الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باولو فريري: سارق النار

سامي نصار

2019 / 10 / 4
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


باولو فريري سارق النار

د. سامي نصار


تروى الأساطير اليونانية أن بروميثيوس وهو أحد الجبابرة السبعة ( التيتان) هو من تصدى لزيوس رب الأرباب من أجل صالح البشر الذين أرادت الآلهة حرمانهم من المعرفة. وكان بروميثيوس أكثر الآلهة حكمة، فقد تربى على يد أثينا، ربة الحكمة، وتعلم منها كل العلوم: العمارة، والفلك والرياضيات والملاحة والطب والتعدين وكل الفنون النافعة، ولكنه قام بنقلها للبشر، مما أوغر عليه صدر أبيه زيوس؛ الذي كان قد اتخذ قرارًا بأن يفني الجنس البشرى كله، ولكن البشر، بما ملكوا من معرفة، تحدوا رب الأرباب وتكاثروا وازدادوا قوة وموهبة واقتدارًا. فما كان من زيوس رب الأرباب إلا أن حرم البشر من النار، وطرد بروميثيوس من جبل الاليمبوس مقر الآلهة.
ولكن بروميثيوس تقدم برجاء إلى ربة الحكمة أثينا أن تسمح له بأن يدلف خلسة إلى جبل أولميبوس من الدرج الخلفي، وعندما سمحت له بذلك أخذ قبسًا من الشمس، وأضاء به شعلة من النار، وأهداها للبشر متحديًا رب الأرباب، الذي حكم عليه أن يقيد في الأصفاد عاريًا فوق جبال القوقاز حيث تأكل الطيور الجارحة من كبده ليل نهار، وسنة بعد سنة، وكلما أجهزت عليه الطيور ينمو كبده مرة أخرى حتى يظل في العذاب المقيم إلى أبد الآبدين.
قد يقول قائل ما علاقة هذه المقدمة بموضوع حديثنا اليوم عن باولو فريرى؟ وعن موقفه من التعليم والتمكين؟!
التشابه واضح بين مغزى أسطورة بروميثيوس وبين حياة باولو فريرى فيلسوف التربية البرازيلى الأشهر (1918 – 1997) الذي انحاز إلى الفقراء والمقهورين، مثله مثل برميثيوس، وناضل من أجل أن يتعلموا، ويعرفوا، وينشطوا ويعملوا، ويواجهوا، ويغضبوا، ويثوروا، ويغيروا حياتهم، بل ويغيرون العالم، فكان جزاؤه النفي خارج بلاده؛ والتشابه واضح أيضاً بين النار والمعرفة.
ويرى باولو فريرى أن التعليم لا يمكن أن يكون محايدًا، فهو إما أن يكون أداة للتحرير أو وسيلة للقهر, وعلى المربي أن يختار بين أن يكون أداة في يد القاهرين يطوع، بالنيابة عنهم ولمصلحتهم، أبناء الشعب, وإما أن يكون ممن يحملون شعلة المعرفة التي تضئ أمامهم طريق الحرية.
وعندما نتناول ، في هذه الصفحات، التعليم عند باولو فريرى فلابد لنا الالتزام ببعض الطقوس، وأول هذه الطقوس أن ننزع عن عقولنا، وعلى أبواب حضرته، تلك النظرة الوضعية للقضايا والمشكلات الاجتماعية بصفة عامة والتربوية بصفة خاصة, تلك النظرة التي تدعى الموضوعية وتعلن الحياد، فتنظر إلى التعليم باعتبارها عملية ميكانيكية هدفها تمكين الأمي من فك شفرة اللغة المكتوبة, وهى التي عندما تقدم له هذه اللغة فإنها تقدمها بصورتها الرسمية التي يستخدمها القاهرون، إنها لغة بعيدة عن حياتهم اليومية وعن ثقافتهم واستعمالاتهم الشعبية،
أما عند باولو فريرى فإن التعليم وسيلة من أجل تكوين الوعي الناقد الذي يؤدى بدوره إلى الثورة والتحرر. إنه " أي التعليم " نسيج يتخلل كل شيء، ويتجلى في كل الظروف يتخلل كل العوامل والأحوال والمواقف. إنه سبيلنا إلى تكوين الوعي، والذي يعرفه فريرى بأنه الشغف المعرفي لاكتشاف العالم، وهو وسيلتنا للنفاذ إلى حفريات الوعي Archaeology of Consciousness أي إلى تأسيس العلاقة بين البشر والعالم، بحيث يصبح ممكنًا للإنسان أن يعيد خلق العالم، وأن يصبح مرة أخرى جزءًا من العملية الطبيعية التي يتجلى فيها الوعي النقدي في أبهى صورة. وفي تلك اللحظة التي يشرع فيها الإنسان، متسلحا بوعيه النقدي، في تدبر العالم. يتم أنسنة الإنسان، ويصبح الإنسان مختلفًا عن الحيوان، ليس فقط لأنه يعرف, بل أيضًا لأنه يعرف أنه يعرف. والفكرة الرئيسة التي يؤمن بها فريرى هي أن الحيوانات تتكيف مع الطبيعة بينما الإنسان يغيرها ويضع بصمته عليها، وعندما يدرك الإنسان ذاته باعتباره " فاعلاً" فإنه يدرك دوره كمنتج للثقافة التي هي إسهام الإنسان في الطبيعة. وعلى الإنسان أن يؤسس علاقة ما بينه وبين العالم من خلال أفعاله الساعية نحو خلق وإعادة خلق العالم الطبيعي، وهذا الإسهام الشخصي هو عمل ثقافي من أجل أن يعثر الإنسان على مكانه في " العالم الثقافي". ويرى فريري أنه لا يمكن أن يكون هناك رفع لمستوى الوعي دون وجود علاقة جدلية بين الإنسان والعالم.
وتمر عملية رفع مستوى الوعي بثلاث مراحل اختار لها فريري مصطلحات من علم اللغة لبيان الارتباط بين القول والفعل ,وهي:
1-الوعي اللازم Intransitive هنا الإنسان لا يدرك العلاقة الجدلية التي تربطه بالطبيعة.
2-الوعي المتعديTransitive البسيط وهو عبارة عن الإدراك الأولى للمشكلات، والتشخيص المبهم.
3-الوعي النقديCritical، وهنا يكون الحوار و تنسيق الجهود هما السبيل لتشخيص المشكلات ومواجهتها.
وفي حفريات الوعي، تكون الكلمة هي الأساس في عملية فهم العالم وتغييره، والتعليم هو الذي يمكننا من اكتشاف الحقيقة وشق جدار الصمت الثقافي؛ حتى يتحرر الناس من الأساطير التي كبلت عقولهم عبر السنين، فتنتصر العقلانية والحرية.
وبما أن التحرر ليس منحة وإنما نضال متواصل، فإن للتعليم دوراً أساسياً في المحاولات التي تقوم بها الجماعات المقهورة في حركتها السياسية من أجل مقاومة مظاهر اللا مساواة التي أفرزتها بنية علاقات القوة، وما يترتب على ذلك من تداعيات، وكذلك إحداث تغير هيكلي في هذه العلاقات لصالحها. وقراءة الكلمة قراءة واعية تمكننا من مراجعة قراءاتنا السابقة للعالم، وهنا يرى فريرى أن القراءة ليست متعة خالصة، ولا فعلاً ميكانيكيًا لاسترجاع واستظهار أجزاء من نص ما، وإنما هي عملية عقلية صعبة ولكنها ممتعة. ولا يمكن لأي إنسان أن يقرأ قراءة حقة ما لم يتخذ من النقد سبيلاً، بحيث تكون قراءته كاشفة ومستكشفة، وتكون القراءة، بهذه الكيفية، بحثاً إبداعياً وفهماً واعياً لما يقرأ وإنتاجا جديدا لنص جديد. وتعلم القراءة-في نظر فريري -خبرة إبداعية حول الفهم والتواصل الشامل. وتكتسب خبرة الفهم هذه، كل العمق إذا استطعنا أن نحدث تكاملاً بين المفهومات التي تنبثق من الخبرة المدرسية وتلك الناتجة من حركة الحياة اليومية بدلاً من تفتيتها وتجزئتها. ويتطلب المران الناقد في القراءة والكتابة أيضًا الانتقال اليسير والتلقائي من التعميم والتجريد إلى المحسوس والمعاين وإلى الممارسة والفهم الشامل في كل مناشط حياتنا اليومية.
ويرى فريري أن اللغة المقروءة يجب ألا تتجاهل اللغة البسيطة العادية باعتبارها تكونت من مفهومات تخلقت يومًا بعد يوم من خلال الخبرة الحياتية المعيشة. ولكن ذلك لا يعني، في المقابل، الابتعاد عن أشكال اللغة الصعبة واستخدام المفاهيم المجردة، فهذه الطريقة في الفهم والقراءة الدقيقة للنص والسياق لا تستبعد تنوع اللغة ولا تراكيب الجمل، وتضع في اعتبارها أن المؤلفين يستخدمون لغة أكاديمية، ولا ينبغي الترخص في تبسيطها وتيسيرها، وإنما نعمل على جعلها في متناول القراء من حيث الوضوح والسهولة والبعد عن التعقيد والغرابة.

والقراءة والكتابة عمليتان متكاملتان لا ينفصلان عن بعضها البعض، وعندما نتعلم كيف" نقرأ" فإننا نمارس ما فعله الآخرون الذين سبقونا في الكيفية التي تعملوا بها كيف يقرأون ويكتبون وأتقنوا ذلك، فأنتجوا لنا ما نقرأه لهم، وكما أننا نتعلم كيف نقرأ فإننا نستعد في الوقت ذاته لنكتب ما نتعلمه في حياتنا الاجتماعية.
ولما كان فريري لا يؤمن بأن ثمة حياداً في التعليم، وأن التعليم إما أن يكون للتطويع أو للتحرير، فإذا كان للتحرير فإن أساليب التطويع تصبح غير مناسبة. ولما كانت القوة جزءًا لا يتجزأ من التربية، ولما الذين يمتلكون القوة يحددون ماهية التعليم، وأساليبه وبرامجه ومناهجه، فإن التعليم يصبح بالتالي أداة للتحرر وليست أداة للسيطرة، كما يصبح أيضًا قضية سياسية تستهدف إعادة بناء الوعي من أجل التحرر.
وهنا تصبح القراءة والكتابة بل وإعادة الكتابة بالنسبة لفريرى عملية سياسية تستهدف فضح خطط القاهرين من ناحية، وتنتج لنا أفرادًا متعلمين من ناحية أخرى. وهذا يعنى أن التعليم ينبغي ألا يكون محايدا بل لابد أن ينحاز إلى جانب المقهورين، وأن يتم توجيه محتواه في هذا الاتجاه.
ومن هنا يبتعد التعليم عن أن تكون عملية ميكانيكية، وظيفتها حل شفرة الكلمة المطبوعة، بل أن يصبح طرفا فاعلا في قلب العلاقة بين المعرفة والقوة. فالإشارات الصادرة من الواقع يمكن أن تضلل أو توضح أو تعلل أو تبرر أو تعمل وفقًا لهذا الفهم أو ذاك. ولكن اللغة بالنسبة لفريري تسعى من أجل تحقيق المصداقية، إنها نضال من أجل الحقيقة. فالكلمة هي جوهر الحوار الإنساني ذاته، وليس ثمة كلمة صادقة لا تمثل قضية في ذات الوقت. فالكلمة الصادقة تغير العالم. ونجاح التعليم مشروط ببدء الناس في تأمل العالم وتدبر قدرتهم على تغييره، وعندها يتوحد الناس مع وعيهم باعتبارهم ذاوت واعية، يتأملون ويفكرون بكامل كيانهم.
إن أي مشروع للتعليم ينجح فقط عندما يفهم الناس الكلمات بدلالتها الحقيقية كقوة تغير العالم، وهنا تكمن العلاقة بين التعلم والتحرر، فعندما يكون التعليم أداة للوعي النقدي، وعندما تكون هناك إرادة سياسية للتعليم تنحاز إلى المقهورين والمهمشين وتستهدف تمكينهم من تغيير عالمهم الذي ألفوه وألفهم، وصاروا جزءًا منه وصار جزءًا منهم، وتشوه وعيهم في ظله، وعندما يتحقق ذلك يمكننا أن نتحدث عن أن التعليم قد أسهم في التحرير بمعناه الحقيقي، وليس بالمعنى الذي يريده القاهرون الذين يحددون الأدوار للمقهورين، ويرسمون لهم مسارات الحرية وحدودها، فيدرك المقهورون بذكائهم الفطري أبعاد اللعبة فيتظاهرون بالطاعة ويتظاهرون بأنهم يتعلمون، ويمثلون بأنهم يشاركون ويعملون، ويتمادى القاهرون في اللعبة التي تحقق لهم شيئًا من الصيت والشهرة، وبعضًا من الراحة النفسية لأنهم قدموا شيئاً للفقراء المقهورين، ويجاريهم المقهورون، ويدورون في فلكهم، كما يدور "الفرفور" حول السيد في مسرحية الفرافير ليوسف إدريس، وتستحيل الحياة إلى نوع من العبث والسلبية المطلقة التي تبدو وكأنها ضرب من ضروب المقاومة، ولا يستطيع الفرفور أن يخرج عن مداره حول السيد إلا إذا وجد من يضئ له الطريق، ويعلمه أن هناك مسارات أخرى تفتح له آفاق الحرية، وتمكنه من أن ينال حقوقه، وتخرجه من ثقافة الصمت والانسحاب إلى ثقافة المشاركة والمقاومة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ