الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع العقل واللاهوت - 2

أيمن عبد الخالق

2019 / 3 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"المصلح الحقيقي هو الذي يستيقظ والناس نيام، فيرى مالايرون، فيشعر بثقل المسؤولية، ويجعل هموم الناس مشكلته الشخصية"
ذكرنا في المقالة الأولى أنّ المؤسسة الدينية الرسمية في الأديان الإبراهيمية اليهودية والمسيحية والإسلام قد أسسوا علم اللاهوت المباين للنظام العقلي الفلسفي في المنهج والرؤية، حيث اعتمدوا حاكمية المنهج النقلي (العقل البياني) في التفكير، والفهم السطحي لظواهر النصوص الدينية، فكانت النتيجة هو محاربتهم للمنهج العقلي والفلاسفة، واختزالهم الرؤية الدينية في الشعائر والطقوس الدينية والمذهبية، والأوامر والنواهي الشرعية الصارمة، بعد تعميمها وتأبيدها.
ومازاد الطينة بلة هو عدم تفكيكهم بين الدين والمعرفة الدينية، الأمر الذي أدى إلى إضفاء القدسية على أحكامهم وفتاواهم، وإشعال فتيل الصراعات الدينية والمذهبية على مر التاريخ
وسنشرع في استعراض بعض النصوص التاريخية التي تشير إلى معالم هذا الصراع بين العقل واللاهوت، والذي كان مدعوما من جهة أخرى من جانب الأنظمة السياسية الفاسدة والمستبدة
وسنبدأ بحسب الترتيب من الديانة اليهودية، ونكتفي بإيراد شاهد واحد تجلى فيه الصراع الحاد بين اللاهوت الذي تتبناه المؤسسة الدينية اليهودية وبين العقل الفلسفي الذي كان يمثله الفيلسوف العقلاني الكبير ((اسبينوزا))، المنحدر من عائلة يهودية، والذي كان يعتبر بحق رائد العقلانية الحقيقية في القرن السابع عشر.
لقد اعتمد اسبينوزا منهج الوضوح العقلي الذي أقره ديكارت، والذي كان يقول فيه (( أنا لااعتقد بشيء على أنه حق إلا أن يكون واضحًا أمام عقلي أنه كذلك))، ولكن الفارق الكبير بينهما، هو في الشجاعة الأدبية التى تحلى بها اسبينوزا في مواجهة أعداء العقل والإنسانية، وتخلى عنها ديكارت خوفا من رجال اللاهوت والسياسة
لقد كتب اسبينوزا كتابه (اللاهوت والسياسة) الذي عبّر فيه عن منهجه العقلي الخاص، ورؤيته الفلسفية للحياة، وانتقد فيه بشدة المنهج اللاهوتي المخالف للعقل، ودعا إلى تحكيم وتعظيم العقل الفطري الذي هو صوت الله في ضمائرنا، كما دعا إلى التمسك بجوهر الدين المتمثل في العدل والإحسان ومكارم الأخلاق دون قشوره المتمثلة في الشعائر والطقوس والقضايا الشكلية المذهبية
كما هاجم بشدة النظام السياسي الاستبدادي والمدعوم من المؤسسة الدينية الرسمية، ودعاه إلى احترام حقوق الناس وحرياتهم الشخصية والاجتماعية
وبغض النظرعن تفاصيل رؤيته الشخصية التى تبناها في هذا الكتاب، فإنه أراد أن يقوم بثورة حقيقية في وجه التعصب والتحجر والظلم والاستبداد، لكي يفيق الناس من غفلتهم، ويستردوا حريتهم وكرامتهم الإنسانية
وقد جاء رد الفعل عنيفًا ضد اسبينوزا، ومن كل الجهات السياسية في هولندا وفرنسا وألمانيا، واتفقت الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية على إدانته بشدة وتحريم كتبه، ومما زاد الطين بلة هو صدور فتوى تكفيرية شديدة اللهجة ضده، فتوى مشحونة بالسب واللعن عن حاخامات الكنيس اليهودي في امستردام، وذلك في عام 1656م، وهذا نصها:
(( بعد ماسمعناه من أفكار سيئة وهرطقات مرعبة تبناها اسبينوزا، والتي تدل على أنه مذنب ومنحرف، وبعد أخذ أقطاب الطائفة رأي السادة الحاخامات قررنا فصل هذا الرجل من أمة بني اسرائيل، وصدرت في حقه الإدانة التالية: باسم الملائكة والقديسين، فإننا نفصل ونلعن هذا الشخص المدعو اسبينوزا، ونصب عليه كل اللعنات اللاهوتية الموجودة في الشريعة، ليكون ملعونا بالنهاروملعونا بالليل، ملعونًأ حينما ينام وملعونًا حينما يسيتيقظ، ليكن ملعونًا في الدخول والخروج، لعنه الله لعنة أبدية سرمدية، لاتحول ولاتزول إلى أبد الآبدين، وليصب الله عليه جام غضبه، وليحرمه من عفوه وغفرانه))
وعلى إثر هذه الفتوى قامت عائلته بفصله عنها والتبري منه وحرمانه من الميراث، كما قام أحد المتعصبين بمحاولة لاغتياله بضربه بخنجر، ولكنه نجا منها بأعجوبة
وقد عاش بعدها وحيدا منبوذا مضطهدا، لايقربه أحد خوفا من بطش رجال الدين المتعصبين، والساسة المنحازين لهم
لقد كان اسبينوزا يعلم جيدا الثمن الباهظ الذي يجب عليه أن يدفعه مقابل إحيائه للمنهج العقلي، ونقده للمنهج اللاهوتي، ووقوفه إلى جانب المستضعفين والمقهورين في مواجهة الأنظمة السياسية الجائرة والمستبدة، فتحمل ماتحمل من الفقر والمعاناة بكل صبر وهدوء وسعادة، ومات وهو في سن الخامسة والأربعين، ولكن وبعد مرور عقود طويلة من الزمن أشعل فكره العقلاني حركات التنوير والنهضة في الغرب، والتي توجت في النهاية بالثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر
وهذا هو قَدَر الفكر الإصلاحي الحقيقي، الذي استيقظ أصحابه والناس نائمون، حيث لاتظهر آثاره إلا بعد زمان طويل من رحيلهم عن هذه الحياة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا