الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو-اقتصادي وخدمة الأهداف الاجتماعية (3)

ابراهيم منصوري

2019 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


بعد الحلقة الأولى من هذه الورقة البحثية التي خصصناها لجرد أهم رؤوس الأقلام حول أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لغرض تحقيق الأهداف الاجتماعية؛ وبعد الحلقة الثانية من الورقة التي تطرقنا في إطارها إلى ضرورة تبني المقاربات الموسوعية في هذا المضمار وإلى بناء إطار مفاهيمي مناسب، تحاول الحلقة الثالثة من ورقتنا البحثية استبيان التحديات المنهجية المتعلقة بالموضوع (المبحث الثامن) مع التركيز على الآثار المحتملة للسياسات الماكرو-اقتصادية على مختلف الفئات الاجتماعية (المبحث التاسع).

8. أي إطار منهجي لأي مزج للسياسات الماكرو-اقتصادية الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية؟

إن أي باحث اقتصادي مهتم بالقضايا الاجتماعية لا بد له من إثارة الموضوع الرئيسي المتعلق بالفقر (Poverty). وبينما يعتقد الكثيرون من غير المتخصصين في هذا الميدان أن قياس الفقر (Measurement of Poverty)، وبالتالي تمييز الفقراء عن الأغنياء بطريقة أكثر علمية، يعتبر من الأمور الهينة السهلة، فإن ظاهرة الفقر معقدة إلى حد بعيد من حيث تعريفها وقياسها. ويعود هذا التعقيد إلى أن الفقر لا يمكن قياسه من الناحية النقدية أو المالية فحسب، بل من خلال تمظهرات عديدة تتدخل فيها الجوانب المادية والمعنوية؛ وبالتالي فإن تناول جوانبه المتشعبة يستدعي التسلح بحقول معرفية متكاملة.

كثيرا ما يعتمد الباحثون وصانعو القرار المعنيون بإشكالية الفقر عند تحليلهم لهذه الظاهرة، على مقاربة إحصائية (Statistical Approcach) أقل ما يمكن أن يقال لوصفها أنها لا تفي بغرض استيعاب الظاهرة وقياسها، ومن ثمة صياغة وتنفيذ السياسات الضرورية لاحتوائها والتخفيف من آثارها المضرة بالتنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي (Social Cohesion) والاستقرار السياسي (Political Stability)، وخاصة أن محاربة الفقر تستدعي أولاً وقبل كل شيء الإلمام الصحيح بمسبباته والقدرة على قياسه بطرق علمية.

تتمثل المقاربة الإحصائية التي يمكن نعتها بالساذجة، في قياس الفقر عن طريق مؤشرات إحصائية عديدة تعتمد في مجملها على متغيرات نقدية صرفة (Pure Monetary Variables)، من قبيل الدخل النقدي (Monetary Income) وحجم الإنفاق على الاستهلاك (Consumption Expenditures)؛ قبل أن يضيف المهتمون بظاهرة الفقر متغيرات أخرى أقل مادية، من أمثال الإنفاق على التربية والتعليم والصحة، رغم أن الإنفاق على هذه الخدمات اللامادية يقاس أيضا بطريقة نقدية صرفة (Purement monétaire). وفي إطار هذه المقاربة الغارقة في الغلو الإحصائي، ينحو المهتمون بالموضوع إلى إجراء مسح تقليدي لمداخيل ونفقات الأسر (Household Icome and Expenditure Survey) على غرار ما تقوم به المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب (Haut Commissariat au Plan).

إن المسح الذي تقوم به بعض المؤسسات المختصة في جمع الإحصائيات ومعالجتها حول مداخيل ونفقات الأسر يتم تدبيره بطريقة أبسط مما يتخيله الناس الأقل دراية بخبايا الأمور. ويعني هذا أن المؤسسات المعنية باستكشاف جيوب الفقر وقياس حدته يعمدون بكل بساطة إلى بناء عينة من الأسر يقولون إنها تمثيلية (Rpresentative Sample)، ثم يستجوب خبراء تلك المؤسسات أعضاء من تلك العينة حول مداخيلهم ونفقاتهم الاستهلاكية، قبل أن تُجَمَّعَ البيانات المحصل عليها وتجري معالجتها لبناء ما يسمى بمؤشر الفقر (Poverty Index).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن معالجي ومحللي البيانات المجمعة يعمدون بعد ذلك إلى بناء مؤشر للفقر بطريقة ساذجة بحيث أنهم يحددون ما يسمونه بخط أو عتبة الفقر (Poverty Line : Ligne de pauvreté)، أي الخط الأدنى للدخل أو الإنفاق الاستهلاكي الذي يدخل الشخص في عداد الفقراء إذا قل دخله أو إنفاقه عن ذلك الخط ويدخله في فئة غير الفقراء إذا تجاوز دخله أو إنفاقه العتبة المقدرة (Seuil estimé).

وبالاعتماد على هذا الخط المبني غالبا على معطيات إضافية حول عدد الكالوريات الضرورية لعيش الإنسان وكمية النقود الضرورية للحصول عليها، يتم في النهاية حساب مؤشر الفقر، أي بكل بساطة، نسبة عدد أشخاص العينة ذوي المداخيل أو النفقات التي تقل عن خط الفقر إلى العدد الإجمالي لأعضاء العينة التي تحوي في الغالب ألوفاً معدودة من االساكنة (عينة من حوالي 20000 أسرة في الحالة المغربية، أو أقل أو أكثر من ذلك بقليل) . وليتذكر القارئ الكريم في هذا الإطار أن مؤشر الفقر المحتسب بهذه الطريقة الساذجة هو ما نسميه في الأدبيات الاقتصادية المعنية بظاهرة الفقر بنسبة "رأس تعداد الفقر" (Head-Count Ratio Poverty).

إنه لمن المُهِمّ حقاً أن نؤكد أن هذا التحليل الإحصائي البسيط من شأنه أن يفشل فشلاً ذريعا في الأخذ بعين الاعتبار للأبعاد المتعددة للفقر، لا سيما إذا عرفنا أن هذه الظاهرة لا يمكن الاكتفاء بالجانب النقدي لقياسها، لأن الفقر بكل تأكيد يتعدى الحقل النقدي (Champ monétaire) إلى ما هو غير مادي وأعمق من الحسابات النقدية الصرفة (Purs calculs monétaires). وبناءً على هذه الملاحظة الهامة، فإن الفقر لا يمكن أن يكون إلا ظاهرة متعددة الأبعاد (Multidimensional Phenomenon)، بتعبير الاقتصادي الهندي المُنَوبَل Amartya Sen الذي يعود له الفضل أيضا في بلورة ما يسمى حالياً بمؤشر التنمية البشرية (Indice de développement humain : Human Development Index) الأوسع انتشارا على الصعيد العالمي.

ويتجلى من هذه المقاربة المتنوعة الأبعاد أن الباحثين وصانعي القرار يجب أن يولوا الاهتمام اللازم للمظاهر غير النقدية (Aspects non monétaires) للفقر من قبيل مدى حساسية الأفرد للآفات الخطيرة (Vulnerability) والعزلة المادية والاجتماعية (Physical and Social Isolation) وانعدام الأمن (Insecurity)، وقلة احترام الذات (Lack of Self-Respect) وعدم القدرة على تحصيل المعلومات (Lack of Access to Information) وعدم الثقة في مؤسسات الدولة (Distrust of State Institutions) وتدهور درجة التمكين الاقتصادي والاجتماعي (Economic and Social Powerlessness).

إن كل هذه المظاهر مجتمعة يجب أن يقام لها وزنها المعتبر في تقييم درجة فقر الأفراد والجماعات، بل إن أهميتها تضاهي أو ربما تفوق تلك التي يمنحها الإحصائيون للدخل والإنفاق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول الباحث المعروف Robert Chambers (Chambers, 1983, 1994)، ومن بعده عالم الاقتصاد الشهير Amartya Sen (1997Sen, )، إن أمن الفرد ودرجة حساسيته للآفات المختلفة يجب اعتبارهما في الحقيقة أَهَمّ من أي تعظيم أو تأويج للدخل (Income Maximization). وبالإضافة إلى السعي وراء قياس متعدد الأبعاد لظاهرة الفقر، فإن تواصل الباحث وصانعي القرار مع الساكنة المحلية من شأنه أن يسلط المزيد من الضوء على طبيعة وسير الاستراتيجيات المتبناة، وخاصة ما يتعلق بدور الشبكات المحلية (Local Networks) والرأسمال الاجتماعي (Social Capital) والبيانات التي يمكن تحصيلها حول المؤسسات العامة والخاصة المرتبطة أساساً ببرامج مكافحة الفقر.

وفي إطار المنظومة المنهجية المتعلقة بالفقر، فإن دور الباحث لا ينتهي عند القياس العلمي للظاهرة، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك. فالباحث المهتم بهذا الحقل المعرفي، بالإضافة إلى قياس الظاهرة، يجب عليه أيضا ان يمحص العلاقات المتشعبة بين الفقر وعدد من المتغيرات التي يمكن أن تفسره. وتعود أهمية هذا الدور المركزي للباحث المتخصص إلى أن مكافحة الفقر تستدعي أولا وقبل كل شيء، الوقوف مليةً عند مسبباته العميقة والتي إن عرفناها حق المعرفة، ستساعد على صياغة وتنفيذ برامج أنجع على مستوى السياسات الماكرو-اقتصادية؛ وذلك في سبيل تخفيف آثار هذه الظاهرة التي ما فتئت تنخر المجتمع وتهدد كيانه.

وفي هذا المضمار، استطاع المتخصصون بناء أدوات منهجية ذات طبيعة إحصائية وقياسية (De nature statistique et économétrique)، إلا أن الطريق ما زال طويلاً لبناء صندوق أدوات أكثر نجاعة (Boîte à outils plus efficiente)، وخاصة إذا عرفنا أن حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية غالبا ما يتسم بفقره المنهجي (pauvreté méthodologique)، على عكس العلوم الحقّة التي تعتمد كثيراً على تحريات مخبرية (Investigations de laboratoire). وفي هذا الصدد، قد يكون من المعقول أن نقول إن مستقبل العلوم الإنسانية والاجتماعية في الآتي من الزمان رهينٌ بمدى نجاح الإنسان في استكشاف أدوات منهجية جديدة وأكثر نجاعة من تلك التي نستعملها في الوقت الحاضر.

9. حول الآثار المحتملة للسياسات الماكرو-اقتصادية على مختلف الفئات السوسيو-اقتصادية:

إن التحليل الموسوعي (Multidisciplinary Analysis) لأبعاد الفقر المتشعبة يمكن أن يبين بشكل أوضح كيف يمكن للسياسات الماكرو-اقتصادية أن تؤثر في فسيفساء من الفئات السوسيو-اقتصادية التي يمكن توزيعها حسب معايير متعددة، على غِرار الدخل (Income) والنوع الاجتماعي أو الجندر (Gender) والمجال الجغرافي (Geographical Space) والعِرْق (Ethnicity) والجيل (Generation) والدين (Religion) والمجموعة المعاشية (Livelihood Group) التي ينتمي إليها كل فرد من الساكنة.

فعلى مستوى النوع الاجتماعي (Gender)، تَنحو بعض السياسات والإصلاحات الماكرو-اقتصادية إلى تكريس عمل المرأة لفترات أطول وأشق بالمقارنة مع الرجل، بل قد يكون عمل المرأة في كثير من الأحيان لا يدر عليها أي دخل نقدي، مع العلم أن هذا النوع من أنشطة المرأة الاقتصادية لا يدخل ضمن أرقام الحوسبة القومية (National Acounting). وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمر لا ينحصر فقط في غياب التقييم النقدي (Monetary Evaluation) لعمل المرأة في الإحصائيات الاقتصادية الوطنية، بل يتعداه إلى كون التكلفة التي تتحملها المرأة كلما زاولت أنشطتها الاقتصادية المختلفة، تظهر بوضوح في الإحصائيات المتعلقة بصحة وتغذية النساء والأطفال كما في أحوالهم المعيشية المتنوعة (أنظر في هذا الشأن، Özlem, 2018).

أما على المستوى العرقي، فمن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن بعض السياسات والإصلاحات الماكرو-اقتصادية قد تفاقم الصراعات الجهوية والعرقية (Regional and Ethnic Conflicts)؛ وما حدث مؤخرا في إقليمي الحسيمة وجرادة المغربيين إلا دليل واضح في هذا الشأن. وعلى العموم، فإن استفحال الصراعات الجهوية والعرقية يتوقف على مدى مفعول السياسات والإصلاحات الماكرو-اقتصادية على الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الجهات والأعراق المختلفة، أي أن تنامي الصراعات يرتبط بعبارة أوضح بما إذا كان صانعو القرار يعملون على إعادة تقويم التفاوتات الجهوية والعرقية أو على توسيعها، سواء كان ذلك بطرق ممنهجة أو عن غير قصد.

أما بالنسبة لأهمية الأساليب المعاشية لمختلف شرائح المجتمع، فلا بد من الإشارة إلى أن السياسات والإصلاحات الماكرو-اقتصادية يمكن أن تؤثر على متغيرات ماكرو-اقتصادية أساسية من شأنها أن تؤدي إلى تدهور الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لفئات سوسيو-اقتصادية معينة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يؤثر إلغاء دعم الدولة لأسعار المواد الأساسية على شرائح المجتمع الأكثر هشاشة وفقرا؛ وخاصة على الطبقة العاملة الهشة في قطاعي الفلاحة والصناعة والتجارة. كما ان تحرير بعض القطاعات، كقطاع الطاقة مثلا، كما حدث في المغرب خلال الأعوام القيلة الماضية، يمكن أن يؤثر تأثيرا بالغا على مستوى العيش لدى طبقات اجتماعية معينة من قبيل العاملين في الصيد البحري والنقل، بالإضافة إلى الفئات الفقيرة التي تتحمل أسعارا باهظة كلما ارتفعت تكاليف نقل منتوجات أساسية وواسعة الاستهلاك من أمثال الخضر ومواد استهلاكية أخرى.

خواتم الحلقة الثالثة من الورقة: تجسير صوب الحلقة الرابعة

تناولنا في الحلقة الثالثة من هذه الورقة البحثية جوانب من الإطار المنهجي والآثار المحتملة للسياسات والإصلاحات الماكرو-اقتصادية. ومجمل القول في هذا الإطار أن البحوث في هذا الاتجاه تستدعي الإلمام بالأدوات المنهجية المتوفرة، مع العلم أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تظل فقيرة من الناحية المنهجية إذا ما قورنت بالعلوم الحقة؛ وهذا ما يفرض على المعنيين بالأمر من باحثين وصناع القرار بذل المزيد من الجهود في سبيل بناء أدوات منهجية جديدة، وذلك من أجل إحاطة أعمق بظاهرة الفقر والبحث عن سبل انجع للتخفيف من وطأتها.

كما أن الحلقة الثالثة من هذه الورقة البحثية تبين أن الباحثين في هذا الحقل المعرفي يجب أن يبذلوا مزيدا من الجهود من أجل فهم أحسن لمفعول السياسات والإصلاحات الماكرو-اقتصادية على فئات اجتماعية مختلفة ومنتقاة حسب معايير متعددة من قبيل النوع الاجتماعي والعرق واسلوب المعاش؛ وهذا ما يستدعي بالطبع الإلمام بعلوم متشعبة والعمل على تشكيل مجموعات بحث موسوعية ومتكاملة، بحيث أن الاكتفاء بتخصص العلوم الاقتصادية لا يسمن ولا يغني من جوع معرفي.

في الحلقة القادمة من هذه الورقة البحثية، سنتابع تحليلنا لأهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الأهداف الاجتماعية، مع التركيز في المبحث العاشر على إشكالية قنوات انتقال (Transmission Channels ) مفعول هذه السياسات على الوضعية الاجتماعية للساكنة.

المراجع:

المرجع 1: Chambers, R., 1983, “Putting the Last First”, Longman Editions, London, UK.

المرجع 2: Özlem, Onaran (2018), “Where are Women in Macroeconomics?”, Rbuilding Macroeconomics, April, 18th.

المرجع 3: Sen, Amartya (1997), Choice, Welfare and Measurement, Harvard University Press, USA.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ