الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروس الغزو الصيني للاقتصاد المصري

إكرام يوسف

2007 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية



أوضح تقرير نشر مؤخرا عن مؤشرات زواج المصريات من عرب وأجانب أن ‏1202‏ فتاة مصرية تزوجن في العام الماضي (2006) من غير المصريين وفق الأرقام التي نشرتها صحيفة "‏ لانتجلنت‏" الفرنسية‏.‏ وكان الطريف في التقرير أن ‏ 49‏ عريسا صينيا فازوا بزوجات مصريات خلال نفس العام. ومع أصدق أمنياتنا القلبية بالسعادة والهناء للعرائس والعرسان؛ لم استطع أن أمنع نفسي من تأمل حال الغزو الصيني لمجمل مجالات الحياة في العالم كله. وفي مصر على وجه الخصوص.. مصر التي طالها الغزو بداية من واردات فول التدميس وفوانيس رمضان والسبح الصينية، حتى العرسان مؤخرا. مرورا ـ بالطبع ـ بالعديد من السلع التي يصعب حصرها، ولعل أكثرها مدعاة للاستغراب ـ وربما الحرج ـ السلع الصينية المقلدة للآثار المصرية وحتى التماثيل والتذكارات الفرعونية ـ وكنت كتبت عن هذا الموضوع بمناسبة صدمتي عندما حاولت أن أحمل معي عند سفري للخارج بعضا من تذكارات مصرية، فوجدت معظم ما في السوق منها مستوردا من بلاد الشرق.
وبدأ الأمر على استحياء بفتيات صينيات صغيرات السن يطرقن أبواب الشقق حاملات حقائب متوسطة الحجم، يعرضن للبيع ما بها من سلع تتراوح بين تحف مقلدة وملابس جاهزة وأدوات منزلية؛ وسرعان ما وصل الحال بالسلع لصينية إلى تهديد الصناعات المصرية ذات الشهرة العالمية تاريخيا في عقر دارها. فأصبحت تهدد ـ على سبيل المثال ـ صناعات التحف والأثاث التي اشتهرت بها مصر منذ عهد الفراعنة، والتي سجلت كتب التاريخ أن العثمانيين حرصوا أثناء احتلالهم لمصر على إرسال أبنائها من العمال والصناع المهرة في جميع التخصصات، وفي الصدارة منها صناعة الموبيليا إلى الآستانة للاستفادة مهم في تعزيز وتطوير الحضارة العثمانية. وإذا بنا نسمع أن مدينة ، مثل دمياط، التي جابت شهرة منتجاتها الأفاق، وتتولى وحدها تصنيع ثلثي حجم الموبيليا المصنعة في مصر؛ تتعرض لخطر الإغراق من الموبيليا الصينية رخيصة السعر وجيدة الصنعة. بعدما كان صناع الموبيليا في دمياط يشكون فبل سنوات فقط من أن مصانع أثاث كبرى في إيطاليا وفرنسا تستورد الأثاث الدمياطي من دون تشطيب وتقوم بتشطيبه وتعيد تصديره إلى أكبر معارض الأثاث في القاهرة على أنه مستورد، ويحكي أحدهم أنه شاهد صالونا من إنتاجه معروضا بأحد معارض القاهرة على أنه صالون مستورد ولما كشف الغطاء من أحد الكراسي ظهر توقيع اسمه على الخشب من الداخل. وتردد أوساط المتعاملين مع هذه الصناعة قصصا في هذا السياق تؤكد الشهرة والاحترام اللذين كانت صناعة الأثاث الدمياطية تحظى بهما ـ خصوصا في المنتجات المعتمدة على الفن والإبداع اليدوي أكثر من التصنيع الآلي ـ وباتت تتخوف من فقدهما مع غزو الموبيليا الصينية.

ويحدث ذلك في الوقت الذي يعاني فيه صناع الموبيليا في دمياط من ارتفاع سعر الخشب الذي تتحدد على أساسه أسعار الموبيليا، نتيجة تلاعب المستوردين في الأسعار خاصة مع دخول رومانيا ـ وهي من أهم مصدري الأخشاب لورش دمياط ـ إلى السوق الأوروبية المشتركة فأصبحت عمليات الاستيراد تتم باليورو بعد أن كانت بالدولار. ويبدو حجم المشكلة واضحا بالنسبة لأهل دمياط بالذات الذين يعمل أكثر من 350 ألف من أبنائها بهذه الصناعة فضلا عن عشرة آلاف آخرين من العمال الذين يترددون يوميا على مدن المحافظة للعمل في ورش الأثاث التي يزيد عددها عن 35 ألف ورشة صغيرة وبعض المصانع المتوسطة والمنتشرة في جميع مدن المحافظة ويمثل إنتاجها نحو 80 في المائة من صادرات الأثاث المصري، فضلا عن أكثر من 10 مصانع جديدة ومصانع أخرى لا تزال تحت الإنشاء.

نعمة الزيادة السكانية
ولا شك أن الخوف من إغراق السلع الصينية بات هاجسا يؤرق معظم دول العالم، بعدما نجحت الصين في استثمار ما تتمتع به من كثافة سكانية هائلة، لبناء قوة عمل بشرية مدربة ورخيصة الثمن، بدلا من اعتبارها "شماعة" تعلق عليها كل الخيبات الحكومية في العجز عن تحقيق التنمية ورفع معدلاتها. وكانت هذه الكثافة السكانية جيدة الاستغلال، أيقونة سعد الاقتصاد الصيني، الذي أكدت عدة تقارير اقتصادية (منها تقرير نشرته قبل شهور كريستيان ساينس مونيتور) إنه خلال عشرين عاما من الآن قد يصبح أكبر اقتصاد في العالم متجاوزا الاقتصاد الأمريكي . وقد أصبح معروفا أن البنك المركزي الصيني بات يضخ يوميا في الاقتصاد الأمريكي أكثر من مليار دولار في صورة مشترياته من أذون الخزانة الأمريكية التي تصدرها حكومة واشنطن لتمويل العجز المتزايد في الموازنة. وهو ما أسماه خبراء بالحبل السري الذي يربط الاقتصاد الأمريكي بالاقتصاد الصيني، حيث أصبح البنك المركزي الصيني الممول الأول لعجز الموازنة الأمريكية من خلال إقراض أمريكا أكثر من مليار دولار يوميا.
وجذبت هذه الميزة ـ ضمن ميزات أخرى بالطبع ـ أنظار مستثمري العالم، من الولايات المتحدة الأمريكية التي لجأت لنقل معظم مصانع الأثاث لديها إلي الصين، للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة والغابات الصينية الغنية بالأخشاب. مرورا بالعديد من أسواق البلدان المتقدمة التي تزخر بالسلع الصينية. إلى السودان، التي لفت نظري في رحلة إليها مؤخرا، أن الغالبية الساحقة من ركاب الطائرة، صينيون، وزالت دهشتي عندا علمت أن معظم العاملين في قطاع البترول السوداني من الصينيين، كما أنهم تقريبا نجحوا في احتكار العديد من الوظائف هناك.

ورغم أن العلاقة الاقتصادية والتجاري بين الصين ومصر تضرب في عمق التاريخ؛ منذ كانت مصر همزة وصل على طريق الحرير البحري المؤدي إلى أوروبا، وكانت تجارة الترانزيت مزدهرة إلى حد كبير في القرن الثاني الميلادي. وأيضا، رغم اشتراك لبلدين في ميزة الانتماء إلى حضارتين عريقتين؛ إلا أن الفارق الشاسع بين ما وصلت إليه الصين وما انحدرت إليه مصر، يدفع للتأمل. فعند قيام الثورة الاشتراكية عام 1949، كانت الصين تعاني من الفقر والانهيار الحضاري، لكن خطوات تقدمها تسارعت بعد الثورة بمعدلات قوية؛ بينما كانت مصر دولة ذات شأن تتمتع باقتصاد قوي وبحضور على الساحة الدولية سياسيا وثقافيا وعلميا تزايد في الخمسينيات والستينيات، وإن لم يكن بالطبع بنفس المعدلات الصينية. ولكن حجم التبادل التجاري وميزان التجارة بين البلدين كان يوضح درجة من درجات التقارب في منتصف القرن العشرين. فمنذ عام 1950 وحتى عام 1991، وباستثناء سنوات قليلة كانت قيمة التجارة الثنائية أقل من مائة مليون دولار أمريكي، ولم يكن الفرق في التجارة بين البلدين كبيرا، لكل منهما فائض أو عجز بصورة متبادلة. ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين ومصر كثيرا، ليبلغ 1.09 مليار دولار أمريكي عام 2003. ثم بلغ 1.577 مليار دولار أمريكي عام 2004، بزيادة 7ر44% عن نفس الفترة من العام السابق. وفي عام 2005، وصل2.145 مليار دولار أمريكي، بزيادة36.1% عن نفس الفترة من العام السابق، فيما بلغت قيمة الصادرات الصينية 934ر1 مليار دولار أمريكي وقيمة الواردات الصينية 211 مليون دولار أمريكي (ويلاحظ هنا اتساع الفجوة بين الرقمين حيث تبلغ صادرات الصين إلى مصر ما يقارب عشرة أضعاف وارداتها منها). ومن بين المنتجات الرئيسية التي تصدرها الصين لمصر: الأزياء، الغزل الرفيع، المنسوجات ومنتجاتها، الأحذية، الحقائب (وجميع هذه المنتجات جرى العرف طويلا على التميز المصري في إنتاجها من قبل) ثم الأجهزة والماكينات العادية وقطع غيارها، وماكينات المحركات وأجهزتها؛ منتجات الاتصالات والمعلومات الصوتية الخ. بينما تتركز معظم واردات الصين من مصر في مواد خام أو أولية التصنيع مثل: الرخام (الذي ويحتل الرخام نحو 50% من واردات الصين من مصر ) الفولاذ والحديد، وسبائك الألمنيوم، البترول ومشتقاته، المنتجات غير المعدنية؛ القطن الطويل التيلة، الكتان، الغزل، وبعض المنسوجات.



معجزة لكنها غير مستحيلة
ومع الاعتراف بأن ما حققته الصين من طفرة اقتصادية قوية معجزة بكل المقاييس، إلا أنه كان من المفترض ألا تكون معجزة عصية على التحقق بالنسبة لدولة في قامة مصر العريقة، التي يقف تاريخها ندا لتاريخ الصين الحضاري القديم، بينما بدأ البلدان مشوار نهضتهما الحديثة في وقت متزامن. وبينما يشترك البلدان في ضخامة عدد السكان، الأمر الذي اعتدنا هنا على أن نعتبره نقمة تعوق جميع محاولات التنمية، بينما اعتبروه ـ هناك ـ نعمة، أحسنوا استغلالها لزيادة إنتاج السلع الجيدة منخفضة السعر، التي مثلت ميزة تنافسية هائلة للمنتجات الصينية، كما نجحوا في استثمار هذه الزيادة السكانية لتصدير العمالة الماهرة إلى جميع أنحاء الالم، بينما تراجعت طموحاتنا لنبحث نحن عن تصدير الخادمات (سواء تحت اسم مربيات أو جليسات مرضى أو كوافيرات....إلخ) أو الزوجات في أفضل الأحوال.
ولا شك أيضا أن المعجزة الصينية، مثلها مثل بقية معجزات النمور الآسيوية، لم تكن لتتحقق لولا الدور القوي للدولة في توجيه الاقتصاد والحفاظ على موارد الدولة، الأمر الذي تخلينا عنه جريا وراء شعارات حول حرية السوق وتحرير الاقتصاد، لم تكن صالحة لظروفنا، ودفعنا ومازلنا ندفع، وسندفع للأسف ثمنا غاليا لها لسنوات طويلة؛ من تراجع لمستوى الصناعات المصرية التي تمتعت زمنا طويلا بشهرة واحترام دوليين؛ بعدما تخلت الدولة عن دورها في استثمار الكثافة السكانية العالية لتطوير هذه الصناعات وتركتها لمستثمرين، تحولوا عنها لصناعات سريعة الكسب؛ وتدهور لمستوى العمالة، بعدما استسهل ملاك المصانع الجدد استخدام الماكينات بدلا من الأيدي العاملة، أو خروج قطاعات كاملة من الصناعات الحيوية من أيدي الدولة ـ بفعل الخصخصة غير المحسوبة ـ لأيدي مستثمرين أجانب، مثل قطاع الأسمنت، الأمر الذي لا يتوقع معه ـ مثلا ـ أن يكون قلب الأجنبي أحن على المصريين من قلب حكومتهم فيحرص على حقوق العمال لديه، أو على تقديم إنتاج يراعي احتياجات المصريين، ومصالحهم؛ ومنها ـ إذا تحدثنا عن الأسمنت ـ توفير فرص السكن الآدمي الكريم لعموم أبناء هذا الشعب. الخلاصة أننا في مصر بالذات أحوج ما نكون لتأمل التجربة الصينية واستخلاص الدروس المستفادة منه. فالوقت لم يفت بعد، ولكن العاقبة ستكون أوخم مما نتصور، لو فات!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ