الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجربة علمية

أوري أفنيري

2006 / 10 / 22
القضية الفلسطينية


هل من الممكن إرغام شعب كامل على التخلي عن مقاومته للاحتلال الأجنبي عن طريق تجويعه؟

من المؤكد أن هذا السؤال يثير الاهتمام، إلى حد تجري فيه الآن حكومتا إسرائيل والولايات المتحدة، بالتعاون الوثيق مع أوروبا، تجربة علمية واسعة النطاق للحصول على إجابة موثوق بها.

المختبر الذي يتم إجراء هذه التجربة فيه هو قطاع غزة، وفئران التجارب هم مليون وربع مليون الفلسطينيين الذين يعيشون هناك.



بهدف إنجاز التجربة وفقا للمواصفات العلمية اللائقة، كانت هناك حاجة إلى تجهيزات مسبقة للمختبر بأكمله.

لقد تم ذلك على النحو التالي: في البداية اقتلع أريئيل شارون كافة المستوطنات الإسرائيلية التي كانت مغروسة هناك. فمن غير الممكن إنجاز التجربة بشكل معقول بينما تتجول في المختبر حيوانات أليفة. لقد تم الأمر "بإصرار وبحساسية"، وانهمرت الدموع كالسيل، تعانق الجنود مع المطرودين وقبلوهم، وها هو الجيش الإسرائيلي يثبت، مرة أخرى، أنه الجيش الأفضل في العالم.

حين أصبح المختبر خاليا، حلّ دور المرحلة التالية: يجب سد كل فتحاته، بهدف عزل المنطقة المعقمة عن أي اتصال بالعالم. هذا الأمر لم يكن صعبا. لقد منعت حكومات إسرائيل بناء مطار في غزة، واهتم سلاح البحرية بعدم اقتراب أية سفينة من الشاطئ. تم تدمير المطار الدولي الأنيق الذي تم بناؤه أيام أوسلو. أغلق القطاع بأكمله منذ مدة طويلة بواسطة جدار ناجع، وبقي فيه بعض الفتحات فقط تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي.

الاتصال الوحيد الذي بقي مع العالم الخارجي: المعبر إلى مصر. لم يكن بالإمكان إغلاقه دون سبب، لأن النظام المصري كان سيبدو عندها كمتعاون مع إسرائيل. لقد وجدوا حلا مفذلكا: أخلى الجيش الإسرائيلي، للوهلة الأولى، المعبر ووضعه بين أيدي وحدة مراقبة دولية. أفرادها هم شباب دمثون، مشبعون بالإرادة الطيبة، ولكنهم متعلقون عمليا بالجيش الإسرائيلي: إنهم يسكنون في إسرائيل، يصلون إلى المعبر بموافقة إسرائيل فقط، التي تواصل السيطرة على المعبر عن طريق غرفة مراقبة قريبة.

هكذا أصبح كل شيء جاهز للتجربة.



تم إطلاق الإشارة بعد أن أجرى الشعب الفلسطيني انتخابات ديموقراطية يُحتذى بها، بمراقبة الرئيس الأسبق جيمي كارتر. لقد اعترت النشوة الرئيس جورج بوش: ها هو حلمه يتحقق والديموقراطية تنتصر في الشرق الأوسط.

ولكن الفلسطنيين قد خيبوا الآمال. فبدل أن ينتخبوا "العرب الطيبين"، مؤيدي الولايات المتحدة، انتخبوا عربا أشرار جدا، يؤيدون الله. لقد شعر بوش بالإهانة. ولكن حكومة إسرائيل قد جالت وصالت: بعد فوز حماس، وافق الأمريكيون والأوروبيون على المشاركة في التجربة المخطط لها. كان بالإمكان البدء:

أعلنت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عن وقف أي تبرعات مقدمة إلى السلطة الفلسطينية "الواقعة تحت سيطرة الإرهابيين". في الوقت ذاته، أوقفت حكومة إسرائيل تحويل الأموال من قبلها أيضا.

وبهدف فهم معنى ذلك: بمقتضى "اتفاقية باريس" (الملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو) يتواجد الاقتصاد الفلسطيني داخل "مغلف الجمارك" الإسرائيلي. أي أن إسرائيل هي التي تجبي الجمارك عن كل البضائع المستوردة إلى الأراضي الفلسطينية عن طريق إسرائيل - ولا توجد أية طريقة أخرى. بعد جباية عمولة دسمة، يتوجب على إسرائيل تحويل الأموال إلى الفلسطينيين.

حين ترفض حكومة إسرائيل تحويل هذه الأموال، التابعة للشعب الفلسطيني، فإن هذا ببساطة هو سطو في وضح النهار. ولكن عندما تسرق من "الإرهابيين"، فمن ذا الذي سيحتج؟

السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، تحتاج إلى هذه الأموال كحاجتها إلى الهواء لتتنفس. هذا أيضا يحتاج إلى شرح: طيلة 19 سنة من الاحتلال الأردني للضفة الغربية والاحتلال المصري لقطاع غزة، لم يتم بناء أي مصنع جدّي واحد في هذه المناطق. أراد الأردنيون أن تتم كل الصفقات الاقتصادية لديهم، عبر الأردن، وأما المصريون فقد أهملوا القطاع بشكل تام.

جاء الاحتلال الإسرائيلي وزاد الطين بلة بأضعاف. لقد تحولت الأراضي المحتلة إلى سوق مستعبدة لدى الصناعات الإسرائيلية، ومنع الحكم العسكري إقامة أي مصنع يمكن أن ينافس مصنعا إسرائيليا.

اضطر العمال الفلسطينيون إلى العمل في إسرائيل مقابل أجر كان يعتبر في إسرائيل أجرا زهيدا. كانت حكومة إسرائيل تستقطع من هذا الأجر الزهيد كافة المدفوعات الاجتماعية المفروضة على العامل الإسرائيلي، رغم أن العمال الفلسطينيين لم يُمنحوا أية حقوق اجتماعية. بهذه الطريقة نجحت الحكومة الإسرائيلية في نهب هؤلاء العمال المستغلين لتصل المبالغ إلى عشرات مليارات الدولارات، التي اختفت بطريقة ما في بئر بلا قرار تابعة لحكومة إسرائيل.

عند نشوب الانتفاضة، اكتشف أرباب الصناعة والزراعة في إسرائيل أنه من الممكن الاستغناء عن العمال الفلسطينيين. كان هذا الأمر مجد أيضا. يمكن استيراد العمال من تايلاند، من رومانيا ومن الدول الفقيرة الأخرى، وهم عمال مستعدون للعمل بأجر أقل بكثير، وبظروف عمل تكاد تصل إلى حد العبودية. ظل العمال الفلسطينيون عاطلين عن العمل.

كان الوضع مع بدء التجربة على النحو التالي: البنى التحتية في الأراضي الفلسطينية مدمرة، لا توجد فيها أية وسائل إنتاج، لا يوجد فيها عمل للعمال. هذا وضع أمثل لإجراء "تجربة التجويع" الكبيرة.



بدأت مرحلة التنفيذ كما ذكرنا، في وقف كافة المدفوعات.

تم منع الانتقال بين غزة ومصر منعا فعليا. كان المعبر يُفتح كل عدة أيام أو أسابيع، بهدف الاستعراض، لبضع ساعات لكي يتمكن بعض المرضى والذين هم على فراش الموت من الوصول إلى بيوتهم أو من الانتقال إلى المستشفيات في مصر.

تم إغلاق المعابر بين إسرائيل وقطاع غزة، "لأسباب أمنية". كان يتوفر دائما وفي اللحظة المناسبة "إنذار مستعجل بإنجاز عملية مخطط لها". تعفن المحصول الزراعي الفلسطيني المكدس على المعبر والمعد للتصدير. لا يمكن إدخال الأغذية والأدوية إلا بين الحين والآخر، وهذا أيضا بهدف الاستعراض فقط، حين كان شخص ما يُسمع صوته في العالم. وعندها كان يأتي "الإنذار الأمني المستعجل" الجديد ليعود الوضع إلى ما كان عليه.

بهدف إكمال الصورة، قام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف محطة الطاقة الكهربائية في القطاع، حيث ينقطع التيار لوقت طويل في اليوم وتزويد المياه (المتعلق بالكهرباء) يكون محدودا لفترة قصيرة في اليوم. حتى في أيام الصيف الحارقة لا يتوفر الكهرباء للثلاجات، للتكييف، لتزويد المياه وللاحتياجات الأخرى.

الوضع أقل حدة في الضفة الغربية وهي منطقة تزيد مساحتها بكثير عن مساحة قطاع غزة (يشكل قطاع غزة 6% فقط من مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن سكانه يشكلون نسبة 40%). لكن أكثر من نصف سكان الضفة الغربية يعيشون الآن تحت "خط الفقر" الفلسطيني، الذي هو أدنى بكثير من "خط الفقر" الإسرائيلي. كثيرون من بين سكان غزة يمكنهم أن يحلموا فقط بخط فقر بلدة سدروت المجاورة.

ماذا تريد إسرائيل والولايات المتحدة أن تقولا للفلسطينيين؟ الرسالة واضحة: سوف تصلون إلى حد الجوع، وحتى أنكم ستعبرونه، في حال لم تستسلموا. عليكم إقصاء حكومة حماس وانتخاب مرشحين تصادق عليهم إسرائيل وأمريكا. وبالأساس: عليكم الاكتفاء بدولة فلسطينية مؤلفة من عدة قطاعات معزولة، تكون جميعها متعلقة بنوايا إسرائيل الحسنة.



يصيب الارتباك الآن القائمون على هذه التجربة العلمية حول سؤال يثير الاهتمام: من أين تأتي قدرة الفلسطينيين على الصمود رغم كل ذلك؟ فحسب كافة النظريات كان من المتوقع أن ينكسروا منذ مدة طويلة!

صحيح، توجد هناك إشارات مشجعة. جو الإحباط واليأس يخلق توترا بين فتح وحماس، فقد نشبت هنا وهناك مشادات عنيفة، ووقع فيها قتلى وجرحى، ولكن التدهور يتوقف في كل مرة قبل أن يصل إلى حرب أهلية. توجد مظاهرات-جوع. آلاف المتعاونين الإسرائيليين السريين يدسون يدهم في القِدر ولكن خلافا للمتوقع، لم تتلاشى قوة المقاومة. حتى الجندي الأسير، غلعاد شليط، لم يتم إطلاق سراحه.

إحدى الإجابات تكمن في بنية المجتمع الفلسطيني. تلعب الحمولة فيه دورا مركزيا. طالما كان هناك شخص واحد من أبناء العائلة يعمل، فإن أقرباءه لا يموتون جوعا، رغم وجود سوء تغذية واسع النطاق. من يتقاضى دخل، يتقاسمه مع كل أخوته وأخواته، والديه، جده، أبناء أعمامه وأولادهم. هذه طريقة متخلفة، ولكنها ناجعة جدا في مثل هذه الظروف. يبدو أن أصحاب التجربة لم يأخذوها بالحسبان.

لتسريع العملية، تم هذا الأسبوع تفعيل الجيش الإسرائيلي مجددا بكل قوته، فخلال ثلاثة أشهر كان الجيش الإسرائيلي مشغولا بحرب لبنان الثانية. لقد اتضح أن الجيش الذي يعمل منذ 39 سنة بالأساس بوظيفة الشرطة الاستعمارية، لا يمكنه التصرف حين يضطر، فجأة، إلى مواجهة خصم مسلح ومدرّب، قادر على التصدي بحرب شعواء. تم استخدام سلاح مضاد للمدرعات ضد القوات المدرعة، وقد غطت القذائف مساحات شمال إسرائيل. لقد نسي الجيش منذ زمن بعيد كيف يواجه مثل هذا العدو. وقد انتهى هذا الأمر على نحو سيئ.

ها هو الجيش الإسرائيلي يعود الآن إلى الحرب التي اعتاد عليها. لا يوجد لدى الفلسطينيين في القطاع (حتى الآن) سلاح مضاد للمدرعات، وصواريخ القسام تلحق أضرارا طفيفة. ها هو الجيش الإسرائيلي يستطيع ثانية أن يستخدم الدبابات ضد السكان دون ما عائق. سلاح الجو، الذي خاف في لبنان من إخراج الجرحى، يمكنه الآن قصف منازل "المطلوبين" ومنازل عائلاتهم وجيرانهم، من دون أي خوف. إذا كان قد تم قتل 100 فلسطيني "فقط" كل شهر بهدوء، في الأشهر الثلاثة الماضية، فنحن نشهد الآن ارتفاعا دراماتيكيا في عدد القتلى والجرحى.

كيف يمكن لسكان جياع يفتقرون إلى الأدوية والمعدات في المستشفيات ومعرضون إلى الهجوم من اليابسة أن يصمدوا؟ هل سيكسرون؟ هل سيركعون ويطلبون الرحمة؟ أم أنهم سيكتشفون بداخلهم قوى فوق بشرية وسيجتازون الاختبار؟

باختصار: ماذا وكم هو المطلوب لكسر السكان؟

كل العلماء المشاركين في التجربة - إيهود أولمرت وكوندوليسا رايس، عمير بيرتس وأنجله ماركل، دان حالوتس وجورج بوش، ناهيك عن الحائز على جائزة نوبيل للسلام، شمعون بيرتس - ينحنون الآن فوق أجهزة الميكروسكوب وينتظرون الإجابة، التي ستسهم بالتأكيد إسهاما كبيرا في العلوم السياسية.



آمل في أن لجنة جائزة نوبيل تتابع هذه التجربة بيقظة كافية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم