الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصالحة في الهواء الطلق

هاشم تايه

2006 / 7 / 2
الادب والفن


ليس ما سأصفه هو من قبيل تبجيل أمّنا الطيبة الناهضة "المصالحة"، والدعاية لها في لحظتها غير المريحة هذه، فلقد أتيح لي أن أكون شاهداً عليه، ولكَ، عزيزي، أن تعتبر به، أو تسخر منه...
كنت أجلس إلى جوار نافذة في مبنى هيئة زراعة البصرة التي نُقلت إليها من التعليم، وظيفتي السابقة، بأعجوبة من أعاجيب ثمانينيات قرننا المحتدمة...
في شمس نهار صيفيّ، يكاد يشبه نهارنا هذا، لمحتُ، صدفةً، أستاذي (عين) الذي قرأت على يديه الفيزياء أيام كنت طالباً في المتوسطة في الستينيات، كان يدرج في الزقاق تتأبطه امرأة لا بدّ أنها زوجته… هي بثوب أسود، وهو ببنطال رماديّ وقميص أبيض، كانا ذائبيْن في شمس ذلك النهار…
قبل أن يدخلا إطار النافذة التي التصقتُ بها، كان يقترب منها من الناحية الأخرى من الزقاق (ف) أحد ضباط الأمن في البصرة.. كان هذا معروفاً بقسوته في إنجاز مهام وظيفته كجلاد متمرّس طيلة عمله فيها… وقد قُدِّر لي أن أشهده يُغير على مدرستي المتوسطة أيام الستينيات تلك مع رهط من رجاله العتاة فينتزع من بيننا، نحن الطلبة، أستاذنا في الفيزياء (عين)، بسبب ربطته الحمراء التي كان الرجل يحرص على عدم ارتدائها، ويقتاده إلى كهفه الأسود في مديرية الأمن، فتغيب عن صفّنا الفيزياء أياماً وتنقلب إلى غبار من صخب وضجيج...
كان هذا يحدث باستمرار وقد تعوّدنا على أن نربح أستاذنا المنكود يوماً، وأن نخسره أيّاماً.. وكان إذا حضر أطلّ علينا بوجه جرّده الشحوب من مائه، وقد ألفنا شروده وذهوله عن فيزيائه، وانكبابه على خصلة في شعره تقبض عليها أصابع إحدى يديه وتروح تفتلها فتلاً حتى تكاد تقطعها، خلاصة الأمر حياة أستاذنا المسكين انقلبت إلى جحيم بسبب غريمه الأسود الموكول به…
العلاقة التي تربط الرجلين اللذين كانا يوشكان على أن يلتقيا في الزقاق الضيّق، ولا مفر لهما من أن يجدا وجهيهما يرتطمان ببعضهما، هي علاقة عنف، عنف يخرج من (فاء) بحكم الرغبة في الاستبداد فيستقبله (عين) بحكم الرغبة في الحريّة…
لبثتُ مسمَّراً في النافذة أرقب مشهد الارتطام بين رجلين لم يتوادّا في يوم وتقاعدا عن العمل من سنوات، أستاذي عن التعليم وغريمه الضاري عن التعليب ! هل سيكون الهواء قادراً على أن يحتملهما معاً؟ أي جرح ستكابده اللغة لو أنّها وضعت جسدها بينهما ؟
اقتربا من بعضهما وصارا وجهاً لوجه يجمعهما إطار نافذتي... ولم يطل الأمر... مدّ رجل الأمن يده بكفّ مبسوطة تطلب يد أستاذي.. وأوشكتُ أن أقذف الاثنين بصرخة صعدت إلى حنجرتني، لكنّ المرأة ابتسمت في تلك اللحظة، فابتلعتُ صرختي، ولم أكن، أنا المستطار وقتذاك، أستطيع أن أعرف فيما إذا كانت تبتسم ساخرة من المصادفة العمياء، أم تعبيراً عن الرضا...
لا بدَّ أن الكلمات التي أرسلها رجل الأمن مبسوط الكفّ كانت تعبّر عن الاعتراف بهول ما صنع بالرجل، وربما عن الندم أيضاً، ولا بدّ أنّ ذلك الاعتراف المجلّل بالخجل هو الذي أخرج يد أستاذي وبسط كفَّها ودلَّها على كفّ النادم...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا


.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا




.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو


.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا




.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر