الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلمُ الإشاراتِ الخفية!..

يعقوب زامل الربيعي

2019 / 5 / 20
الادب والفن


حلمُ الإشاراتِ الخفية!..
................
قصة قصيرة
نهضَ من يقظةٍ مُلتبِسة. وهو ما يزالُ تحت الغطاء، كأن عليه أن يبسُطَ ذراعيه، ليوازِن ما عليهما، وكان ثمةَ شعور، أن بين كفيه كومةُ صحون، يحرص أن لا تسقطَ على الأرض.
كانت هناك، أصواتٌ، قد تكون في المطبخ، أو في إحدى الغرف، تأتيه كما لحظة رائحة تعَرُّق نسائية تحت دوامة لشهوات متخثِّرة صغيرة.
ما يزال يسبح ببحيرة حلم الليلة الفائتة. يحس أن جلدَه معذبٌ مثله، لطالما عانى من تلك الإشارات الحميمية التي عاش فيها خلال وقت الحلم. وثمة هناك بقية من كلماتها كانت تقول له
ــ " ما يشبه البيت الصغير رأيته اليوم، فكرت أن نعيش فيه. أنه مناسب لي ولك".
في تلك اللحظة، كنت أفكر بشبح محطة تندسُّ في سكك الذهن. وكان عطرُها ما يزال يخفق على الوسادة. قليلة هي الايام التي تحسسني بأني أنام في قطارات تسير إلى ما لا نهاية. فجأة يختلط كل شيء. " هل ارتكبت حماقة، حين تركتها داخل عطرها، ورحت ابحث عن قاطرة حديدية أنام فيها"؟
كانت الطفلة ( رحمة ) قرب رأسه، تعض إصبعَها بلثتها الحمراء. صوت ابنته البكر، عالياً هناك، وهي تأكل. وكانت أبنته الوسطى تأكل، وكَنَّته كانت تأكل، وأصوات من خارج البيت، تتسربُ نحوه. أصوات جشة في الهواء الطلق، كما صمغٍ غزير تحت الشمس.
وكان ملتهباً، وهو يمرّر سبابةَ اصابعه والوسطى، لما تحت عينيها وخديها، ليمسح بقية دموع، تلكم التي اختلطت بالحليب المحمض.
كررت أمام عينيه صوتَ نغنغتها البَكّاءة، المتقطعة، كأن بها رغبةٌ أن تقول كلمة، تريد بها أن تُكمِلَ له شكواها الجنيني. وكان جسده خفيفاً كالقطن رخواً. فكر:
ــ " ما الذي تريد أن تقوله ( رحمة ) الطفلة "؟
أنفها الصغير المفروش نحو الجانبين، وفمها المكتنز الصغير، وتحت ذلك القلق الخافت، شبيهان بجناحَيّ فراشة مهووسة، تخفقان. وكانا كمن يلجئان، حين ينفتحان بالرغبة المبهمة للصوت المبلل. وحين تدس راحة يدها بين اصابع يده، وتنظر إليه بتميُّع، كان ينتزع من قلبه أنّة حارة، يُفيَّضها بصوت كأنه يخرج من باطن الأرض. متأملا وجهها، لحظة تنقبض أحشاؤه كالقبضة.
طلب قهوته الصباحية. أعادت ترتيب أولويتها، كان صوتها يحدث موسيقى صغيرة بريئة.
ــ سأعدها لك في كل صباح حين نكون في بيتنا الجديد.
ــ والقطارات ؟
ــ لن تكون هناك قطارات، حبيبي.
ثم أطلقت ضحكة مضيئة.
كانت وحدها، في الغبش الضبابي، تلمعُ، مرتخية، بذراعيها الجميلتين العاريتين، ينتفخ ثوبها اللؤلؤي بالهواء، ثم ينخفض.
في الظل، كان يتلمس يديها، والكثير من مواضع جسدها، يُمرّر اصابعه على منحنيات وسطوحٍ لها ملمس الفرو الدافئ الناعم،
متأملا وجهها الشارد العذب ببشرته الملساء المشدودة. وحين يهس أمام عينيها " أحبكِ ". كانت تضحك ولا تجيب. تترقق بدموع الحنان والخجل. ويتشنج جسمها الفتي بمجسات الوبر الطري، يسمع منها أصواتاً لها رائحة الصنوبر. تلك رائحتها، كجزيرةٍ تحت الشمس والريح، مرحة، مسترخية، تدور في الهواء.
ــ " كان عليك أن تبقي هناك "
كانت قد تركت الباب مفتوحا. وكان نورٌ أبيض راكضٌ على الاجسام المددة. وكانت هي في جانب من الضوء، تعد له قهوته.
ذلك السلام المسترخي، ليس لديه الآن ما يفعله، كما الأمس، حين كان اسمرا ونشيطا، يلامس السطوح والأشرعة والسلاميات. لقد كف الآن أن يتكلم، أو أن يضطر لرفع صوته.
تذكر أنه في يوم، وقد عاد من عمله قبل منتصف الليل، متعبا، كيف دفع باب الغرفة، يحمل علبة حلوى، كانت تحب تذوقها دائما. حين تناولتها من بين يديه، قبلته. كانت لشفتيها دغدغةُ سحابةِ نبيذ أبيض، لم يجرؤ إلا أن يغمِضَ جفونه استسلاما لدفئها. وكانت لأنفاسها رائحةُ العشبِ الاخضر.
في تلك الليلة، بقيا لساعات الفجر الأولى، يتناوبان الاستسلام. تغمض عينيها خدرا، وينزلق هو تحت اهتزاز حر شفتيها، ثملين متأرجحين، كأنهما لو أخذهما النوم، سوف لن يستيقظا.
في زمن السكوت والليل الأصم، وقد سقط في زوايا متشبهة، لم يعد يستطيع أن يتحررَ من ذلك الدوار اللذيذ، حين يتسلل لرأسه.
في الصباح الأصفر، عندما كان في الفراغ الوحيد، حيث لا علامةَ في السماء، لم يعد ذلك الاستسلام الرطب اللذيذ. كانت أنفاسه
الحارة، تنزلق من جدرانَ وخرائب، تتلوى بين مِنخريه وشفتيه، وكان ثمة تعبٌ قطني متبقٍ تحت أظافر يديه وقدميه.
وثمة حشد ٌمائعٌ لزجٌ، ينبضُ بالإشفاق وهو يرى النور يتحرك بين تلكم الشفتين الصغيرتين والأنف الندي الصغير، وما وراء تلك النغنغة المحلقةِ في محطة روحه الخالية من القطارات وأصوات المسافرين والباعة، والتفاتات المودعين عبر الخطوط المتوازية، تلتمع كما سُحَنٍ تطرف عيونها تحت الشمس.
يدان صغيرتان تلمسان يديه. وكان حسبه إلتفاتةً متقطعة الأنفاس، تجتاز الطريق إليه. وفي اللحظة ذاتها، يسقط الدوار ببطء.
كل شيء يجري بتمهل. ثمة خطوط حديدية تدمدم بالرحيل.
وكانت لحظة توشك أن تجيء. لكنها، كما في كل مرّة، كما سحابة مدهشة، تتهادى دائما إلى الوراء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو