الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت تحت التعذيب

راتب شعبو

2019 / 4 / 20
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


في أواخر 1981 هز اللاذقية خبر وفاة سجين سياسي تحت التعذيب في أقبية فرع الأمن السياسي في اللاذقية. كان اسمه "محمد عبود"، وكان يتعرض للتعذيب لاستخلاص معلومات منه عن التنظيم السياسي الذي كان ينتمي إليه وهو "حزب العمل الشيوعي في سوريا".
قيل حينها إن "محمد" بصق في وجه المحقق رداً على شتيمة طالت أمه، وقيل إنه سخر من "الذات الرئاسية" أثناء التحقيق معه، وقيل إنهم عذبوه حتى الموت لأنه تحداهم وقال إنه لن يفيدهم بحرف واحد عن تنظيمه. المهم أنهم عذبوه حتى الموت، وأن موته لم يستتبع أي تحقيق، ولم ينل أحد من جلاديه أي عقوبة، ومعروف أن المحقق الذي قتله استمر في عمله وترقى.
كان ذلك رسالة صريحة إلى جيل الثمانينيات وما بعده: لا يوجد حدود للقمع. لا يهم سلمية أو لا سلمية التنظيم. لا يهم دينية أو علمانية التنظيم. نحن فقط من يقرر مكمن الخطر، ونحن من يتخذ القرار بالتصفية حين نشاء، لمن نشاء. لا مشاعر مع السياسة، السياسة لا تعرف مشاعر التضامن أو التعاطف أو الشراكة الإنسانية، لكنها تعرف مشاعر الانتقام والحقد والكراهية. لا يجوز للمحقق أن يتعاطف مع معتقل بريء فيقرر إطلاق سراحه، لكن يجوز أن يقتله تحت ضغط الشعور بالغيظ منه.
حين تعمل مع تنظيم معارض يجب أن تستعد للموت. كان موت محمد عبود تحت التعذيب هو بداية مسار من سياسة القتل "المسموح" ضد كل من يعارض. حين تعارض ولا تموت تحت التعذيب فذاك حظ جيد أو مكرمة يمنون عليك بها. وقد لخص هذه السياسة مهندسها الأول "الرئيس الخالد" حافظ الأسد حين قال لوفد من الأمهات اللواتي قابلنه للمطالبة بأبنائهم اليساريين السلميين المعتقلين لسنوات طويلة في السجون السورية: "حين تكتشف أن هناك أفعى تسعى لكي تلدغك فمن الطبيعي أن تقتلها، أما نحن فإننا اكتفينا بحبسها".
كان موت ذلك الشاب تحت التعذيب بداية، وحازت تلك البداية على ما تحوز عليه البدايات عادة من استفظاع واستنكار. وحاز اسمه على ما يستحقه اسم الشهيد الحقيقي من انتشار. أما اليوم فقد باتت حالات الموت تحت التعذيب أمراً مكروراً وصار حمل الأسماء ثقيلاً على الذاكرة، وبتنا نتحايل على أنفسنا، كما هو الحال مع بقية الحالات التي تكثر ضحاياها، ننتشل اسماً ونرفعه عالياً كتمثيل عن مجموع الأسماء التي لا نستطيع ذكرها. لا نستطيع حماية الضحايا من التعذيب ولا من الموت تحت التعذيب ولا نستطيع حتى حفظ أسمائهم، فنغدو كلنا ضحايا. الشهداء ضحايا مباشرون للجلادين، ونحن ضحايا لضمائرنا وسرائرنا المعذبة ولشعورنا بالعجز والصغر. الإجرام يحمي ذاته بالمزيد من الإجرام. تكبر الجريمة وتضيع التفاصيل في ثناياها وتتحول الأسماء إلى أرقام، وتكبر الأرقام ويجري تقريبها إلى أرقام "جميلة" من مضاعفات الخمسين أو المئة، وتصبح أرقاماً دلالية تبتلع ملامح الضحايا وسماتهم الشخصية وحلاوة ابتساماتهم وجمال وجوههم الشابة. وهي فوق ذلك ارقام عمياء عن ضحايا مخفيين لا علم للمراصد والمنظمات الإنسانية بهم، ضحايا يسقطون من عداد الموتي إلى عداد المفقودين.
صار الموت تحت التعذيب خبراً عادياً، كثرت ضحاياه وكثر الجلادون إلى حد بات من الممكن أن تلتقي بأحدهم كل يوم وفي كل مكان. تجلس في باص أو في قاعة انتظار أو في مقهى وتنظر في الوجوه ويلدغك خيط كاو من التفكير: ربما ساهم هذا الشخص الساهم هناك في تعذيب سجين حتى الموت. أو ربما كان هذا الرجل الذي يدخن باسترخاء رجل مخابرات يقوم، بعد موت السجين تحت التعذيب، بوظيفة تحرير وثيقة تقرر أنه تم الإفراج عنه قبل يوم من موته، كي يصبح في عداد المفقودين ويخفي جريمة قتله تحت التعذيب. ويمتد خيط التفكير الممض: قد يكون ذاك الوجه هو وجه جلادك القادم. هذا الوجه الذي يثير فيك النفور قد يكون هو وجه الشخص الذي يملك صلاحية أن يعذبك أنت حتى الموت. وقد تضعف أمامه وتصغر حتى ترجوه وأنت في لجة ألمك أن يرحمك. تصبح الوجوه من حولك وجوهاً ملغومة. مدحلة من التفكير المتوالي تسحق كل تعابير الوجه: الضحك والبراءة والدهشة والشرود ..الخ. كل التعابير أقنعة لوجوه جلادين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة جمال عبد الناصر والسادات تظهر فى شوارع القاهرة وسط أكب


.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم




.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ




.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب