الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة أفهم من بني آدم

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2019 / 3 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


(يشكو الإنسان من حذائه والعلَّة في قدميه)
صمويل بيكت
1
الدولة في المعجمات من دال-فتح الدال- ودالت الأيام أي دارت, والله يُداولها بين الناس, وتداولته الأيدي أخذته هذه مرة وهذه مرة. وهذا على الضدِّ من مفهوم الدولة في العصر الحديث حيث تجنح نحو الثبات والاستقرار. الدولة عند هيجل هي طريقة تنظيم الأمة لنفسها, الشعب لنفسه, أي أن المجتمع يُنظم نفسه من خلال مؤسسات اجتماعية, تُسمى في مجموعها دولة, والشهيد مهدي عامل توصَّل بعد دراسة إلى أن الدولة لا فكر لها -وهي ملاحظة ذكية ومهمة- ويُقال أن لكل زمان دولة ورجال. وابن عمي زكريا يقول: "الدولة أفهم من بني آدم" و شكل الدولة الذي تكرَّس في الوطن العربي جمهوري ديمقراطي عسكري. وقد كان المُنتج الرئيسي لهذا الشكل من الدولة: الفساد العام Corruption (كو-را-بشن) ومن ثم قاد هذا الفساد العام إلى الفشل العام, شكل الدولة هذا أوصل المجتمعات في الجمهوريات "العربية" إلى الحروب الأهلية التي نعيش بعض نتائجها اليوم, لأن الحاكم الفرد سعى مع عسكره ليكون هو الدولة.
2
في علم السياسة تُعتبر السلطة المُطلقة في القصر الجمهوري شديدة الهشاشة ومزعزعة بسبب وجودها في يدي فرد واحد. إن سلطة كهذه تُعتبر خطراً على مصالح المجتمع و الدولة معاً لأنها تُنمي الكبرياء والاستخفاف في نفس صاحبها. وتُنمي الخنوع والذل في نفوس أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم الأثنية والعرقية. تتعرَّض هذه السلطة الفردية في القصر الجمهوري بسهولة للتشوّش بالمعنى الحقيقي للكلمة لأنها لا تسعى وراء الواقع الحقيقي أو التقويم المتأني والمناقشة المُفيدة. والأهم من ذلك كله هو أنها تقود الدولة, وهي رفيقتها الحميمة, إلى عالم الفوضى والانهيار.
3
في ظني أن الشباب الأحرار في الشوارع والساحات والمدن والأرياف و في البوادي والقفار قد تمردوا على هذا النمط من الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, وهم يحاربون هذا الشكل من الدولة الاستبدادية التي يحكمها العسكر ويريدون العودة بها إلى مفهومها الأول: دولة بسيطة, تُقاد من حاكم بسيط من عامة الخلق, وليس إلهاً على كل حال, بل بشراً سوياً يخاف من ربِّ العباد الذي رفع السماء ووضع الميزان. والسؤال المقلق والحقيقي والذي يهرب منه أصحاب الشأن: أليس غريباً أن تنهار الجمهوريات "العربية" الثورية والتي تشبه بعضها بعضاً في العراق وسورية ولبنان واليمن ومصر والسودان والصومال وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا وتتفكك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ويتراجع مشروعها التنموي وتتراجع النهضة الحضارية وتدخل بعضها في أتون الحرب الأهلية, ولا تستطيع حكوماتها العتيدة تأمين الحد الأدنى من أمن وأمان وغذاء ودواء وكساء وتعليم وسكن ومواصلات لمواطنيها بل وفوق ذلك تقتلهم وتشردهم. كيف ذلك وما الذي يفسر هذه الأمر؟ وكيف لنا أن ندرس ما حصل ويحصل وسوف يحصل في هذه الجمهوريات؟
4
الرعب الذي أصاب الحُكّام في الجمهوريات "العربية" والأمريكان ودول التحالف وروسيا كان مشروعاً. لأن مشروع الشباب الأحرار في الشوارع والساحات يتعارض بالمطلق مع شكل الدولة الحديثة التي حكمت الجمهوريات "العربية" لأكثر من سبعين عاماً ومع ذلك فشلت في حمل هذه المجتمعات على القبول بها. وهذه نتيجة طبيعية لأن الدولة في شكلها الجمهوري الديمقراطي العسكري -الثوري إن شئت- استبدادية يحكمها لمدة طويلة أحد العساكر الطغاة-والأمثلة كثيرة- وهو في الغالب من فئة "دكتاتور صغير مجنون" مكانه الحقيقي ليس في القصر الجمهوري بل في مشفى الأمراض العقلية "العصفورية" كما نسميها في بلاد الشام. هذه الدول الاستبدادية لا تدمر المرء, ولكنها تمنع وجوده, وهي لا تستبده فقط, بل تعتصره وتوهنه وتخمده وتخدره , بل وتفعل ذلك في الأمة كلها, لكي لا تكون شيئاً أكثر من قطعان حيوانات مذعورة.
5
لا أستطيع أن أنكر أن نفسي تميل إلى شكل الدولة البسيط التي تُقاد من رجل بسيط من عامة الخلق. يحكم الناس من خلال مؤسسات بسيطة. وسأضرب لك مثلاً في مفهوم المحاكم المدنية و"قصور العدل" التي تتبجح الدول المدنية العلمانية الثورية في مدحها وتعتبرها من منجزاتها التاريخية وكأن ما قبلها لم يكن فيه العدل والقِسْطاس. اعتاد الناس على عمل هذه المحاكم التي اعتمدت التزييف من خلال صنعها لكل حبة قبة, فيختلط الحابل بالنابل في أروقة "قصور العدل" وتغوص أرجل الناس في طين لا مملص منه. وفي النهاية لا يُردُّ الحق إلى أهله, وإن رُدَّ, فيكون قد كلّف مالاً ووقتاً, وطَرَقَ أبواب الذل والمهانة. نعم نفسي لا تميل إلى طرق عمل المحاكم المدنية و"قصور العدل" في دول الجمهوريات "العربية" التي يحكمها مجلس قيادة الثورة.
6
ويمكن لأي شخص أن يتأكد من زيف عمل المحاكم المدنية, بأن يذهب ليوكل محامياً –إذا وجد هذا المحامي الجسور-في قضية ابنه الشاب الذي خرج ولم يعد. ثم قيل إنه مات في السجن بجلطة قلبية بعد اعتقال دام سنوات. لماذا اعتقل في الأساس؟ ماذا فعل؟ لا شيء يستحق الذكر, فقد ضبطه الحاجز الأمني و على هاتفه المحمول أغنية تلعن الرئيس في القصر الجمهوري. وها هو يعود إلى أمه (هويه شخصية) فقط –الدولة تُرسل إلى أهله هويته الشخصية مع بعض أغراضه- أين جثته؟ مُشوهة من التعذيب والدولة لا تجرؤ على إرسالها إلى أصحابها فترميها في حفرة جماعية. وها هو يعود إلى أهله بلا جسد ليُدفن في مقبرة العائلة قرب جده وجيرانه.
7
من هنا يُحاجج صاحب كتاب (نقد السياسة – الدولة والدين) بأن انهيار قواعد عمل الدولة هو الذي قاد إلى انهيار تقاليد تسامح دينية حيَّة منذ آلاف السنين بحيث أن الضربة الحقيقية التي تلقتها المجتمعات المتعددة الاثنيات الدينية و القومية في دول الجمهوريات "العربية" لم تكن في عقائدها ذلك أنها كان أكثر من كل المجتمعات الحديثة الأخرى قدرة على استيعاب القيم والأفكار والمذاهب الجديدة نظراً لوجود تقاليد التعددية الدينية بمختلف تجلياتها منذ آلاف السنيين, ولكنها تكمن في ما تعرض له نموذج الدولة من تهديم موضوعي وفي ما ظهر من تخلفه الهائل والمفاجئ بالمقارنة مع نموذج الدولة الحديثة في الغرب والشرق ومن ثم ذوبان كل مقدرة على إعادة إنتاج السلطة المركزية دون التغيير الشامل في طبيعة التوازنات الاجتماعية القائمة. ولا يزال المجتمع لم يخرج من هذه الصدمة التي تمس نموذج بناء السلطة وعمل الدولة حتى الآن.
8
ومن هنا لا يبدو الحديث عن التعصب الديني وكأنه سحب لتجارب تاريخية أخرى على المجتمعات في الدول "العربية" فحسب ولكنه يتجلى للرأي العام كنوع من التشويه التاريخي والاتهام المغرض وهو يتفاقم في الواقع بقدر التقدم في تمثل القيم الجديدة وتطور الفكرة العلمانية أي بقدر تغريب الشعور والوعي الديني والمدني. وهذا يفسر كيف أن نمو النزعة العلمانية التي كانت من العوامل الأساسية في التحول الديمقراطي في المجتمعات الليبرالية يغذي في مجتمعات الجمهوريات "العربية" الثورية النزعات الطائفية بل ويجنح إلى تحويل الدولة في مفهومها عن نفسها إلى دولة استبدادية طائفية وهو الذي يفسر كذلك لماذا لم تتحول الدولة المحررة من الدين-الجمهوريات "العربية"- إلى دولة علمانية يحكمها القانون. بل تحولت إلى دولة عسكر تحكمها الأجهزة الأمنية بفظاظة مفرطة. ولأن المؤسسة العسكرية هي الوحيدة المنظمة في شكلها العام أمام مؤسسات الدولة الأخرى, فمن حق المؤسسة العسكرية-الجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات- أن تكون قائداً للدولة والمجتمع. وهذا يُفسر أيضاً لماذا لم تستطع الدولة الحديثة التي ولدت بعد حقبة الاستعمار الغربي وتحت إرشاد النظرية العلمانية والنهضة الخجولة -والتي تبناها حتى المصلحون الدينيون- أن تفرز سلطة سياسية دستورية قانونية تقود المجتمع إلى بر الأمان, بل أفرزت سلطة عسكرية يقودها مجلس قيادة الثورة ومن ثمَّ الزعيم الخالد مع حزبه القائد و الذي يسعى لتوريث الحكم إلى أولاده في الجمهوريات "العربية" وهي ظاهرة غريبة تستحق التأمل والدراسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ