الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتفاضة الجزائر: ماذا بعد؟

نادر ديرمون

2019 / 3 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


ترجمة الاشتراكي

أجبرت المظاهرات المليونية التي اجتاحت الجزائر الرئيس بوتفليقة على التخلي عن خططه بالترشُّح لعهدةٍ خامسة. لكن لا تزال النخب القوية تعمل من أجل الحفاظ على قبضتها على المرحلة الانتقالية.

حوَّلَت الموجة الشعبية، التي اندلعت في 1 مارس الجاري، بمظاهراتٍ مليونية في كافة أرجاء البلاد، الوضع السياسي في الجزائر بصورةٍ لا جدال فيها. لكن، بينما هناك تغييرٌ كبير في مستوى الوعي، لا يزال توازن القوى لم يتغيَّر بعد.

المطلب الأساسي في القلب من هذه الموجة الجماهيرية كان معارضة حملة عبد العزيز بوتفليقة لعهدةٍ خامسة في الرئاسة، بالأخص في ضوء حالته الصحية المعتلة. وفي يوم الاثنين الماضي، 11 مارس، تخلِّى عن خططه للترشُّح مرةً أخرى في الانتخابات، التي كان من المُزمَع عقدها في 18 أبريل المقبل، إذ أعلن كذلك تأجيلها.

منذ البداية، اندلعت الاحتجاجات كمعارضةٍ أخلاقية لنظامٍ لطالما كان مختبئًا وراء شيخوخة الرئيس ومرضه. وبناءً على المنطلق الأخلاقي نفسه، عبَّر المتظاهرون عن رفضهم لنظامٍ “فاسد وسارق”، مطالبين بإسقاطه فورًا.

ومع ذلك، دفعت قوة هذه الاحتجاجات الجامحة عبر البلاد هذا التمرُّد الجماهيري الواسع إلى أبعد مِمَّا هو مجرد رفض لمحاولة بوتفليقة الترشُّح لعهدةٍ خامسة. تحوَّلَت الحركة الجماهيرية ضد الرئيس، الذي لا يزال في منصب الرئيس منذ العام 1999، إلى دعوةٍ من أجل تغيير سياسي واجتماعي أعمق.

رئيس مريض
لم تسقط الحركة من السماء، أو من خلال العفوية الجماهيرية وحدها، ففي الحقيقة كانت الاحتجاجات السياسية والاجتماعية والثقافية في حالةٍ من الاستمرارية عبر حكم بوتفليقة الممتد لعقدين من الزمان. كان إعلان الرئيس المريض نيَّته الترشُّح لعهدةٍ جديدة في انتخابات أبريل المقبل هو ما أشعل الانتفاضة، التي بلغت ذروتها في 3 مارس، يوم غلق باب تقدُّم المرشحين في الانتخابات.

من الواضح أن السؤال حول الاتجاه الذي ستسلكه الأحداث في المستقبل القريب يعتمد على نتائج الانتخابات. لكن تطوُّر الحركة يعتمد في المقام الأول على مسوى التنظيم، ونوعية القيادة الصاعدة من هذه الحركة، والثقل النسبي للقوى الاجتماعية والسياسية المختلفة المنخرطة فيها. سيتحدَّد ذلك من خلال صراعاتٍ ضارية حول كلٍّ من الشعارات والمطالب الفورية المطروحة -وهي معركةٌ بدأت تظهر للتو بالفعل.

على المستوى التنظيمي، اتخذت الحركة شكلًا مشابهًا لحركة “السترات الصفراء” في فرنسا، إذ كانت الاحتجاجات قد بدأت في 22 فبراير، في استجابةٍ لدعواتٍ مُجهَّلة على الشبكات الاجتماعية، ثم توسَّعَت إلى الطلاب في الأسبوع التالي، قبل المسيرات الضخمة التي شارك بها ما يناهز المليون متظاهر يوم الجمعة 1 مارس. ليس لدى الحركة أي قيادة مُحدَّدة، إذ ترفض أيَّ تدخُّلٍ سياسي رسمي، إلا أنها مع ذلك حركةٌ مُنظَّمة ومنضبطة بصورةٍ رائعة.

من الناحية الاجتماعية، هذه حركة شعبية بحق، من حيث أنها تتألَّف من أناسٍ من كافة الفئات العمرية والاجتماعية. مع ذلك، من المهم بمكان الانتباه إلى الوجود القوي للشباب، خاصةً شباب الطبقة العاملة -بالأساس شباب المدارس الثانوية الذين كانت المظاهرات تسير على إيقاع هتافاتهم التشجيعية في مدرجات مباريات كرة القدم. تتواجد في الحركة أيضًا ما نطلق عليها “الشريحة الوسطى”، وفي هذه الفئة على وجه التحديد نجد حضورًا نسائيًا قويًا بصورةٍ خاصة.

حضور عمال المصانع قويٌّ بصورةٍ ملحوظة هو الآخر، لكن ليس باعتبارهم جزءًا متمايزًا داخل الاحتجاجات. إنهم يمثِّلون عنصرًا اجتماعيًا للاحتجاجات، وليس قوةً اجتماعية متمايزة داخلها. لا تزال الشعارات الاقتصادية والاجتماعية غائبة إلى الآن. كانت هناك استجابةٌ للدعوة لإضرابٍ عام (لمدة خمسة أيام بدأ في 11 مارس). لكن في هذه البوتقة الاجتماعية التي يذوب فيها الجميع، هناك نوعٌ من الاندماج والانسجام بين المتظاهرين، كما لو أنهم يقولون “كلنا ضد الحكومة السارقة الفاسدة”.

أزمة النظام
على المستوى الرسمي، يتورَّط النظام الحالي في أزمةٍ سياسية كبرى. يتكوَّن النظام البرلماني المهيمن من ائتلافٍ من أربعة أحزاب؛ الحزبين الأكبر منهم هما جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، ومعهما حزبان أصغر كثيرًا هما الحركة الشعبية الجزائرية، وتجمع أمل الجزائر. المعروف عن هذا النظام على نطاقٍ واسع أنه مندمجٌ بشكل كبير مع الجيش، والشرطة، والاتحاد النقابي الأكبر في البلاد (الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، ومنتدى رجال الأعمال الجزائريين.

كانت هناك أزمةٌ كامنةٌ لبعض الوقت، مثلما يتضح من خلال الهجمات وتصفية الحسابات داخل المؤسسات نفسها: الاستبدال غير الدستوري لرئيس المجلس الشعبي الوطني (وهو جهازٌ برلماني) في أكتوبر الماضي، وحين عَزَلَ بوتفليقة أرفع مسئول أمني في البلاد، المدير العام للأمن الوطني الجزائري عبد الغني هامل، في أعقاب اكتشاف 700 كيلوجرام من الكوكايين في مايو 2018، علاوة على النزاعات الداخلية بين الجيش والشرطة.

المعارضة البرلمانية ضد الائتلاف الحاكم هي نفسها معارضةٌ ليبرالية، أو حتى ما يُطلَق عليها “ليبرالية مُتطرِّفة”. هذا الفصيل الأخير لا يتمتَّع بأيِّ تعبيرٍ برلماني قوي، لكنه يضم بعضًا من كبار رجال الأعمال مثل يسعد ربراب، وبعض الجماعات الإعلامية، وبعض الأحزاب التي لا تتمتَّع بثقلٍ كبير، علاوة على مُرشَّح رئاسي حالي، وهو الجنرال المتقاعد علي غديري.

هذا التناقض السياسي اتخذ شكل المجادلات حول الإصلاح الدستوري الذي يتعيَّن اتباعه بعد بوتفليقة. اقترح التحالف الراهن عقد “مؤتمر شامل” بعد انتخابات 18 أبريل، مع إعادة انتخاب بوتفليقة، والمفترض وفق الاقتراح أن يهيمن هذا المؤتمر على الاتجاه الذي سيتخذه هذا “الإصلاح”. طالبت المعارضة الليبرالية، التي أدركت الفخ بطبيعة الحال، بالانتخابات بدون بوتفليقة. ويعتقد الليبراليون أن هذا من شأنه أن يسمح بإضعاف الائتلاف الرئاسي الذي تضربه الأزمة، ومن ثم اندلع النزاع حول العهدة الخامسة.

قوة جديدة
هذه الأزمة التي لطالما كانت كامنةً، هي الآن مفتوحةٌ على الملأ. يُعزَى ذلك إلى تدخُّل طرفٍ ثالث في المعادلة: الطبقات الشعبية.

إن طرح الموقف الراهن من حيث البديل بين الثورة والإصلاح لهو نهجٌ شكلي يستند إلى رؤية ثابتة، بل حتى مدرسية، للتاريخ. التحوُّلات السياسية الكبرى لا يمكن أن تنطلق بمرسومٍ أو قرار. حتى الآن، الأزمة غير مسبوقة من حيث المطالب المرتبطة بنتائج الانتخابات الرئاسية. والنتيجة من ذلك بالتأكيد ستكون ثمرةً للنضالات، بما لها من نصيبٍ وفرص. وكل النتائج المُحتَمَلة تتمحور حول ثلاثة فرضيات رئيسية:

1- أن يختار الائتلاف الرئاسي المواجهة ويُبقي بوتفليقة مُرشَّحًا عنه. وسوف يعني هذا أن الانتخابات لن تُعقَد بالطبع، إذ كيف يمكنهم ذلك في ضوء التوازن الجديد للقوى الذي فرضته الجماهير في الشارع؟ هذه الفرضية من شأنها أن تتضمَّن تدخُّل الجيش، من أجل فرض حالة استثنائية تسمح له بتنظيم “مرحلة انتقالية”. وهذا الحل قد يلقى بسهولة قبولًا شعبيًا، حتى بين الجماهير، بالوضع في الاعتبار المستوى الراهن من الوعي والتنظيم.

2- استقالة (أو انسحاب) بوتفليقة قبل الانتخابات. وهذا سيخلق “فراغًا قانونيًا”، وسوف يلغي الانتخابات عمليًا. وبالتالي ستؤجَّل حتى بدون تدخُّل الجيش.

3- الفرضية الثالثة هي احتمالية التحرُّك باتجاه مرحلةٍ انتقاليةٍ تفاوضية عبر مؤتمرٍ وطني حول الإصلاح الدستوري، قبل التحرُّك نحو انتخاباتٍ جديدة.

لكن الوقت ينفذ، والجماهير في الشارع تمارس ضغطًا متصاعدًا، والتاريخ يتسارع في ظلِّ مثل هذه الظروف. حتى الآن، تتركَّز المسألة في حربٍ بين مطالب المحتجين. يهدف شعار “ضد العهدة الخامسة” إلى إضعاف الائتلاف الرئاسية، رغبةً في إزاحته بالكامل. أما شعار “إصلاح الدستور” (قبل أو بعد الانتخابات)، فيتطلَّع إلى تنظيم مرحلة انتقالية سلسة في ظلِّ قيادة النظام الحالي. وبخصوص شعار “الجمعية التأسيسية”، فهو يضطلع بوظيفة الإبقاء على الزخم، وكذلك يمنع الإجماع العام بين الليبراليين، الذين تُستبعَد منهم الأصوات المتنافرة.

ومع ذلك، هناك تردُّدٌ بين القوى السياسية التي اعتادت طرح مطلب الجمعية التأسيسية. إذا كانت مثل هذه القوى قد أحطَّت من شأن هذا الشعار الجدير -من خلال تقديمه في ظلِّ فرصٍ ضئيلة أمامه- فإنها اليوم تبدو كأنها قد تخلَّت عنه، أو على الأقل تبدو صامتةً الآن حين ارتفعت الفرص بالفعل. هرعت بعض الجماعات الليبرالية لتطوير موقف من شأنه “توحيد جميع الجزائريين”، في حين تعهَّدَت جماعاتٌ أخرى بدعمٍ حاسم من جانبها لبوتفليقة. والآن صار الجانبان مُحاصَرَين بهذه المواقف، إذ يتشكَّل إجماعٌ جديد بدونهم.

صارت الجماعات السياسية، التي قرَّرَت عدم المشاركة في الانتخابات لأن “الظروف ليست ملائمة للمشاركة بصورةٍ شفَّافة”، على هامش الساحة الآن. لكن أولئك الذين يصدرون الدعوات من أجل لجانٍ شعبية في أحياء الطبقة العاملة، وفي البلدات والجامعات، من أجل الإعداد لجمعيةٍ تأسيسية، يظلون واقعين في فخِّ نوعٍ من الشكلية المُجرَّدة. فبينما يتطلَّب نجاح مثل هذه الجمعية التأسيسية بناء لجان شعبية، وما تنطوي عليه من قوى مضادة أيضًا، من الضروري أيضًا ضمان الطابع الديمقراطي والتقدُّمي لهذه اللجان، كي تتجنَّب الجزائر مصيرًا كالذي لاقته إيران في ظلِّ الخميني.

بينما يتسارع التاريخ، تبني الجماهير هياكلها التمثيلية بإيقاعها الخاص. يمكن للمنظمات السياسية مسارعة هذه العملية بأن ترفع صوتها الخاص. إلا أن أولئك الذين يدعون فقط إلى إقالة بوتفليقة، هم في الحقيقة يشيرون إلى الطريق إلى إرجاء الانتخابات، الأمر الذي سيكون مناسبًا فقط للنظام.

لم يكن مرض المُرشَّح الرئيسي للنظام، ولا نزول الجماهير إلى الشوارع، مُتوقَّعًا قبل حدوثه. هكذا أمورٌ لا توضع في تقويمٍ تاريخي مُعَد مُسبَّقًا -وبالطبع هذه أيضًا هي الحالة مع كافة الانتفاضات الثورية في القرن العشرين. لكن إذا كان لديناميةٍ ديمقراطية أن تتطوَّر، فمن الضروري انتهاز الفرصة من أجل الحفاظ على الزخم، قبل أن ينجح الليبراليون الجدد في إخماده.

خطة بديلة
على صعيدٍ آخر من التحليل، هناك مُرشَّحٌ رئاسي مطروح بالفعل: علي غديري، اللواء المتقاعد الذي يظهر كخطةٍ بديلة. بالطبع وصل غديري إلى المشهد متأخرًا، لكن ظهوره يسمح لنا باستكشاف خطةً قد توضع قيد التنفيذ.

يبدو غديري يمثِّل قطاعات من الجيش يتلهَّف من أجل معركة. هذا تمرُّدٌ يجري خلف الكواليس، وهذه كواليس حقًا شبه عائلية، أكبر من حاشية الرئيس التونسي السابق بن علي، وحتى أكبر من عشيرة الأسد الحاكمة في سوريا. إنها جماعةٌ بيروقراطية برجوازية لها شبكةٌ ضخمة من العملاء، وأكثر رسوخًا من البيروقراطية المصرية، وأقل نخبوية من العائلة الملكية المغربية، ومن الصعب للغاية التحكُّم فيها أو التلاعب بها.

بصرف النظر عن هذه الخطط، فإن شقًا قد افتُتِحَ في النظام الحاكم. وهذا يمكن أن يفيد الفصيل الأكثر مهارةً من الناحية التكتيكية داخل الائتلاف الحاكم والمعارضة الليبرالية. لابد إذن أن نتابع ما يتخذه غديري من خطواتٍ عن كثب من الآن فصاعدًا.

حتى هذه اللحظة، لم يختر النظام المواجهة المباشرة؛ كان بإمكانه بسهولة نشر قاعدته وشبكة عملائه في الشوارع. وحقيقة أن النظام لم يفعل ذلك إلى الآن يعني أن المناقشات داخله لا تزال جارية.

لكن الحركة نفسها تتنامى، وتتجاوز بالفعل أولئك الذي يدَّعي البعض أنهم أشعلوا الحراك من البداية (يزعم البعض أن قطاعًا من النظام هو من هَندَسَ الاحتجاجات) -إذا كان أولئك موجودين من الأصل. ويتزايد الضغط الذي تمارسه المظاهرات على هذه المناقشات الداخلية للنظام. المعركة الحالية برمتها تدور رحاها بين خيار “الإصلاح” (ومن سيقوم به)، وعلى الجانب الآخر احتمالية تأسيس جمعية تأسيسية (وبالطبع سؤال من ينظِّمها).

بالنظر إلى الصعيد الإقليمي والجغرافي ككل، هل يمكن تصعيد هذه الانتفاضة كجزءٍ من العملية التي بدأت في تونس (ثورات المنطقة العربية)؟ أو هل يتعيَّن علينا النظر إلى اللحظة الراهنة باعتبارها أزمةً أكبر للرأسمالية؟

ستطلق هذه الانتفاضة موجاتٍ من الصدمة إلى جيران الجزائر بدون شك، حيث تونس التي خلقت ثورة 2011 فيها شقوقًا لم تلتئم بعد، والمغرب حيث افتتحت انتفاضة الريف بابًا جديدًا للحركة الجماهيرية. المؤامرات المُشار إليها سابقًا لا تُناقَش خلف كواليس النظام الجزائري فقط، ناهيكم عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية وآثارها التي تتطلَّب حلًا.

يعيد الجزائريون اليوم تأكيد كرامتهم، وتغمرهم السعادة من قدرتهم على التفكير في مستقبلٍ ذي معنى، ومن قدرتهم على الإعداد لنضالاتٍ آتية. نأمل ألا يُقاد هذا البلد مرةً أخرى إلى الهاوية.

– هذا الموضوع مترجم عن مجلة جاكوبين الأمريكية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا