنوات من انتفاضة فبراير الشعبوية ، قد فقدت كل مقومات وجود الدولة ، بما في ذلك فقدان سيادتها الوطنية على إقليمها الجيوسياسي ، و تفككت و انهارت بنيتها المؤسسية ، و لا زالت الميليشيات المسلحة ، تسيطر على عاصمة الدولة ، و تفرض نفسها سلطة عليا فوق كل السلطات و فوق القانون . و المهم (التاغيا) مات !
و هاهي ليبيا بعد ثماني سنوات من (المبارَكة) : نزاعات قبلية مسلحة ، و حروب ميليشيات متطاحنة ، و فوضى أمنية منفلتة ، و اقتصاد وطني منهار ، و حدود مخترقة ، و أرض مستباحة لعصابات تجارة التهريب و المخدرات و الجريمة المنظمة العابرة للحدود ، و مليارات ابتلعتها جيوب حكام ليبيا الجدد و اكتظت بها حساباتهم في بنوك السرية المصرفية حول الكرة الأرضية ، و اعتمادات مستندية بمئات ملايين الدولارات لاستيراد (الهواء) في الحاويات ، و تبييض للأموال السوداء ، و بطالة تفتك بعشرات آلاف الشباب الذين فقدوا الأمل في التوظيف قبل بلوغهم سن التقاعد . و كومبرادور يقبضون على زمام الأمور - سياسيا - و يُحكِمون قبضتهم - اقتصاديا - على رقاب الناس : إطلاقا لآليات السوق كي تلتهم المداخيل و المدخرات ، و فرضا للرسوم الضريبية على مبيعات الدولار ، و تخفيضا لقيمة العملة الوطنية .. باسم الإصلاحات الاقتصادية ! و إسلاميون يحتكرون الدين و ينصبون أنفسهم أوصياء على ضمائر الناس : يصدرون فتاوى التكفير إرهابا للآخر المختلف ، كي يغلقوا الأفواه و يصادروا الحريات العامة و الخاصة . و يتدخلون - بتفويض ينسبونه إلى الله شخصيا - في كل كبيرة و صغيرة ، من صياغة الدستور إلى دم الحيض .... و قائمة المصائب تطول و تطول . و المهم (التاغيا) مات !

ماذا كسب الليبي من فبراير ؟!
و فيما عدا أن (الطاغية) مات ، و على افتراض أن موت فرد ما ، هو في حد ذاته مكسب ، رغم أنه افتراض تسفهه شواهد التاريخ القريب منها و البعيد ؛ من صدام و أياديما ، إلى إيفان الرهيب و كاليغولا (على سبيل المثال لا الحصر) .. فلا جديد ، عدا هامش محدود من حرية التعبير ، تحاصره قوى الإرهاب الفكري ، المتربصة في المؤسسة الدينية الرسمية و على صفحات النت و في كل مكان .
على أن هذا الهامش من حرية التعبير ، ليس هبة من احد ، وليس لأحد كائنا من كان أن يمن به علينا ؛ فهو حق طبيعي انتزعه شعبنا بثمن باهظ من العذابات والدماء ، وكافحنا من أجله سنين طوالا (بالكلمة والموقف) معرضين أنفسنا لكل المخاطر ، ففقدنا وظائفنا .. وزج بنا في المعتقلات والسجون .. وتعرضنا للتحريض علينا إعلاميا من قبل قادة اللجان الثورية (مصطفى الزائدي / مثلا) وتعرضنا للتهديد المباشر بالقتل (ولا زال الشهود و الجناة على قيد الحياة ، ولا زالت الأدلة المادية محفوظة) .
ومع ذلك فإن نظام الإخوان المسلمين ومشتقاتهم ، الذي ركب ظهر انتفاضة فبراير الشعبوية ، وريثا لنظام الأخ الأكبر ؛ ما انفكوا يحاولون الالتفاف على حرية التعبير بكل الوسائل ، بما في ذلك استخدام فتاوى دار الإفتاء في طرابلس و فتاوى الهيئة العامة للأوقاف و الشؤون الإسلامية (المدخلية) في برقة ، و استخدام منابر الجوامع للتكفير و التشهير .
و لا جديد ؛ بل إن المُفقَرين (و لا أقول الفقراء) ازدادوا فقرا و تضاعفوا عددا ، و الأثرياء ازدادوا ثراءً و تعززت قوّتهم الطبقية بفئات جديدة من أثرياء الحرب . و ظاهرة البطالة ازدادت تفاقما بين الفئات العمرية في سن العمل ، فعشرات آلاف الشباب الليبي المؤهلين أكاديميا - فضلا عن غير المؤهلين - لا زالوا مُعطلين عن العمل ؛ حتى إن الأطباء الشباب خريجي كلية الطب البشري بطرابلس .. لا زالوا ينتظرون التعيين منذ ما قبل (ثورة !) 17 فبراير ، و خريجو الكليات و المعاهد الجامعية من كل التخصصات ، يضطرون إما إلى الهجرة سعيا وراء لقمة العيش أو إلى القبول بمذلة العمل أجراء يوميين (بلا ضمانات) و غرسونات في المقاهي و المطاعم التي افتتحها الأثرياء الجدد .
لا جديد ! و المستفيدون من انتفاضة فبراير الشعبوية ، هم حصرا : أمراء الميليشيات المسلحة ، و الوكلاء التجاريون و كبار التجار ، و حكام ليبيا الجدد (سطوا على المال العام) ، و الإخوان المسلمون و مشتقاتهم ، ومزدوجو الجنسية الذين قفزوا إلى كراسي السلطتين التشريعية و التنفيذية منذ أيام المجلس الانتقالي ، و أثرياء الحرب من المهربين و المضاربين في السوق السوداء (المشرعنة) . أما فيما عدا ذلك ، فإن كل أوضاع الشعب الليبي ساءت وتدهورت إلى الحضيض بعد (ثورة !) 17 فبراير ؛ اقتصاديا ، واجتماعيا ، وسياسيا ، وصحيا ، وتعليميا ، وبيئيا ، وامنيا . وان من يجرؤ على إنكار هذه الحقائق - الملموسة - ربما لا يدري أنه إنما يدين نفسه ، و ليس مغررا به .

أسئلة لا تبحث عن إجابات :
و تأبى عشرات - بل مئات - علامات الاستفهام التعجبي ، إلا أن تطرح نفسها ، متحدية صلف و أضاليل مرتزقة الميليشات المسلحة ، الذين يسمون أنفسهم (ثوار 17 فبراير) . و ميليشيات سلطة الأمر الواقع و السطو على المال العام (المنتحلة للشرعية) ، في كل من : برلمان طبرق ، و مجلس الصخيرات الرئاسي ، و ما يسمى المجلس الأعلى للدولة ، و الحكومة (الدائمة) في شرق ليبيا ، و حكومة (الشقاق) في غربها . و ميليشيات دواعش الكومبرادور و السماسرة و المهربين و المتهربين من الضرائب و البيروقراط المرتشين :
من أين لكم هذا ؟ من أين لكم هذه الأملاك والأموال بالملايين ، و لم تكونوا قبل 17 فبراير سوى نكرات من رواسب قاع المجتمع ؟ هل (ثار) الشعب الليبي في 17 فبراير ، من أجل أن يجوع و يزداد فقرا على فقر و يعجز عن سداد ثمن حبة دواء ؟ هل فقد عشرات الألوف حياتهم و فقد عشرات الألوف أطرافهم ، و هل شردت ألوف الأسر من ديارها ، و هل دُمرت عشرات ألوف المساكن .. فقط من أجل أن تنعموا أنتم بالملايين و حياة القياصرة و الأباطرة و السلاطين ؟ هل كان من أهداف (ثورة) 17 فبراير ، أن يصبح سعر كيلو الأرز 4 دنانير بدلا من 20 قرشا ، أو أن يصبح سعر كيلو الشاي 28 دينارا بدلا من دينار واحد (مثالا لا حصرا) ؟ ... و الأسئلة من هذا القبيل ، تمتنع عن الحصر ، و هي أسئلة لا تنتظر الأجوبة .. فأجوبتها معروفة سلفا . و قصارى القول : هل هي في المحصلة ، ثورة فبراير المجيدة .. أم هي نكبة فبراير الكارثية ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي