الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درز خازندار الرهيف

صبحي حديدي

2007 / 6 / 12
الادب والفن


في مقالة سابقة تناولت الغياب، المدهش تماماً، لأسماء مثل سليم بركات وزهير أبو شايب وبسام حجار وحسن النجمي عن لائحة الشعراء الذين سرد الدكتور جابر عصفور أسماءهم لكي يثمّن حضورهم في المشهد الشعري العربي المعاصر، إلى جانب الشعراء الثلاثة (أدونيس، سعدي يوسف، محمود درويش) الذين عدّهم في صفّ الكبار، وحدهم. وإذا كان قد أتى على ذكر الشاعر الفلسطيني وليد خازندار، فإنّ طرازاً خاصاً من الغياب يظلّ مقترناً بحضور خازندار في المشهد، لعلّه غياب أقرب إلى التغيّب منه إلى التغييب. وأمّا علّة هذا الطراز الخاصّ، وربما فضيلته الكبرى، هي تفضيل الإقلال من النشر، إلى درجة التقتير البالغ في الواقع، سعياً إلى المزيد من الاشتغال والتأمّل والإكمال والكمال...
وقبل سنوات توقفت عند ذلك العناد، المقترن بالكثير من الدأب الصامت البطيء والحيوي في آن، الذي يدفع خازندار إلى الحفاظ على أسلوبية متوازنة خاصة بدأها على نحو تجريبي في مجموعته الأولى «أفعال مضارعة»، 1986؛ ثم تابع تطويرها في مجموعته الثانية «غرف طائشة»، 1992؛ والمجموعة الثالثة "سطوة المساء"، 1996؛ ليس دون قفزات ملموسة في الشكل والخيارات الإيقاعية. وإذْ أبهجني أن يفرج خازندار عن نصوص شعرية جديدة (نشرتها "أخبار الأدب" المصرية، أواخر شباط/ فبراير الماضي)، فقد كانت بهجتي الشخصية مضاعفة لأنّ قصيدة "أبناء الليل" كانت تشير بقوّة إلى انّ ذلك العناد ما يزال شديداً محتدماً!
أولى خصائص هذه الأسلوبية أنّ خازندار يقيم في النصّ الشعري ما تقيمه موضوعة «الطبيعة الصامتة» Still Life في الفنون التشكيلية من شبكة علاقات، شعورية وبصرية ودلالية، بين الأشياء والحواسّ. ولعلّه بين أكثر شعرائنا العرب المعاصرين تذكيراً بمدرسة الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج (1899ـ1988) في هذا الميدان بالذات. وكما يحدث في اللوحة التي تقدّم طبيعة صامتة، تتناول قصيدة خازندار ما هو متواضع وعاديّ ومجسّد ومألوف من أشياء العالم اليومي، وتمزج التوقّف عند سطوح تلك الأشياء بالغوص عميقاً في نُسُجها، وتنتقل من التسطير الخارجي المرئي (الواقعي) للمادّة، إلى التناغمات الكثيفة المتغايرة (الإيهامية) في ما تستثيره من أخيلة وصُوَر. وبين عناصر وتفاصيل هذه الطبيعة الصامتة، هنالك الرواق، والممرّ، والشرفة، والشراشف، والملاءات، والأريكة، واللوحة المعلّقة على الجدار، والمزهرية، والقميص، والخيطان والإبر، والأزرار، وركوة القهوة، وصحن السجائر، والمراكب، والعوسج... وثمة، مثلاً،«درزة القميص» و«النباتات العديمة» وسواهما من سياقات استعارية لا يجد خازندار أيّ حرج في المجموعات الثلاث.
ثانية الخصائص تتصل بالعدد المحدود، والمتماثل أحياناً، لموضوعات القصيدة: مرور الزمن، وطأة الذاكرة، المراقبة البصرية لعناصر المحيط، السرد الانتقائي الكثيف لهذه أو تلك من حركة الأشياء في المحيط وتحويل بعض هذه الحركة إلى حكاية، الإلتقاط الملحمي لحضور الكائن البشري في ذلك كله، والإلتقاط الغنائي للموضوع كلما ارتدّ الكائن إلى النفس. ويحدث مراراً أن تتكرر عناوين قصائد خازندار، لا من حيث صيغتها الحرفية بل من حيث صيغتها التركيبية المنتزَعة في تسعة أعشار الحالات من جملة تَرِد في القصيدة بالضرورة، لا كما يحدث عادة حين يلعب العنوان دوراً استهلالياً دلالياً وشعورياً مستقلاً.
ولكنّ هذا التماثل يغتني على الدوام بما يستخرجه خازندار من موضوعات فرعية وتفصيلية ثانوية، تزدوج في مستويين: الأولّ هو إقامة وشائج مباشرة بين تماثل الموضوعات، والنفاذ إلى عمق الطبيعة الصامتة (ذلك لأن أشياء خازندار تخضع إلى ما يشبه التدقيق الإدراكي لخواصّها وتكويناتها، قبل أن تتوالى عمليات كشف ما تحتويه من ثقالة حسّية أو ميتافيزيقية، وصولاً إلى مرحلة رسمها لفظياً، حيث يمارس الشاعر الماهر الكثير من ألعاب التركيب النحوي والاشتقاق والنحت والتغريب الدلالي وإحياء الألفاظ العتيقة)؛ والمستوى الثاني هو إخضاع هذه المشهدية الحافلة إلى هندسة خاصة تنظّم علاقات التبادل بين الضمائر الصريحة من جهة، و«الصوت الثالث» الضمني الذي تصنعه النبرة الإجمالية للقصيدة، بعيداً عن علاقات الضمائر من جهة ثانية.
ثالثة خصائص هذه الأسلوبية أنّ خازندار يكتب قصيدة النثر دون أن يمارس القمع على «الإنفلات» التفعيلي، الذي يبدو في هذه الحالة انسياباً عضوياً متجانساً وليس شطحة موسيقية تتمّ في غفلة عن التخطيط الإيقاعي الأعلى للقصيدة. وجليّ أنّ هذا الخيار يخلق في القراءة عسراً خاصّاً ناجماً أساساً عن ذلك الإرتباك الطبيعي الذي يستشعره قارىء اعتاد منح التخطيطات الإيقاعية التفعيلية جملة استجابات عصبية تختلف عمّا يمنحه عادة للتخطيطات الإيقاعية في قصيدة النثر. والأمر أشبه بانتقال الأذن بغتة من سماع عزف على العود إلى عزف آخر على الناي، كما في المثال التالي من قصيدة «شواطىء مستهامة»: هل تأسّيتَ/ تارةً إذْ تنوّرتَ، من ثمالةٍ، دفّةٍ/ ومن قبل تاراتٍ/ وقد أرعشتْ/ من وجدةٍ، منكَ اليدُ؟/ كم تلبّثتَ واصلاً عمراً بعمرٍ:/ الفجر خيطٌ ذاهلٌ/ العشيّة إبرةٌ، وكلما مَزْقٌ تعود فتبدأُ".
وشعر خازندار لا ينتمي، في يقيني، إلى تلك المشاريع الشعرية التي تتطوّر وفق «قفزات» مباغتة تأتي على الأخضر واليابس في الأسلوب والموضوعات، وتقطع مع الماضي الفنّي (الشخصي والعامّ) دون كبير اكتراث بالإبقاء على ما لا يتوجّب قطعه. ذلك يجعل دأبه العنيد في التعميق والتصفية والتشذيب بمثابة تطوير أسلوبي مستديم، غير عجول أو متعجّل، رهيف على الدوام... مثل درز رهيف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: تكريمي من الرئيس السيسي عن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: نفسي ألعب دور فتاة




.. كل يوم - دوري في جمال الحريم تعب أعصابي .. والمخرجة قعدتلي ع


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بنتي اتعرض عليها ب




.. كل يوم-دينا فؤاد لخالد أبو بكر: أنا ست مصرية عندي بنت-ومش تح