الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تجربة محمد على فى بناء الاقتصاد المصرى
عبد المجيد راشد
2006 / 11 / 9الادارة و الاقتصاد
كان محمد على من بين جميع رؤساء الدول في الشرق الإسلامي في ذلك العصر القائد الوحيد الذي يعتبر الاقتصاد أساس السياسة، ومن ثم كان هذا الضابط الالبانى الواعي المدرك رجل دولة، والدولة التي كان بصدد إقامتها تتمثل بادئ ذي بدء عام 1805 في دولة قديمة عريقة ترتكز على جيش قوى فعال وتعتمد على نظام اقتصادي قوى حديث يقوم على الاكتفاء الذاتي.
ولكي نفهم سياسة محمد على الاقتصادية وتوجهاته ينبغي الإشارة إلى انه لم يكن واليا عثمانيا تقليديا شأن الولاة الذين كانت اسطنبول تقذف بهم إلى باشاوية مصر ولا يفعلون شيئا سوى تحصيل الأموال وإرسالها إلى السلطان مع مخصوص يقال له "الصرجى" أي حامل صرة المال، ولكنه كان قيادة مختلفة من عدة أوجه :-
• • فهو لم يكن عسكريا محترفا، وأن كانت هذه صورته التي عرفه بها المصريون، بل كان في الأصل رجلا مدنيا عمل بالتجارة وخدم في الجيش العثماني لبعض الوقت ثم ساقته ظروف الكساد الاقتصادي الذي صنعته حروب الثورة ألفرنسية في أوروبا إلى تلبية دعوة السلطان العثماني على راس فرقة من الألبان الارناؤود للانخراط في الحملة العسكرية التي أرسلت لإخراج ألفرنسيين من مصر.
• • ومن ناحية أخرى فأن محمد على لم يكن تركيا آسيويا بالمعنى الاصطلاحي شأن عناصر السلطة العثمانية ولكنه كان أوروبيا من ألبانيا، ومن معاصرته للنشاط التجاري هناك أدرك أن قوة الدولة تتحقق من الصادرات وليس من الواردات وأن التصدير يعنى زيادة الإنتاج وتنويعه لتلبية حاجة الاستهلاك المحلى.
وقد أدرك محمد على بثاقب نظره الخطرين المتلازمين اللذين غدت مصر معرضة لهما في زمنه، مثلها مثل باقي العالم غير الغربي وهما :-
أولا : خطر أن تتجاوزهما الثورة الصناعية الثانية - الرئيسية – التي كانت تنطلق حينذاك بملء سرعتها في الغرب
ثانيا : خطر الإبقاء في ظل مثل هذه الظروف على سياسة الباب المفتوح التي لابد أن تجعل الاقتصاد المصري أكثر تعرضا لخطر تعديات أوروبــا المنطلقة نحو التصنيع.
ولمراجعة هذين الخطرين أقام محمد على عمليا، عبر فترة عشرين عاما، اقتصادا مخططا - قبل أن تصبح هذه الحكومة معروفة بوقت طويل مستفيدا من نصيحة بعض ألفرنسيين من أنصار سان سيمون الذين كانوا جزءا من بطانته - وكان قوام هذا النظام هو استيلاء الدولة على كل ألفائض المتاح وإنشاء قطاع دولة كبير شرع في خطة طموحة للتصنيع التعليمي واقتباس أفضل ما كان باستطاعة الغرب أن يقدمه إلى مصر في مجال المعرفة العلمية والتكنولوجيا بل وجوانب معينة من الثقافة.
فبعد أن استقرت السلطة السياسية في يد محمد على اثر تخلصه من تهديد انجلترا "حملة فريزر 1807" وكانت تحرض السلطان العثماني ضده، وإبعاده للسيد عمر مكرم 1809 ممثلا لزعامة شعبية رفعته إلى كرسي الولاية، ثم تخلصه أخيرا من المماليك 1811، تفرغ لبناء اقتصاديات مصر في الزراعة والصناعة والتجارة، وما يرتبط بكل منهما من مجالات.
وكان الاقتصاد المصري قبل حكم محمد على في غالبه اقرب إلى اقتصاد الحاجة منه إلى اقتصاد السوق، فضلا عن ركوده العام وتدهوره طوال فترة الحكم المملوكي - العثماني، إذ لم تكن هناك تنمية زراعية حقيقية، أو اهتمام حقيقي بالري نظرا لأن الحكومات المملوكية - العثمانية المتعاقبة كانت من أصول بدوية لا خبرة لها بالزراعة، الأمر الذي أدى إلى تصحر كثير من الأراضي الزراعية وتضاؤل خصوبتها فضلا عن أن نظام الالتزام في جمع الضرائب "الخراج" أرهق ألفلاح بسبب تحصيل أموال أكثر من المقرر "برانى" وجعل من الملتزم صاحب سطوة ونفوذ بين ألفلاحين حتى لقد اعتقد علماء الحملة ألفرنسية في مصر بأن الملتزمين ما هم إلا نبلاء، ومن ثم اتجه نابليون للقضاء عليهم أسوة بما فعلت الثورة ألفرنسية تجاه أمراء الإقطاع.
أما الصناعة قبل محمد على فكانت ما تزال بدوية بسيطة لم تصل إلى الآلية التي حققتها أوروبا بفعل الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر، وكانت طوائف الحرف الصناعية وهي تنظيمات ذاتية حرة قد خضعت للحكومة، وأصبحت مشيخة الطائفة منصبا يتولاه من يدفع أكثر فلم تعد الطائفة والحال كذلك وسيلة للارتقاء بشئون الحرفة.
وأما التجارة وهي وسيلة أساسية في تدوير راس المال فقد كسدت في مصر بسبب تحول جانب كبير من التجارة العالمية "الترانزيت" إلى راس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا بعد الكشوف الجغرافية، كما تأثرت التجارة الداخلية بعدم استقرار الأمن واشتداد النزاع بين الطرق العسكرية المتناحرة والغارات المتلاحقة لبدو الصحراء على القرى الآمنة، كما أدت اتفاقيات الإمتيازات التجارية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية والتي بدأت في 1535 مع فرنسا إلى سيطرة الأجانب على تجارة الصادرات عن طريق قناصلهم.
كانت تلك هي صورة الاقتصاد المصري بشكل عام عشية القرن التاسع عشر.
ولذلك كان من الطبيعي أن تأتى الزراعة في المكان الأول في إطار الإصلاحات الاقتصادية، ومن المعلوم أن جميع الأراضي باستثناء أراضى الوقف كانت في أواخر القرن الثامن عشر موزعة على الملتزمين، وكانت مهمة الملتزم الأساسية تتمثل في "جباية الضرائب الواجبة على قريته أو مجموعة القوى الخاضعة لالتزامه ونقل هذه الضرائب إلى الخزانة المركزية أو الإقليمية".
ومع ذلك فقد أخذت حقوق الانتفاع التي حصل عليها الملتزمون بالتدريج تنتقل في اغلب الأحيان لصالح عائلاتهم بحيث أن ملكية الدولة أصبحت أشبه بقطعه من اللحم المفتت، تحول دون إقامة الدولة الحديثة المركزية التي يحلم بها محمد على، ومن ثم فقد عمد محمد على إلى القضاء على التناثر، وتشتت إيرادات الأراضي وألفوضى والواقع أن الأراضي الزراعية في مصر عام 1805 والتي كانت تبلغ مساحتها مليوني فدان كانت مقسمة إلى ست فئات :-
1) أراضى الأبعديات أو الشفالك، وتضم مائتي ألف فدان كان محمد على قد وزعها على أفراد أسرته ورجال الدولة وقواد الجيش وهي أراضى معفاة من الضرائب.
2) ثم أراضى الالتزام التي حولها - بعد مذبحة المماليك في القلعة 1811 - وتصفيتهم في مصر العليا 1812 إلى أراضى أوسية، وتشمل مائة ألف فدان منحها محمد على كتعويض للمماليك حتى لا تحرم عائلاتهم من كل مصدر للعيش.
3) ثم أراضى المشايخ أو مسموح المشايخ والمصاطب وهي تمثل 4% من الأراضي الزراعية في كل قرية بمجموع 154 ألف فدان، سلمت للعلماء الذين كانوا في نفس الوقت يقومون بعمل الملتزمين.
4) ثم أراضى الرزقة وهي ستة آلاف فدان معفاة من الضرائب، منحت هدايا أو عطايا للخبراء الأجانب العاملين في مصر.
5) ثم أراضى الأثر التي بقيت خالية وأعطيت للفلاحين.
6) وأخيرا أراضى العربان التي أراد محمد على أن يستقر فيها البدو.
لقد أدى انفراد محمد على بالحكم إلى انتهاجه سياسة مختلفة لتشغيل آليات جديدة دفعت الاقتصاد قدما إلى الأمام وربطته باقتصاد السوق، وفي خلال ستة أعوام "1808 - 1814" قام محمد على بسلسلة من الإجراءات انتهت إلى تغيير أوضاع حيازة الأرض الزراعية حيث ألغى نظام الالتزام العثماني وتم ضبط أراضى الأوقاف باسم الدولة وأعاد توزيع حيازة الانتفاع على ألفلاحين حيث خصص لكل أسرة ما بين ثلاثة إلى خمسة أفدنة حيازة حسب قدرة كل منها وفقا لعدد أفرادها ولا تنزع الأرض من المنتفع إلا إذا عجزت عن دفع ما لديها من أموال، وقد أصبحت هذه الأراضي فيما بعد أساس الملكية الصغيرة وإلى جانبها استحدث محمد على حيازة الأبعديات والجفالك التي أصبحت أساس الملكية الكبيرة واستحدث ما عرف بمسموح المشايخ والمصاطب 5% تقريبا من زمام القرية للوجهاء والذي أصبح أساس الملكية المتوسطة فيما بعد، وبهذه السياسة أوجد محمد على شرائح اجتماعية ارتبطت بنظامه في الحياة والانتفاع.
لقد اجمع الخبراء على الثناء على سياسة محمد على في الأخذ بأساليب الزراعة الحديثة، فقد استحدث أساليب جديدة في الزراعة من شانها زيادة الإنتاج حيث استقدم مدربين وخاصة من بلاد اليونان، وانشأ مدرسة للزراعة وعمل على استغلال مياه نهر النيل الاستغلال الأمثل عن طريق شق القنوات والترع وإقامة القناطر للاستفادة بالمياه طوال العام، فقد أمر عن طريق السخرة بحفر ثلاث وثلاثين ترعة وبخاصة ترعة المحمودية الشهيرة وأقام خمسة عشر جسرا وثلاثة وعشرين سدا فوق النيل.
وكذلك فقد نوع محمد على المحصولان الزراعية وادخل نباتات جديدة لم تعرفها التربة المصرية من قبل سواء لاهميتها للسوق العالمية أو لأهميتها للإنتاج المحلى بدلا عن الاستيراد، ومن ذلك نبات ألفوه الأحمر الذي يستخدم في الصباغة ونبات النيلة الهندية الزرقاء والكندر "نوع من التيل" والقرطم الذي يستخرج منه العصفر والسلجم والسمسم والحناء وقصب السكر والزئبقي والبن وأشجار التوت لتربية دودة القز.... الخ
ومن جانب آخر فقد كثف زراعة القطن منذ عام 1821 حتى بدا تصديره من عام 1827 والذي حقق للدولة - صاحبة الاحتكار في مجال التجارة الخارجية - دخولا هائلة ففي عام 1845 بلغ المحصول 424.995 من القنطار وهو ناتج 212.472 من ألفدان بزيادة وقدرها 400% خلال عشرين عاما، وكان يدخل مصانع الغزل المصرية من هذا المحصول 80.000 قنطار كحد أقصى ويبقى حوالي 344.995 قنطار للتصدير.
وقد الزم محمد على ألفلاح بزراعة ما يقرره من الحاصلات النقدية على وجه الخصوص وتحقيقا لتنظيم الزراعة والاطمئنان إلى ما تدره كانت الحكومة تزود ألفلاح الحائز بلوازم الزراعة من بذور وأدوات يخصم قيمتها من حجم المحصول عند تسليمه وتوريد الباقي لشونة الحكومة بالسعر الذي تحدده الحكومة لتطرحه في السوق المحلى والخارجي بسعر منافس لتحقيق فائض لخزينة الدولة.
لقد وفرت سياسة محمد على الزراعية راس المال اللازم لتحويل الاقتصاد الزراعي المصري من اقتصاد غذائي إلى اقتصاد يقوم على محصول نقدي وذلك دون التضحية بإنتاج الحبوب التي كان يقوم عليها الاقتصاد الزراعي المصري منذ البداية.
ومع ذلك فأن المراقبين الأذكياء في ذلك العصر لم يخطئوا التقدير فقد أدركوا أن الأمر لم يكن مجرد العمل على الأخذ بالأساليب العصرية وتنظيم الدولة، إنما يتعداه إلى تأكيد استقلال مصر في مواجهة الدول الأخرى "كما يرى بحق، جون بورنج ممثل انجلترا في مصر.
لقد استطاع محمد على خلال عشرون عاما أن يحدث انقلابا في الاقتصاد المصري ويحدث تغييرا جذريا في النظام الاقتصادي السائد .. فهل من الممكن تصور مثل هذا الاتجاه داخل الإطار الاقتصادي الزراعي وحده؟ أن محمد على كرجل حرب ورجل سلطة كان يدرك احتياجات الجيش والدولة، فاتجه بعزم وإصرار نحو الصناعة أخذا بنصيحة الأجانب الذين كان يستميلهم إلى بلاطه أمثال : كلوت وجوميل وبوكتى والكولونيل سيف.
وقد بعث محمد على المرحلة الأولى لنمو الصناعة في مصر عن طريق إقامة صناعات حديثة ومتنوعة تحت سيطرة الدولة وقام بتطوير هذا القطاع تطويرا جذريا تمثل في تغيير شكل الوحدة الإنتاجية وتطور أسلوب الإدارة والرقابة الصناعية، وانتهج محمد على في ذلك طريق التنمية المستقلة القائمة على التمويل الذاتي والاعتماد على الموارد الداخلية للدولة، ولم يعتمد على الخارج مبتعدا في ذلك عن الحصول على قروض أو معونات أجنبية ولأنه كان يراها وسيلة للنيل من استقلال مصر وسيادتها .. وفي سبيل ذلك فقد اعتمد محمد على في تمويل الصناعة على عدة مصادر ترتكز على أرباحه من الاحتكارات والتجارة وخاصة تجارة القطن وكذلك أرباحه من المشروعات الصناعية القائمة فعلا وأيضا الضرائب وبخاصة ضريبة الأرض.
ففي المرحلة الأولى للتصنيع والواقعة بين عامي 1816 و 1818 حافظ الإنتاج الصناعي على طابعه الحرفي، فقد استمر نفس الحرفيين بمهنهم البدائية في عملهم، لكن محمد على كان يزودهم بالمواد الأولية التي يعيدونها إليه بعد تصنيعها مقابل أجور تدفع لهم، وفي هذه المرحلة جنى محمد على نتائج الاحتكار الذي بدأه عام 1816 .. مما مهد للمرحلة الثانية والتي بدأت من عام "1818 - 1830" وهي مرحلة الصناعة الكبرى وبخاصة صناعة النسيج ومصانع التسليح والأخذ بالأسلوب الجديد في الصناعة الذي يقوم على احتكار المواد الأولية وإنشاء المصانع التي تستخدم البخار كمصدر للطاقة، وتكونت الوحدات الصناعية الكبيرة التي تتولاها الدولة.
وفي مجال التجارة تولت الدولة تجارة الصادرات بعد أن كان الأجانب يقومون بها طبقا لنظام الإمتيازات، كما تولت تجارة الواردات أيضا، ولو أن محمد على لم يكن يسمح بالاستيراد إلا للمستلزمات الضرورية للإنتاج ويتصل بتسهيل الإنتاج الزراعي والصناعي والتجارة وتوفير وسائل النقل والمواصلات ومن هنا عمل محمد على على تمهيد الطرق البرية وتنظيم البريد والتلغراف وبناء أسطول تجارى، وإصلاح الموانئ وتطهير البحر الأحمر من القرصنة لاستخدامه لمرور التجارة بدلا من الدوران حول افريقية عن طريق راس الرجاء الصالح.
لقد كانت ابرز ملامح التغير في الاقتصاد المصري على يد محمد على هو تحول الاقتصاد المصري من اقتصاد اكتفاء إلى اقتصاد تبادل يتجه إلى السوق العالمية بعد أن كان يستهدف السوق المحلية أساسا، وكذلك بدء عصر الزراعة الكثيفة بدلا من الزراعة الواسعة نتيجة لإدخال الري الدائم وارتفاع الرقعة الزراعية من مليوني فدان سنة 1805 إلى 3.856.000 فدان سنة 1840 حيث كانت معظم هذه المساحات تخضع لنظام الري الدائم كما تركز اغلبها حول الدلتا .. وإدخال محاصيل جديدة نقدية بحيث تم تنوع المركب المحصول تنوعا كبيرا، كما تم زيادة الإنتاج الزراعي دون أن يكون ذلك على حساب محاصيل الحبوب والغذاء التي كانت أساس الزراعة المصرية منذ القدم وعلى راس هذه المحاصيل كان القطن، أيضا فقد راس محمد على قاعدة صناعية كبرى لأول مرة في تاريخ مصر الحديث فهو أول من ادخل نظام المصنع بمفهومه الحديث في مصر بعد أن كان يتم الإنتاج في المنازل أو في ورش صغيرة واستخدم الآلات الحديثة المتطورة في المصانع واهتم بتدريب العمال المصريين عليها ولم يكتف باستيراد ألفن الإنتاجي الأوروبي فقط، إنما قام بتطويعه لخدمة الصناعة المصرية .. وكذلك احتكار محمد على للتجارة خاصة الصادرات والواردات.
لذلك فانه من منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر وبعد قرابة عشرين عاما من تطبيق هذه السياسة بدأت الدول الأوروبية تدرك أن ثمة شيئا يحدث في مصر لا يتفق مع الإمتيازات التي تتمتع بها تلك الدول في اتحاد الولايات العثمانية، ذلك أن تناصل الدول الأوروبية وهم تجار بطبيعة الحال ويقومون بدور الوكيل التجاري في مصر لاحظوا أن محمد على ألغى دورهم فلا احد يشترى عن طريقهم شيئا ولا احد يبيع لهم شيئا ومن ثم شكاياتهم لدولهم من أن محمد على لا يطبق نظام الإمتيازات، وكانت انجلترا اسبق الدول الأوروبية تضررا من سياسة محمد على الاقتصادية فهي دولة صناعية ويمثل الإنتاج الصناعي مصدرا أساسيا للدخل العام ومن ثم فأنها بحاجة شديدة إلى تصريف الإنتاج في السوق الخارجية تحقيقا لزيادة الموارد من ناحية ولتدوير راس المال من ناحية أخرى وكانت السوق المصرية احد مجالات إنعاش الإنتاج الإنجليزي بهذا المعنى إلا أن سياسة محمد على كان من شانها أن تؤدى إلى إصابة شرايين الاقتصاد البريطاني بجلطة دموية تؤثر تدريجيا على نشاط الدورة الحيوية لراس المال.
ولذلك فقد لجأت الحكومة البريطانية إلى وسيلة أخرى لتشجيع محمد على هذا "المحتكر" على فتح السوق المصرية أمام المنتجات الإنجليزية، ومن ثم أبرمت معاهدة تجارية جديدة مع السلطان العثماني عرفت باسم "بلطة ليمان" نسبة إلى مكان عقدها، تقضى بأن تفتح أسواق الولايات العثمانية للبضائع الإنجليزية مقابل تحصيل 9% جمارك و3% في حالة التصدير من الولايات، لعل ذلك يشجع محمد على، غير أن محمد على رفض تنفيذ الاتفاقية لأن تنفيذها يعنى تقويض دعائم سياساته الاقتصادية وكان عودها قد بدا يشتد ويترسخ، فما كان من السلطان إلا أن أعطاه مهلة عام للتنفيذ إلا أن محمد على تمسك بموقفه وأبى أن ينصاع إلى التهديد، وفي أغسطس 1839 انتهي عام المهلة دون أن يتراجع محمد على عن موقفه، ثم كان ما كان من تحألف القوى الأوروبية بزعامة انجلترا مع السلطان العثماني للإيقاع بمحمد على ولكل طرف أسبابه لكن الهدف واحد، السلطان العثماني كان يخشى تهديد محمد على بالزحف على استانبول، وانجلترا التي تريد فتح السوق المصرية وأخيرا تم المراد بمقتضى اتفاقية لندن في يوليه 1840.
والدليل على أن سياسة محمد على الاقتصادية كانت السبب في الإيقاع به اتفاقية لندن نصت فيما نصت عليه على أن محمد على ملزم بتنفيذ الاتفاقيات التي يعقدها السلطان العثماني مع أي دولة وهي إشارة إلى اتفاقية "بلطة ليمان" وحاول محمد على أن يراوغ لعدم تنفيذ المعاهدة بتشجيع من فرنسا إلا انه لم يكن هناك مفر في النهاية من الإذعان ثم تجديد سياساته الاقتصادية وبداية الرجـوع عنها في عهد أولاده.
كان محمد على باشا - إذن - صاحب مشروع سياسي نهضوي يهدف في المقام الأول إلى بناء قاعدة عسكرية وسياسية حديثة ذات شأن تقي المشرق العربي عدوان الغرب لا عن طريق المواجهة وإنما عن طريق التزود بأسباب المنعة والقوة التي تحقق نوعا من توازن القوى مع الغرب وتجعل الأخير يتعامل مع الدولة العثمانية معاملة الند للند، لذلك فقد سعى إلى أن يقيم في مصر "دولة نموذجية" حديثة توفر له فرصة إقامة دولة إسلامية قوية من خلال تطبيق نموذج مصر على الدولة العثمانية ذاتها، فقد صرح يوما لبعض خلصائه برغبته في الوصول إلى الآستانة، وخلع السلطان وتولية ابنه الصبي وتنصيب نفسه وصيا عليه لتتاح له فرصة إصلاح الدولة كلها، وهكذا كانت مصر - عند محمد على - قاعدة انطلاق لمشروع سياسي إقليمي يعتمد على بناء قوة عسكرية كبيرة حديثة، وبناء مثل هذه القوة يحتاج إلى موارد مالية ضخمة تقصر دونها خزانة وإلى مصر التي كانت تعتمد على الخراج والمكوس، ولا يستطيع محمد على أن ينشد تلك الموارد من مصادر خارجية كالآستانة مثلا، فقد جعله الحرص على استقلال قراره السياسي ينفر من فكره الاستدانة ويرفضها عندما عرضت عليه في العقد الأخير من حكمه، فلا مفر أمامه من أن يدبر الموارد اللازمة لمشروعه السياسي من مصر ذاتها وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا استطاعت "الدولة" أن تضع يدها على موارد البلاد كلها، تديرها وتنميها بالقدر الذي يوفر الأموال اللازمة لبناء القوة العسكرية الحديثة، بما تتطلبه تلك القوة من مؤسسات إنتاجية وخدمية، ومن ثم كانت السياسات الاقتصادية التي نفذها محمد على - تدريجيا - وانتهت بوضع الاقتصاد تحت إدارة السلطة المركزية وتعبئة الموارد لخدمة المشروع السياسي الإقليمي وإدخال تغييرات هيكلية على النظام الإداري وما ارتبط بذلك من تطور في نظام التعليم وما نتج عنه من صحوة ثقافية.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مشاركة وزير المالية والاقتصاد الوطني في مؤتمر الزكاة والضريب
.. تعاون تونسي جزائري لإنتاج الزعفران في تونس • فرانس 24
.. حكاية للتاريخ.. النصر للسيارات تعود للإنتاج#معلومة_ع_السريع
.. مقاتلات رافال والطاقة في منتدى الأعمال الفرنسي السعودي.. ما
.. أسعار الذهب .. والموعد الأنسب لشراء المعدن الصفر