الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات بطعم التعاسة(2)

داود السلمان

2020 / 5 / 20
سيرة ذاتية


واتذكر في يوم من الايام أخذت معي قرصة حافية من الخبز، وكنت قد وضعتها في جيب بنطالي، ولما قرع الجرس معلنا بدأ الفرصة، أخرجت قرص الخبز ذاك، واتخذت لي مكانا قصيا، ملتفتاً يميناً وشمالاً، كأنني لص محترف، ورحت أقضم القرص بنهم، كي لا يراني أحد الطلاب، وكيلا اصبح حديث سخرية بينهم. بعدها لم اكرر تلك الحادثة، وأخذت الوم نفسي: كان يجب عليّ إن لا افعل ذلك حتى لو تمزقت احشائي بسكاكين الجوع.
المدرسة كانت تقع ليست قريبة عن منزلنا، بل كانت المسافة التي اقطها سيرًا على الاقدام، حوالي ميلين أو اكثر، وكانت الجادة ترابية غير مبلطة، ففي الصيف يصعد لهيب التراب الساخن الى جمجمتي، فيتصبب العرق من كل انحاء جسمي كوابل في حالة غصب. وأما في الشتاء، فلم أصل الى ابواب المدرسة الا وأنا قطعة من الطين، وانا احتذي حذاءً بلاستيكيًا طريًا لكن من دون جواريب.
وعند العودة الى المنزل فتلك هي الطامة الكبرى، حيث يخيم الظلام ويصبح الطريق موحشا فالشوارع خالية من الاضاءة قد هجرها النور، او قُل بالأحرى انها لم تعرف النور مذ ولادتها.
وكم من مرة يداعب مخيلتي الخوف، فاشغل نفسي بقراءة المعوذتين واكرر الصلوات على النبي، أذ اتخايل أن يقفز جني من بين ثقوب الظلام ويمسك بناصيتي أو يهب الى عنقي، أو يدخل في رأسي فاصبح مجنونا، ومجنون رسمي، فقد سمعت جدتي كثيرًا وهي تحدث أمي عن العفاريت والشياطين وعن الجن المارد، وعدة مرات حلمتُ بالجن، فأفز مرعوبًا، وعندما اتذكر ذلك الحلم وانا أسير في الظلام متجها الى المنزل، واكاد أن أصرخ من شدة الظلام الدامس، خصوصًا ايام الشتاء. وحينما أصل المنزل اتنفس الصعداء، فاجد أمي الحنون بانتظاري لتقدم لي العشاء، وهو عبارة عن قرص من الخبز وقليلا من العسل الاسود (دبس التمر) أو بيضة مسلوقة، فأتناولها واذهب الى الجيران كي اتفرّج على التلفزيون، وتأتي أيام لا أجد لدى أمي غير قرصة من الخبز وكوب من الشاي تقدمه لي عشاءً فاخر- تقدمه أمي وهي تتنهد وتتحسر بحركة الم تهز الجبال الراسيات. ومن يدرك تحسر الام حينما تشعر بقسوة الحياة، الام التي وهبها الله أحن قلبا، واعظم صبرًا، واشد تحملا لمدلهمات الاسى والشجن؟.
وفي يوم من الايام ذهب والدي الى أحد اقربائنا، وكان يعمل نجارًا لصب سقوف المنازل، فرجاه وتوسل اليه أن يتفضل عليه كي أعمل معه كصانع.. فاستجاب الرجل.
وهكذا اخذت اعمل مع قريبنا، وكان يعطيني في اليوم دينارًا عراقي، والذي بحساب اليوم ليس له أي قيمة، ولكن في تلك الفترة أي فترة الثمانينيات، فله قيمة لابأس بها.
وكان يسمح لي بالانصراف قبل الدوام في المدرسة بساعة واحدة. وكنت اكثر الاحيان لا ادخل الحمام لأستحم بل أفضّل الذهاب مباشرة الى المدرسة وادخل الصف بكامل زينة العمل، اليس الشعار كان مرفوعاً (عملك شرفك). وحينما يراني المدرس وانا بملابس العمل كان يُكن لي بعض الاحترام والتقدير، كذلك بعض الطلاب ايضا يعملون بأعمال مختلفة واحيانا يأتون الى المدرسة ويدخلون الصف وهم بهذه الهيئة (شرف العمل).
وأتذكر في يوم من الايام كان أحد أصدقائي يعمل صباغ أحذية في منطقة (الباب الشرقي) ودائمًا يأتي متأخرًا الى الدرس.
وفي مرة من المرات كان لدينا امتحان شهري فدخل زميلي هذا الى الصف وهو بعدة العمل، وكانت العدة عبارة عن صندوق خشب لصبغ الاحذية مع كامل محتوياته، وحينما دخل وهو في هذا المنظر ذُهل بعض الطلاب الذين لا يعلمون بعمله، فضحك بعضهم، لكن المدرس زجرهم ونهرهم بشدة، وأما هو فكانت الدمعة تتلجلج في مآقيه لكنها أبت السقوط.
وبعد الامتحان الشهري اعطاه المدرس أعلى درجة، أراد بذلك أن يعيد له الاعتبار، ويوصل لهم رسالة بأن العمل شرف، بل هو الشرف العظيم، وذلك لأن المدرس ذاك كان طيب القلب رقيق الفؤاد، يتقطر نبّلا ويفيض اخلاقا، ويحمل روحًا انسانية قلّ نظيرها.
كان يحترم الذين يعملون نهارًا ويدرسون عصرًا. فيعتبر هؤلاء الكادحين يستحقون العون والمساعدة والاحترام. لأنهم جذوة المستقبل التي ستُنير طريق البناء وتعمّر الاوطان، وتشيّد الجسد الانساني.
كان هذا المدرس يمتحنا من ثمانين بالمئة ويعطي عشرون درجة على الاخلاق والسلوك الحسن داخل الصف، وكنا نحن الذين نعمل يعطينا درجة الاخلاق والسلوك كاملة بهدف التشجيع والمساعدة.
وبعد ذلك أصبح لدي نقود اضعها في حافظة جلدية، حيث أأتي الى المدرسة وحافظتي لا تخلُ من النقود، حتى صرت أشتري الصمون والعنبة من الحانوت، بعض الحلويات والمشروبات الغازية، وفي اليوم الذي يأتي صديقي صباغ الاحذية بدون نقود، لأنه عادة ما يعطي كل ما يربحه الى والدته، لأن ظرفه المادي اصعب من ظرفنا جميعًا. فكنت بعض المرات اشتري له الصمون والعنبة، حتى صار من اصدقائي الحميميين، وفي يوم الجُمع وهي عطلة الاسبوع كنت اذهب الى زيارته في المنزل واسلم على والدته، تلك المرأة الطيبة التي كانت تناديني بـ(خالة) وتوصيني بولدها عادل صديقي. وبعد أن تخرجنا من مرحلة المتوسطة، تفرقنا، وابعدتنا الايام ففقدت صديقي هذا الى الابد حيث لا اعلم اين حلت به ركاب الحياة.
وفي تلك الفترة كنا نذهب الى السينما في عطلة الاسبوع، ولا نكاد نترك اسبوعا لم نشاهد فيه فلمًا من الافلام الهندية، أو فلما من الافلام العربية. كانت معظم دور السينما تقع في شارع السعدون ببغداد (والسعدون هذا له قصة طويلة، اذ كان، محسن السعدون، هو رئيس وزراء العراق في العهد الملكي، ويا ليته بقى ذلك العهد، فقتل نفسه منتحرًا في ظروف غامضة) كانت السينمات هي: سينما بابل، وسينما النصر وسيمنا النجوم، وسينما اطلس، وسينما الميامي والخيام وشهرزاد وغيرها، وكنا نحب الافلام الهندية، حتى كنا بعض الافلام لأكثر من مرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو