الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة ليست فارغة

سعاد الرفاعي

2007 / 6 / 18
الادب والفن


صباح بارد بلا شمس ولا ابتسامات أليفة , وجوه غريبة تمر أمامي ,نساء يحملن كلابهن المدللة, ورجال يمارسون هواية الجري على امتداد نهر ايزار. امشي بخطوات بطيئة , احدق في فراغ غائم, عيناي ذابلتان تلفهما زرقة الأرق . الذكريات بعيدة ووادعة قبل أن تشحذ سكينها الدامية: قلب أمي الذي لا اعرف كم إختلج قبل أن يستكين الى الأبدية .
غرفتي حدود وطن من أربعة جدران طينيّة وسماء خشب,ووطن بسماء واسعة زرقاء باكية ,فرات سلسبيل لا يعرف على أي جهة ينام ليستريح من الألم ! , أصدقاء يترقبون قدومي بقلوب دافئة وكؤوس تصدح :"حنا يابويا رفاكا لازمن تلمنا الشفاكا لو فركتنا الليالي لزمن ياخويا إ نتلاكا " . لم يكن ايزار يبالي او يفهم على الاقل,هذه الغريبة التي تتعكّز على قلبها الذي لم يستطع ان يمحو القليل القليل ممّا يبقيه نحيلا وضعيفا امام اية هبة شوق مفتقد لإم ضاقت الجدران على صدرها الذي إتسع يوما لكل عالمي, وتبخرت تلك السماوات التي انجبت ملايين النجوم الصيفية التي ارضعتني حليب سَمرِها الذي لايُنتسى . آه من قلبي الذي تكون من بعض رماد تنورها ,ومن حريق وطن ولوعة أصدقاء وطفولة. بيت تتناهشه الجرافات ,اركانه ترتجف خوفا مثل قلبي إمي في لحدها. الجرافات اللعينة تأكل غرفة طفولتي وصباي . بيت بيت حنون بمكاتب فارغة مثل ليوان امي وتنورها , واحلام طفلة وشغب شباب وكؤؤس شاي مهيل , وطناجر عدس واقراص كشك تعدها امي مؤونة الشتاء القادم. إذن هي الذاكرة تعج بكل هذا الجمال والرعب معا : صورة امي الفرحة للمرة الاولى من سنين طويلة , صيف ال 99 حيث حملت مواكب المستقبلين احمد المنفي لاكثر من عشرين عاما الى بيتنا الاليف الذي غص بالزوار والمهنّئين , واولاد العمومة والجيرة والاصدقاء , ورائحة قدور اللحم والبخور ودبكة المحبين تتوسطهم امي التي خلعت غطاء راسها دون ان تبالي , وبدات تلوح به وترقص بفرح عارم متناسية انها الحاجة الوقورة التي لم تخلع غطاء راسها طوال حياتها , إلاّ امام ابي الذي توفي حيث بدات تنضج . بعد عناء وسير طويل وموجة ذكريات كاسرة, جلست الى مقعد يطل على نهر ألفْتهُ وألفني ,علّني استعيد بعض هدوئي , دخّنتُ العديد من السيجارات انا التي لا تدخن إلاّ في حالات إستثنائية , لملمت نفسي وعدت لأهاتف اخي الذي يشرف على عملية هدم ذكريات برمتها ,رجوته أن يحافظ على شيء من الدارحتى لو كان في شريط فيديو او ديسك , قبل ان يعلن وفاته مثل الكثير من الاشياء العزيزة التي ماتت وانا هناااااااااااااااااااااك. البيت الذي عشقته ليلى أختي التي رحلت في الثلاثين , وكانت وصيتها وهي التي سوف تموت غريبة بعيدا عنه, أن نقبّل لها ارض البيت . كثرت مشاويري برفقة ذاكرة مثقلة بشغب الطفولة وبرائحة خبز التنور وبسريري وخزانة ذكرياتي ودفاتري التي كثيرا ماإحتفظتْ بأشيائي ورسائل عشق وهمية خجلة , رسمتُ بعضها قمرا فتيا ,وبعضها أحصنة بيضاء. قلب الطفلة الذي ابقيته هناك , مع نجوم لي معها صحبة بهية في مساءات الصيف التي لا تعد, والتي كانت تزينها أمل اختي القريبة من الروح, بفناجين القهوة وسيجارات ندخنها خلسة , يتبعها شاي امي المخدر بالهيل ,والكعك الشهي المرافق والمعجون بعرق يديها . خلافات حميمة واصوات جيْرة أليفة وكرسي ابي الذي كنت اتوجّس من الجلوس عليه عندما يكون في البيت, وحبل الغسيل الذي ألِفَ سواعد امي وهي تتفنن بنشر بياضها متباهية بنصاعته, ومكتبة احمد التي كانت تغريني بالتسلل اليها بعد نوم امي, مختلسة رواية او كتاب حب اقضي بصحبته وقتا جميلا, وكنتُ حذرة من أن تباغتني امي التي تخاف ان اقرا كتب احمد خشية من أن تصيبني بعدوى أفكاره التي اصابتني لاحقا . ذاكرة تعربد ولا يسقط منها شيء حتى لعْب المستراح . ذاكرة حافلة بجمعتنا على السطوح حيث تصدح ام كلثوم ببهائها الذي يقلق العجائز اللواتي كنَّ يحاولنَ حشو َ أدمغتنا الصغيرة بقصص خرافيّة, و التي تخيلناها حقيقة آنذاك , الى درجة كنت ارتجف خوفا عندما ياتي ابي بالبطيخ الاحمر الذي قالت عنه أمّ محمد العجوز جارتنا الطيبة التي تمتلك قدرة على إقناعنا بخرافا تها , ان جنّية تختبئ في قلب كل بطيخة حمراء ,وعند اهمّ بأكل الجبس الذي احبه مع خبز امي المقمّر, لا بدّ ان أُبسمل مع كل لقمة ابتلعها . لو كانت الذاكرة رحيمة قليلا, لما إشتعل القلب هكذا على طفولتي المنهوبه وانا اُشاهد الشريط الذي ارسله اخي تلبية لرجائي ,الشريط الذي اعاد ترميم أماكن ذكرياتي التي لم تستطع ان تتحول الى اطلال :اشاهد كرسيّ أبي الذي كان ينزعج عندما احصل على علامات في المدرسة افضل من علامات اخي المدلل, والدي الذي مات باكرا وهو يرتقب عودة ابنه البكر الذي إلتحق بالعمل الفدائي , أحمد اخي الذي رفض رؤية ابيه عندما سافر الى الاردن لإقناعه بالعودة, ليعود بعدها الأب مكسورا مكبلا بخيبة كاسرة انهته قبل ان يكمل الخمسين . ورحتُ ابحث في الشريط عن تنور امي , وعن صرتها التي تحوي الكثيرمن ذكريات عرسها . أبحث عن "مزملة " الفخار وسيلتنا الوحيدة آنذاك لتبريد المياه الذي يجعلها صيفنا القاسي صالحة للغسيل اكثر منها لإطفاء العطش , عن مكانس تصنعها امي , وليف لتنظيف اجسادنا , واقراص كشك وبخور ونحاس ورثته عن جدتي الطاغيه , وغرفتي آه غرفتي التي كانت تشكّل نصف عالمي , لكم بحثت عنها في الشريط ولاأثر, غرفتي التي رسم فيها اخي الصغير وصديقي أقمارا وعاشقات ينتظرن المجهول . غرفتي التي وعدتني أن تحتفظ بأعز اشيائي : سريري ورائحة امي وعبق اخي ودفاتري وشغبي ودموعي, غرفة تضم بين احجار جدرانها التي تهدمت ضربات قلبي عندما لامس اول عشق , والذي أرتجف خوفا وغبطة للمرة الاولى ,غرفة فيها بعض من نسيم روحي ,غرفة كانت لامي في ليلة عرسها,أورثتني إيّاها بعد أن تقاعدت باكرا عن الحب حين توفي ابي وهي في الثلاثين من عمرها .غرفة بحثت عنها كمن ضاع في عاصفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنانة الراحلة ذكرى تعود من جديد بتقنية -اله


.. مواجهة وتلاسن بكلمات نابية بين الممثل روبرتو دي نيرو وأنصار




.. المختصة في علم النفس جيهان مرابط: العنف في الأفلام والدراما


.. منزل فيلم home alone الشهير معروض للبيع بـ 5.25 مليون دولار




.. إقبال كبير على تعلم اللغة العربية في الجامعات الصينية | #مرا